أخبار بديــل

قرار مجلس الامن 2803: الإدارة الدولية كأداة لفرض الهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية على قطاع غزة
قرار مجلس الامن 2803: الإدارة الدولية كأداة لفرض الهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية على قطاع غزة

يكشف قرار مجلس الامن رقم 2803، الذي اعتمد في 17 تشرين الثاني 2025، عن النفاق البنيوي الممنهج داخل النظام الدولي في ترسيخ هيمنة المنظومة الاستعمارية الاسرائيلية. فالقرار المستند الى خطة ترامب المكونة من 20 نقطة المرفقة به، يعيد تصوير واقع غزة بوصفها مشكلة إدارية وامنية، متجاهلاً الإبادة الجماعية المستمرة، وسياسات التجويع، والدمار الواسع، بالإضافة الى عقود من الحكم الاستعماري الاستيطاني. وبدلا من محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم يمحو القرار هذه الجرائم ويمنح الشرعية للجهات ذاتها التي ارتكبتها. يضع القرار المستقبل السياسي والاقتصادي والأمني لغزة تحت السيطرة المباشرة للولايات المتحدة، الحليف الأقوى للمنظومة الإسرائيلية، مقدماً هذه السيطرة على انها "مرحلة انتقالية". ان ما يسمى ب إعادة الاعمار هنا ليس الا شكلاً جديداً من انكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، عبر تثبيت نمط اخر من أنماط الهيمنة الدولية على حياة الفلسطينيين.

 

في مقدمته، يصور القرار قطاع غزة كـ “تهديد للسلم والامن الإقليميين"، مستخدماً لغة استعمارية تُحمل الفلسطينيين مسؤولية عدم الاستقرار في المنطقة. وتقدم نزع السلاح ومراقبة الحدود وإزالة الأسلحة بوصفها أولويات، بينما يُعامل الإبادة الجماعية في قطاع غزة كأنها لم تكن او كما لو كانت مجرد مسألة إدارة امنية. وعلى الرغم من الرفض القاطع الفلسطيني لهذا المنهج، احتفت بالقرار عدة دول، بما فيها معظم الدول العربية.وقد رفضت جميع الفصائل الفلسطينية هذا الشكل من السيطرة الأجنبية على مستقبل فلسطين؛ بينما وحدها السلطة الفلسطينية، الخاضعة سياسياً ومالياً، ايدت هذا المقترح.

 

لطالما فرضت القوى الخارجية "حلولا" على فلسطين دون ارادتها، فقد منح وعد بلفور عام 1917 وطناً قومياً لليهود على ارض فلسطين، ممهداً لقرن كامل من السيطرة والهيمنة الأجنبية، مروراً الى صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم عام 1922، تحت واضعا فلسطين تحت السيطرة البريطانية، ولاحقاً خطة التقسيم الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1947، والتي أسست لعملية طويلة الأمد من نزع ملكية الفلسطينيين وتهجيرهم قسراً، وسرقة أراضيهم وممتلكاتهم، واعادة تشكيل التركيب الديمغرافي، وحرمانهم من حقهم في تقرير المصير. وقد شكلت هذه الأدوات وسائل رسخت قيام المشروع الاستعماري الإسرائيلي فعلياً عام 1948، وهو وضع يفتقر الشرعية بموجب القانون الدولي.

 

وتعززت هذه الاليات عبر الأطر الدبلوماسية الحديثة، بما في ذلك ما يسمى بـ "صفقة القرن" و "اعلان نيويورك"، اللذان يعملان بشكل عملي كبنى لإلغاء وجود الفلسطينيين كشعب وارض. ويأتي القرار 2803 امتداداً لهذه السوابق، مسخراً لغة القانون الدولي لتبرير الهيمنة الاستعمارية ومتنكرا للحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني.

 

ان مصادقة مجلس الامن على هذه الخطة تتجاوز صلاحياته وفق ميثاق الأمم المتحدة، الذي يحصر دوره في حل النزاعات وفقاً للقانون الدولي. اما فرض سيطرة استعمارية اجنبية تنتهك حق الفلسطينيين في تقرير المصير، فيجعل القرار غير شرعي وباطلاً قانونياً. ويعكس ذلك النمط المستمر منذ قرن كامل، حيث عملت السلطات الخارجية على اخضاع الحقوق الفلسطينية لخدمة مصالح اجنبية، بدءاً من تطبيق عصبة الأمم لوعد بلفور وصولاً الى سياسات الهيمنة الحالية.

 

في صلب القرار يقع ما يسمى مجلس السلام وهو هيئة رقابية مفروضة من الخارج يرأسها دونالد ترامب بصفته مهندس الخطة، ليتحكم في مصير غزة وتنميتها وتوجهها السياسي. ولا يختلف هذا المجلس السلام عن سلطة انتداب حديثة، اذ ينكر حق الفلسطينيين في تقرير المصير، بينما يمنح الشرعية ويوسع الطابع الدولي للمشروع الاستعماري. وبموجبه تتحول عملية إعادة الإعمار الى مشروع تكنوقراطي مصممًا لإعادة كتابة التاريخ، ومحو الإبادة الجماعية، وإعادة صياغة الهيمنة الاستعمارية على أنها "مرحلة انتقالية". والولايات المتحدة، التي استخدمت حق النقض مرارًا لمنع أي تحرك للأمم المتحدة لوقف الجرائم الإسرائيلية والإبادة الجماعية المستمرة، أصبحت الآن على رأس هذه الإدارة الأجنبية، بما يعزز دورها كطرف مشارك في نزع ملكية الفلسطينيين وتهجيرهم قسراً.

 

ويمتد هذا التحكم ليشمل المساعدات الإنسانية، التي يعاد بلورتها كأداة للسلطة الأجنبية. فالقرار يمنح مجلس السلام، تحت الإدارة الأمريكية، سلطة توزيع المساعدات والإشراف عليها، ما يجعل الولايات المتحدة الجهة الوحيدة المتحكمة في هذه العملية. على الرغم من ذكره التعاون مع وكالات الأمم المتحدة والصليب الأحمر والهلال الأحمر، إلا أن القرار يستبعد بالكامل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الادنى (الأونروا). ويعد تهميش الأونروا، جزءاً من محاولة ممنهجة لإعادة كتابة تاريخ اللاجئين الفلسطينيين، والتغطية على الجرائم الإسرائيلية المستمرة، واستخدام المساعدات كسلاح، كما حدث سابقًا مع منظمة غزة الإنسانية المدعومة من الولايات المتحدة. وهكذا، تُصبح المساعدات الإنسانية، في هذا الإطار، آليةً للابتزاز السياسي والسيطرة، بدلًا من أن تكون استجابة للحقوق الفلسطينية، مما يُرسّخ "السيادة" الإسرائيلية والهيمنة الاستعمارية على فلسطين بحدوها الانتدابية.

 

كما يعزز القرار السيطرة الأجنبية على الأرض عبر قوة الاستقرار الدولية، اذ تعمل بالتنسيق مع المنظومة الإسرائيلية ومصر وقوات فلسطينية مُدرّبة أمريكيًا. وهي تُوسع نموذج "التنسيق الأمني" في الضفة الغربية، بل وتتجاوزه، من خلال تحويل أمن المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية الى مسؤولية دولية، بما يضمن بصورة ممنهجة أولوية مصالحها الاستعمارية على حساب الحقوق الفلسطينية. كما يُشترط انسحاب القوات الإسرائيلية بمعايير لـ"نزع السلاح" غامضة وقابلة للتأويل، يجري تحديدها مع قوة الاستقرار الدولية والولايات المتحدة و"الجهات الضامنة"، وبما يترك للمنظومة الإسرائيلية السلطة النهائية للحكم على مدى امتثال الفلسطينيين. وسيستمر وجود "قوات امنية" الى ان تُعلن غزة "آمنة تمامًا من أي تهديد إرهابي مُتجدد"، وهو معيار فضفاض وغير محدد، يعمق ترسيخ الهيمنة الاستعمارية. كما تُكلّف قوة الاستقرار الدولية بفرض نزع السلاح وتفكيك الفصائل الفلسطينية المسلحة، أي قمع المقاومة فعلياً. ومن خلال السيطرة على الحدود والتنقل ونزع السلاح، تبقى الحياة الداخلية في غزة خاضعة لسيطرة الشرطة الخارجية.

 

تُضفي خطة ترامب المرفقة طابعًا رسميًا على هذه الاجراءات، وتجعل اتفاق وقف إطلاق النار مشروطًا بالامتثال لها. فرغم ان ولاية قوة الاستقرار الدولية تنتهي في 31 كانون الأول 2027، إلا أنها "خاضعة لمزيد من الإجراءات من جانب المجلس"، مما يجعل السيطرة الخارجية امراً قابلاً للتمديد بسهولة. ان هذا لا يعد أمنًا، بل امتداد للهيمنة الاستعمارية من خلال وسطاء دوليين.

 

كما يُنشئ القرار صندوقًا ائتمانياً تابعًا للبنك الدولي، ويولي المانحين صلاحية إعادة إعمار، إضافة الى استدراج تمويل قائم على التطوع والتبرعات، مما يُحوّل غزة إلى سوق للمصالح والاستثمارات الدولية. وتُصبح إعادة الإعمار مشروطة مالياً، فتستبدل الحق في جبر الضرر وإنهاء الاستعمار ورفع الحصار بنظام يخدم أجندات الدول والمؤسسات. ويتم حصر دور الفلسطينيين في دور شكلي – دور المتلقي- ليس لهم الا ان يديروا الخدمات اليومية بتوجيه منظومة هي نفسها تجردهم وتسلبهم حقوقهم وممتلكاتهم.

 

تقدم الدول العربية التي دعمت القرار باعتباره إنجازاً دبلوماسياً أو خطوة نحو "إقامة الدولة". لكن الواقع ان ما يفعله القرار هو تحويل قطاع غزة إلى "مشكلة عربية"، ونقل المسؤولية بعيداً عن الأمم المتحدة والقوى الاستعمارية الغربية المتواطئة، ويمنح الشرعية للسيطرة الخارجية. وإلى جانب تكريس الفصل الجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال هذا القرار، حول ما يُسمى بـ "المسار نحو الدولة الفلسطينية" الحقوق غير القابلة للتصرف الى قضايا مشروطة بإصلاحات السلطة الفلسطينية، والموافقة الخارجية، والامتثال للمطالب الأمريكية الإسرائيلية. وبالإضافة الى ذلك، فإن هذا "المسار" الذي تقوده الولايات المتحدة، لن ينشئ تفاوضاً حقيقياً؛ بل مجرد وعد بإطلاق حوار شكلي بين النظام الإسرائيلي وممثلين فلسطينيين غير محددين لمناقشة أفق سياسي "للتعايش" وليس لحل سياسي. إن هذه العملية مُصممة لخدمة مصالح الدول، وليس حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف.

 

ان القرار 2803 ليس خطة لتعافي غزة، بل مخطط لإدارة شؤون الفلسطينيين من خلال سلطة أجنبية ووصاية استعمارية، وهو محاولة لمحو الإبادة الجماعية من الذاكرة العالمية، وترسيخ منظومة الاستعمار والفصل العنصري الاسرائيلي تحت إطار دولي. هذا القرار ليس خطوة نحو "السلام"، بل هو هيمنة استعمارية يُعاد صياغتها تحت مسمى الإدارة الدولية. وبموجب القانون الدولي، فإن الشعوب المحرومة من حقها في تقرير المصير تمتلك الحق في مقاومة الحكم الأجنبي، بما في ذلك الكفاح المسلح، كما تلتزم الدول بدعم النضالات المشروعة للشعوب من أجل تقرير مصيرها، بما يشمل تقديم المساعدات المادية. إن أي مسار حقيقي للمضي قدمًا يتطلب رفض مثل هذه الأطر الاستعمارية، واشراك جميع الفاعلين السياسيين الفلسطينيين لضمان قدرتهم على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم وممارسة حقهم في تقرير المصير بشكل فعلي وحقيقي.