أخبار بديــل

من النقب الى الضفة الغربية وقطاع غزة، توظف المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية بشكل ممنهج ادواتها القانونية والبيروقراطية والعسكرية، بهدف محو الوجود الفلسطيني وإعادة تشكيل الأرض بما يخدم مشروعها الاستعماري الإحلالي. ومع تقاعس المجتمع الدولي وتواطؤه، لا تستمر الإبادة الجماعية فحسب، بل تتواصل ايضاً عمليات التوسع الاستعماري الإسرائيلي لترسيخ السيطرة والهيمنة على كامل أراضي فلسطين الانتدابية. لقد تصاعدت سياسات مصادرة الأراضي والتهجير القسري بحق التجمعات البدوية الفلسطينية، سواء من خلال مخطط برافر في النقب، او من خلال خطة الحسم، حيث تعمق المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية ركائز التهجير القسري والاستعمار والفصل العنصري، امام انظار هذه الدول المتواطئة والعاجزة. وبغض النظر عن مكان إقامة السكان الفلسطينيين او الوضع القانوني المفروض عليهم من قبل المنظومة الإسرائيلية، فان الهدف الاستراتيجي لهذه المنظومة واحد: السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين.
فلسطين 1948: النقب والبدو الفلسطينيون من حملة الجنسية الإسرائيلية
يشهد الفلسطينيون في مختلف مناطق فلسطين عام 1948، تصاعداً في عمليات الهدم التي تنفذها المنظومة الإسرائيلية في العديد من المدن والبلدات. وقد تفاقمت سياسة التهجير القسري بحق الفلسطينيين بشكل ملحوظ، خاصة في جنوب النقب، نتيجة ازدياد عمليات الهدم للمنشآت الفلسطينية، حيث يقيم ما يقارب من 300 ألف فلسطيني.
قبل عام 1948، كان التنقل الموسمي للبدو الفلسطينيين عبر أراضيهم امرا طبيعيا، ولم تكن المفاهيم الاستعمارية للملكية الخاصة قد سجّلت رسميا بعد. وخلال نكبة عام 1948 وبعدها، اقتلع البدو الفلسطينيون في النقب قسراً على يد منظومة الاستعمار والفصل العنصري الإسرائيلي التي أُنشئت حديثاً، اذ استخدم غياب التسجيل القانوني لإراضيهم كذريعة لاعتبارهم "بلا أرض". وبينما أصبح الكثيرون لاجئين، تعرض آخرون للتهجير داخلياً، واجبروا على العيش في سبع بلدات "معترف بها" انشأتها المنظومة الاستعمارية، و35 قرية وتجمعا "غير معترف بها"، وحرموا من ممارسة أسلوب حياتهم ذات الطابع البدوي. اما من بقوا، فقد حصلوا على الجنسية الإسرائيلية، وهي مكانة دنيا بموجب قانون الجنسية الإسرائيلي العنصري، حيث يواجهون باستمرار تهديد سحبها، بالإضافة الى تجريدهم من أراضيهم ومنعهم من العودة اليها.
يعيش اليوم نحو 90 ألف فلسطيني في القرى الـ 35 “غير المعترف بها”، محرومين من الكهرباء والماء والتعليم والرعاية الصحية، ضمن بيئة قهرية متعمدة. حيث شكل مخطط برافر الإسرائيلي لعام 2012 نموذجًا للهيمنة الاستعمارية وسرقة الأراضي، إذ اقترح هدم عشرات القرى غير المعترف بها، وتهجير 40 ألف فلسطيني قسرًا إلى بلدات أخرى. ورغم تعليق تنفيذه مؤقتاً، واصلت المنظومة الإسرائيلية إصدار آلاف أوامر الهدم، وغالبًا مع إلزام الفلسطينيين بهدم منازلهم بأيديهم تحت ذريعة "عدم وجود تراخيص" وبموجب القوانين التميزية للتخطيط والتنظيم. كما واصلت "سلطة تطوير وتوطين البدو في النقب"، باعتبارها أداة استعمارية، تنفيذ هذه السياسات عبر "الخطة الاستراتيجية لتنظيم النقب 2019"، والتي تهدف الى تهجير 37 ألف فلسطيني قسرًا من القرى المصنّفة "غير القانونية المتناثرة"، بالإضافة الى مصادرة أكثر من 260 ألف دونم من أراضيهم.
وتبين جميع هذه الإجراءات أنها إعادة تطبيق لكل من مخطط برافر والخطة الاستراتيجية معاً، فقد شهدت منطقة النقب في عام 2024 ارتفاعًا حاداُ في عمليات الهدم بنسبة 400%. في 4 حزيران 2025، هُدم 15 منزلًا في قرية عرب المسك الفلسطينية "غير المعترف بها"، مما أدى الى تهجير 100 فلسطيني، لتتواصل بعد ذلك عمليات الهدم في قرية السر "غير المعترف بها" ايضاً، الواقعة على مشارف بلدة شقيب السلام، احدى البلدات التي اقامتها المنظومة الاسرائيلية. ويعكس ذلك استمرارية سياسات التهجير القسري والسلب والسيطرة الاستعمارية، من خلال قوانين التخطيط والتقسيم التمييزية، ومكانة الاعتراف المفروضة، بغضّ النظر عما إذا كانوا فلسطينيين يحملون الجنسية الإسرائيلية ام لا.
الضفة الغربية: التجزئة والتهجير القسري
يقيم اليوم ما يقارب 40 ألف لاجئ بدوي فلسطيني، كثير منهم من المهجّرين قسرًا من النقب خلال نكبة 1948 وبعدها، في المناطق المصنفة "ج" وضمن ما يسمى بـ “القدس الكبرى" في الضفة الغربية. وتعتمد البنية التحتية والسكن والوصول الى الخدمات الأساسية على تصاريح نادرًا ما تُمنح، مما يرسخ حالة من الضعف المزمن، ويعمق نظام الفصل العنصري، في إطار بيئة قهرية تهدف إلى تمهيد الطريق لمزيد من التهجير القسري.
صرّح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش مؤخرًا عن إعادة تفعيل خطة البناء E1 التي تعود إلى عام 1999، مؤكدًا على انها "ستدفن فكرة الدولة الفلسطينية". وقد تمت المصادقة على بناء مستعمرة E1 في 20 آب 2025، مما يعكس الطموح للتوسع الاستعماري الوارد فيما يُسمى بخطة الحسم لسموتريتش، القائمة على تصعيد ممنهج للتهجير القسري وفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية. ان مشروع ممر E1، حيث يقيم جزء كبير من التجمعات البدوية الفلسطينية واللاجئين، لا يعد مجرد موقع للتهجير والاقصاء، بل يشكل ركيزة اساسية في سياسة المنظومة الإسرائيلية الهادفة إلى تجزئة الضفة الغربية بشكل دائم عن طريق تقسيمها إلى نصفين.
ويظهر التطهير العرقي الأخير لقرية المغير في منطقة رام الله، بوضوح أن هذا المخطط يُنفَّذ على الارض بكامل قوته. اذ تعد هذه القرية آخر تجمّع فلسطيني قائم على "طريق ألون" شرق رام الله، بعد ان هجرت سبع تجمعات مجاورة قسراً خلال السنوات الثلاث الماضية، تنفيذًا للخطة طويلة الامد لربط مستعمرات "حزام رام الله" بمستعمرة E1. ومن المقرر أن تربط مستعمرة E1 بين المستعمرات في الاغوار الشمالية والقدس، وأن تفصل بيت لحم عن رام الله وأريحا، بما يخلق سلسلة متصلة من المستعمرات الإسرائيلية.
وفي 29 آذار 2025، صادقت المنظومة الإسرائيلية على المراحل النهائية لما يُسمى "طريق نسيج الحياة"، والذي سيؤدي فعليا الى فصل القدس بالكامل عن الضفة الغربية. وسيفاقم هذا المشروع تقطيع اوصال الضفة الغربية جغرافياً، ويضاعف خطر التهجير القسري الذي يهدد 18 تجمعًا بدويًا فلسطينيًا في المنطقة الممتدة بين القدس وأريحا، من خلال عمليات الهدم الجارية لشق هذا الطريق.
منذ 7 تشرين الأول 2023، تصاعدت سياسة التهجير القسري وعمليات الهدم وقطع الموارد، بما في ذلك حرمان قرية أم الخير من المياه الجارية. وفي الفترة بين كانون الثاني 2024 وحزيران 2025، هُجّر 5,498 فلسطينيًا نتيجة 2684 عملية هدم نفذتها المنظومة الإسرائيلية في الضفة الغربية، بما فيها القدس، دون احتساب من هُجّروا جراء "عملية الجدار الحديدي".
يعد استشهاد رجل بدوي فلسطيني في قرية ام الخير على يد أحد المستعمرين الإسرائيليين مثالًا واضحًا على تصاعد هجمات المستعمرين في الضفة الغربية. فمنذ كانون الثاني 2024، تم تهجير 1,133 فلسطينيًا في الضفة الغربية نتيجة هجمات المستعمرين. ورغم محاولات التعتيم المتعمدة، فإن التحريض والتسليح والحماية والإفلات من العقاب الممنوحة للمستعمرين الإسرائيليين، تؤكد بوضوح أن دورهم يشكّل سياسة راسخة في منظومة الاستعمار والفصل العنصري الإسرائيلي. وفي قرية عين أيوب، أدت هذه الهجمات إلى تهجير سكانها بالكامل قسريًا، لتصبح القرية التاسعة التي تُطهّر عرقيًا في محافظة رام الله منذ كانون الثاني 2023.
يشكل التشرذم الجغرافي والاجتماعي للبدو الفلسطينيين، الذي تفرضه المنظومة الإسرائيلية بشكل ممنهج من خلال قوانين التخطيط والتقسيم التمييزية، والتجزئة الجغرافية المستمرة منذ النكبة، وضعًا يضع هذه المجتمعات في مواجهة مباشرة مع منظومة الفصل العنصري والهيمنة الاستعمارية. إذ يؤدي تفكيك الروابط العائلية والعشائرية إلى عزل المدن والمجتمعات البدوية الفلسطينية عن بعضها البعض، ما يزيد من الضغوط الناتجة عن هجمات المستعمرين ومداهمات القوات الإسرائيلية، بالإضافة الى مواجهتهم الان خطط المنظومة الإسرائيلية لفصل الضفة الغربية بشكل أكبر.
الاستعمار، الفصل العنصري، ومحو الوجود الفلسطيني
في الواقع، يمهّد التهجير القسري وتفريغ هذه المجتمعات من السكان الطريق لفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية. وبينما تواصل الدول المتواطئة الاكتفاء بالتصريحات الشكلية حول الاعتراف بحل الدولتين، الذي ترفضه المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية رفضاً قاطعاً، فإنها تسهل هذا التهجير القسري بتجاهلها الوفاء بالتزاماتها الدولية بفرض العقوبات. وأيضاً من خلال تقاعسها، تمنح هذه الدول الضوء الأخضر للمنظومة الإسرائيلية لمواصلة إعمال سياساتها ما يتسبب في استمرار نكبة الشعب الفلسطيني، بغضّ النظر عن مكان إقامتهم الحالي في فلسطين الانتدابية.
يتزامن التهجير القسري للتجمعات البدوية واللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية والنقب مع الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة وخطط تهجير الفلسطينيين قسراً من قطاع غزة. وتشكل هذه السياسات مجتمعة استراتيجية متكاملة للسيطرة والهيمنة ضمن منظومة استعمار وفصل عنصري واحدة، تهدف في نهاية المطاف إلى ارتكاب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. وتظهر هذه الجرائم المترابطة عقم المساءلة الجزئية أو الانتقائية: فالمنظومة الإسرائيلية بأسرها يجب أن تواجه عقوبات دولية شاملة وعزلة كاملة حتى يتم تفكيكها.