أخبار بديــل

لقد لعبت الدول دورًا حاسمًا في استمرار حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة. فقد أتاح تواطؤ الدول للمنظومة الاستعمارية الإسرائيلية ارتكاب جرائم دولية في غزة، بينما رسخت الأفعال الاستعراضية للدول، إلى جانب تقاعسها، ووسّعت دائرة الإفلات الإسرائيلي من العقاب. أما الاجراءات الرمزية، مثل الاعتراف الشكلي بدولة فلسطين، أو فرض عقوبات انتقائية على بعض الأفراد، ليست الا وسيلة لشراء الوقت لاستمرار الإبادة الجماعية، والتهرب من الالتزامات المتمثلة باتخاذ اجراءات حقيقية ومباشرة ذات أثر ملموس. إن الحد الأدنى من التزامات الدول يتمثل في فرض عقوبات شاملة دبلوماسية واقتصادية وعسكرية على المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية، لإنهاء الإبادة الجماعية ومحاسبتها على جرائمها الدولية المستمرة.
الإبادة الجماعية في قطاع غزة مستمرة منذ 23 شهراً، وأدت الى استشهاد 62 ألف فلسطيني، وتهجير أكثر من 1.9 مليون فلسطيني قسراً مرات عدة، فيما يواجه كامل السكان خطر المجاعة. وإن الحاجة إلى تدخل حاسم قد تأخر كثيرًا. ومع ذلك، ما زال خطاب الدول وتصريحاتها الشكلية يشكلان جوهر "تحركاتها" منذ بداية الإبادة وحتى اليوم، حتى في ظل إعلان رئيس وزراء المنظومة الإسرائيلية، صراحةً عن خطط لاحتلال قطاع غزة وتهجير سكانه إلى خارجه قسرًا.
ما زالت أفعال الولايات المتحدة الأكثر تأثيرًا على الإطلاق. فبينما حافظت هذه الأعمال على قدرة المنظومة الإسرائيلية على ارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، من خلال تسليحها ودعمها سياسياً، فقد ساهمت أيضًا في استدامة الإبادة الجماعية من خلال تقديمها للوعود الزائفة، وشلّ المجتمع الدولي عن اتخاذ إجراءات حقيقية. فقامت بالتمظهر بدور الوسيط، متظاهرة بأنها طرف محايد لا شأن له بالإبادة، ومروّجة لفكرة أن وقف إطلاق النار وشيك وقريب الحدوث، ودفعت بمبادرة "مؤسسة غزة الإنسانية" باعتبارها "الحل" لحملة التجويع التي شاركت بنفسها بصناعتها. كما عملت الولايات المتحدة على عرقلة التدابير والاجراءات الدولية، مستخدمة حق نقض الفيتو كسلاح، ومهددة الدول مثل جنوب افريقيا، التي تفي بالتزاماتها القانونية بموجب القانون الدولي لإنهاء الإبادة الجماعية. كل ذلك يشكّل جزءًا من الهيكلية التي تمكن المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية من الاستمرار في ارتكاب جرائمها الدولية في قطاع غزة دون أية مساءلة او عقاب.
قامت بعض الدول بتقديم سلسلة من الإجراءات الفارغة والرمزية، بدلًا من الوفاء بالتزاماتها: فالاتحاد الأوروبي اكتفى بـ “مراجعة" اتفاقية الشراكة بينه وبين إسرائيل لا بتعليقها، وقام بفرض عقوبات على أفراد إسرائيليين بدلًا من استهداف المنظومة الاسرائيلية نفسها، وأقدم على خطوات رمزية مثل مشروع قانون حظر استيراد البضائع الذي اقترحته أيرلندا، والذي يحظر فقط المنتجات القادمة من المستعمرات الإسرائيلية، دون استهداف كامل المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية. هذه الإجراءات ليست في الغالب عديمة الجدوى فحسب، بل تغطي ايضاً على فشل الدول باتخاذ الإجراءات المباشرة والملموسة، وتعمل على تشتيت حركة التضامن الدولية مع فلسطين وتهدئتها.
كما تستخدم الدول الاعتراف بدولة فلسطينية كأداة لتشتيت انتباه الرأي العام، والتملص من التزاماتها القانونية، والتغطية على تواطؤها ايضاً. فقد أعلنت فرنسا ومالطا وكندا وأستراليا نيتها الاعتراف بدولة فلسطينية خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول القادم 2025. وفي ذات الوقت، تستخدم المملكة المتحدة الاعتراف بالدولة الفلسطينية كورقة مساومة، تهدد بالقيام به في حال لم توافق المنظومة الإسرائيلية على وقف إطلاق النار في غزة. إن الاعتراف بدولة على الورق وشبه وهمية لا يضع حدًا للإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة، ولا يضمن الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني؛ بل يمثل تلاعباً سياسياً قائماً على استدامة الإبادة الجماعية عبر نقاشات وتصريحات ومؤتمرات فارغة ومستهلكة للوقت حول "حل الدولتين"، بدلًا من التركيز على إنهاء الإبادة الجماعية والجرائم الإسرائيلية المستمرة، ولإفلاتها المستمر من العقاب.
ان هذا النمط جزء من سياسة متعمدة تتبعه الدول لإظهار صورة مزيفة من التحرك. ففي شباط 2024، وأثناء استعداد المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية بدء عمليتها العسكرية واسعة النطاق على رفح، اكتفى الاتحاد الأوروبي بـ "مطالبة" المنظومة الإسرائيلية بعدم تصعيد "عملها العسكري في رفح". وقد أثبتت بيانات الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء أنها بلا جدوى في نهاية المطاف، إذ لم ترافقها أي إجراءات ملموسة ومباشرة لوقف هذه العملية، في الوقت الذي تواصل فيه المنظومة الإسرائيلية باجتياحها وتدميرها لرفح بلا توقف. واليوم، غزة في مواجهة خطة إسرائيلية صريحة وواضحة لاستعمارها، ويعود الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء من جديد لإطلاق مناشدات وتصريحات فارغة تطالب المنظومة الإسرائيلية بـ “التراجع الفوري عن هذا القرار وعدم تنفيذه."
إن مثل هذه التصريحات، الصادرة عن القوى ذاتها التي تقوم بتسليح المنظومة الاستعمارية وتحميها، هي محاولات متعمدة لإخفاء الحقيقة والتهرب من التزاماتها القانونية، المتمثلة باتخاذ الاجراءات اللازمة لوقف الإبادة الجماعية والامتناع عن التواطؤ فيها. فهذه الدول ليست دولاً محايدة بلا نفوذ أو قوة سياسية، بل لها دور تجاوز حدود الامتناع والتواطؤ، إلى المشاركة الفعلية في الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة. إن المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية لا تتحرك في الفراغ، فاستمرار قدرتها على ارتكاب الإبادة الجماعية واستمرارها لا يتحقق إلا بفضل ما تقدمه هذه الدول من أسلحة وغطاء دبلوماسي.
ومع استمرار المنظومة الإسرائيلية في تصعيد جرائمها، تحاول الدول المتواطئة، مثل ألمانيا، النأي بنفسها عن حرب الإبادة. الا أن إعلانها بوقف تزويد المنظومة الإسرائيلية بالأسلحة المخصصة لاستخدامها في غزة، لا يمحو 23 شهرًا من التواطؤ العسكري والسياسي، ولا يرقى إطلاقًا إلى مستوى الوفاء بالتزاماتها لوقف الإبادة الجماعية. فأي إجراء يقل عن فرض عقوبات شاملة يعدّ غير كافٍ، ويمكّن المنظومة الإسرائيلية من الاستمرار في ارتكاب الإبادة والجرائم الدولية ضد الشعب الفلسطيني.
كما لم تتخذ الدول أي إجراءات جدية عدا عن إصدار بيانات وإدانات شكلية ضد سياسة التجويع التي تفرضها المنظومة الإسرائيلية في غزة، او ضد أنشطة مؤسسة غزة الإنسانية، او ضد تفكيك واستبدال نظام الإغاثة الإنسانية التابع للأمم المتحدة في القطاع. وعلى صعيد الخطابات، تجنبت هذه الدول الاعتراف بحقيقة ان التجويع في قطاع غزة متعمد ومصنع اسرائيلياً، ورفضت ايضاً استخدام مصطلح "المجاعة"، وتقوم بإضفاء توصيف بمصطلح منزوع البعد السياسي عنه تحت مسمى "أزمة إنسانية". ومنذ أشهر، أطلقت عدة دول تحذيرات وهددت باتخاذ اجراءات ردًا على هذه الأوضاع، لكن لم تتبع ذلك أي خطوات ملموسة. ان هذا الامتناع عن اتخاذ الإجراءات يساعد من استمرارية سياسة حرمان الفلسطينيين في غزة من المساعدات الإنسانية والاحتياجات الأساسية اللازمة للبقاء على قيد الحياة، ويرسخ استمرارية الإبادة وبقائها على واقعها الحالي.
وبما أن النكبة مستمرة منذ 77 عامًا، والإبادة الجماعية مستمرة منذ 23 شهرًا، فلا جدال في أن "تحركات" الدول السابقة والحالية عديمة الجدوى وغير كافية لإنهاء الجرائم الإسرائيلية المستمرة. يجب على الدول أن توقف تقديم الدعم العسكري والدبلوماسي غير المشروط للمنظومة الاستعمارية الإسرائيلية، وأن تكف عن فرض حلولاً سياسية غير مرغوبة على الشعب الفلسطيني. وللالتزام بواجباتها بموجب القانون الدولي، بما يشمل التزاماتها باتفاقية منع الإبادة الجماعية، يجب على الدول أن تتخذ إجراءات حاسمة وواضحة ومباشرة، تشمل بالحد الادنى فرض العقوبات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية على المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية.