أخبار بديــل
تقدّمت المنظومة الإسرائيلية، في آذار2025، بدليل جديد لتسجيل المنظمات غير الحكومية العاملة في فلسطين الانتدابية، سواء الدولية أو المحلية، يفرض عليها متطلبات صارمة تتعلق بالتسجيل ورفعها للتقارير. وقد تم اعداد هذا الدليل تحت ذرائع الشفافية والأمن، لكنها في جوهرها تُستخدم كسلاح بيروقراطي لتقييد ومراقبة وإسكات الجهات الفاعلة في مجالات الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان، خصوصاً تلك التي تُوجّه انتقادات للسياسات الإسرائيلية غير القانونية والجرائم المستمرة التي ترتكبها، لا سيما في الأرض الفلسطينية المحتلة. تعد أحكام هذا الدليل محاولة مدروسة لتقليص الحضور الدولي في فلسطين على نطاق أوسع، وذلك تمهيداً للقضاء عليه كليا. كما أنها لا تعد مجرد إجراء تنظيمي إداري، بل تمثل فرضًا للسيادة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، مما يمكّن المنظومة الإسرائيلية من مواصلة مشروعها الاستعماري في كامل فلسطين الانتدابية.
تنص أحكام الدليل الجديدعلى إلزام جميع المنظمات غير الحكومية الدولية التي تعمل في المناطق الخاضعة لسيطرة المنظومة الإسرائيلية — بما في ذلك الضفة الغربية وشرق القدس وقطاع غزة — بالتسجيل لدى "وزارة العدل" الإسرائيلية. وتتولى "وزارة شؤون الشتات" الإشراف على هذه العملية، والتي أنشأت بدورها لجنة وزارية مشتركة تضم مسؤولين من عدة وكالات استخباراتية وأمنية إسرائيلية. ووفقًا لبيان صادر مؤخرًا عن "وزارة شؤون الشتات" الإسرائيلية، فإن نحو 170 منظمة دولية مسجلة حاليًا في إسرائيل — من بينها منظمات مثل أوكسفام، وأطباء بلا حدود، والمجلس النرويجي للاجئين — سيكون أمامها ستة أشهر فقط لإعادة التقديم للتسجيل ضمن النظام الجديد، وإلا فسيتم إلغاء تسجيلها، مع منحها 7 أيام فقط للطعن على القرار. وقد أدانت ما لا يقل عن 55 منظمة تعمل في مجالات الإغاثة الإنسانية والتنمية وحقوق الإنسان هذه الاجراءات، واعتبرتها جزءًا من نمط متصاعد من القمع القانوني السلطوي.
تُلزم عملية التسجيل المنظمات غير الحكومية الدولية بتقديم معلومات تفصيلية عن موظفيها، ومصادر تمويلها، وشركائها، وأنشطتها ايضاً. وفي حال عدم الالتزام، تواجه هذه المنظمات خطر الغاء تسجيلها، وحرمان موظفيها من تصاريح/تأشيرات الدخول لاماكن عملها، وتجميد أصولها، إضافة الى تحميل موظفيها وشركائها — سواء الدوليين أو الفلسطينيين — مسؤولية جنائية. يتضمن هذا القانون أحكاما ومعايير سياسية بعيدة المدى تتصل بعملية التسجيل، بما يخلق أرضية لرفض الطلبات أو شطب التسجيل، منها:
- الادعاء بـ“نزع الشرعية" عن المنظومة الإسرائيلية، أو دعم آليات المساءلة القانونية كالتحقيقات التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية.
- الدعم العلني لحملات المقاطعة من قِبل أي موظف، أو شريك، أو عضو مجلس إدارة، أو عضو مؤسس خلال السبع سنوات الماضية.
- إنكار "وجود إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية" حتى وإن صدر هذا الموقف في وقت سابق في الماضي من قِبل أي موظف أو شريك، أو عضو مجلس إدارة، أو عضو مؤسس.
- عدم الامتثال لمتطلبات تقديم التقارير الداخلية المفصلّة، والتي يجب أن تشمل قوائم كاملة بالموظفين والشركاء، مع تفاصيل الاتصال وأرقام الهوية.
وعلى الرغم من أن هذه أحكام هذا الدليل تطبق شكلياً على جميع المنظمات، إلا أنها تستهدف بشكل واضح وكالات الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والإغاثة الإنسانية، بالإضافة الى شركائها من المؤسسات الفلسطينية. وبمعنى آخر، فإن أي منظمة دولية توثّق الانتهاكات الإسرائيلية، أو تدعم المساءلة القانونية، أو تلتزم بالقانون الدولي والمعايير والمبادئ المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني، كليًا أو جزئيًا، ستكون مهددة بإلغاء تسجيلها، ما يجعل وجودها وعملها غير قانونيين بموجب هذا القانون الجديد. كما ان تعطيل وعرقلة عمل هذه المنظمات سيؤثر مباشرة على شراكاتها مع المؤسسات الفلسطينية، من خلال ايقاف البرامج المشتركة وقطع التمويل الدولي عنها.
تزعم المنظومة الاستعمارية الاسرائيلية أن هذه الإجراءات تهدف إلى منع إساءة استخدام الغطاء الإنساني من قبل جهات تقوّض الدولة. الا ان الواقع يُظهر ان الأحكام الجديدة تُكرّس جهودًا سياسية مستمرة منذ زمن طويل تهدف إلى إسكات الشهادات الإنسانية، وعرقلة جهود الإغاثة، تحديدًا في المناطق التي تشهد انتهاكات إسرائيلية جسيمة. ومن خلال ربط تسجيل المؤسسات بالامتثال السياسي، تُجبر المنظومة الإسرائيلية المنظمات غير الحكومية الدولية على الاختيار بين الالتزام بمتطلبات الدليل أو توقفها عن أداء عملها.
وتعد أحكام التسجيل هذه الأحدث في سلسلة طويلة من القوانين والسياسات التي تهدف الى تقليص الوجود الدولي في فلسطين، وبالتالي تقويض عمل شركائهم من المؤسسات الفلسطينية واستهدافهم بصورة غير مباشرة. فقد عملت المنظومة الإسرائيلية تاريخيًا، على رفض منح التأشيرات لممثلي آليات الأمم المتحدة الخاصة (مثل المقررين الخاصين ولجان التحقيق)، وقامت ايضاً بشيطنة الأونروا وحظر عملها، وتسعى حاليا لاستبدال نظام الأمم المتحدة لتوزيع المساعدات الإنسانية بآلية وهياكل مخصخصة وعسكرية الطابع، بالإضافة الى محاولاتها لفرض ضرائب على التمويل الأجنبي للمنظمات.
وتماشيًا مع ما يُسمى بـ "خطة الحسم"، تسعى المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية إلى فرض "سيادتها"، وتحويل جميع القضايا والحقوق المتعلقة بالشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في الحماية الدولية، إلى "شؤون داخلية إسرائيلية". ويُشكّل ذلك خطوة إضافية نحو ترسيخ الهيمنة الاستعمارية على مزيد من أراضي فلسطين الانتدابية.
ان السماح للمنظومة الإسرائيلية بفرض سيادتها على الأراضي الفلسطينية من خلال التحكم في دخول وعمل المنظمات الدولية، يُعد شكلًا اضافياً من أشكال تواطؤ الدول في الجرائم الإسرائيلية، وإخفاقًا في الوفاء بالتزاماتهم بموجب القانون الدولي. وعليه، لا تقتصر مسؤولية الدول على الإدانة العلنية لأحكام دليل التسجيل ورفضها، بل يجب عليها اتخاذ اجراءات ملموسة تشمل فرض مجموعة كاملة من العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية على المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية.