بقلم: رئبال الكردي*

لقد أضحى الواقع العربي مسرحاً واقعياً لا يحتاج إلى تلك اللمسات الفنية من ذلك الكاتب او من ذلك المخرج. ولم يعد هناك حاجة لذلك الممثل؛ هذا لأن الواقع العربي بالفعل قد اضحى واقعا حقيقيا يحمل مشاهد خرجت من إرادة شعب من خلال وقائع كتبتها شعوب عاشت الذل والاضطهاد والحرمان. فالمسرح أصبح تلك الحارات وذاك الشارع وهذا الميدان، التي تحمل جميعاً، مشاهد لها جمهورها المشارك والمتابع بمثابرة للمشهد الذي بدأ العرض المسرحي من خلاله دون أن يحمل أي عنوان، ودون توجيه  الدعوات كذلك، ودون أي خاتمة لذلك العرض؛ حتى لم يتبق الكثيرً ليظهر أبطال العرض ليختموا عملهم ويغلقوا خشبة المسرح أمام الجمهور تحت طائلة المسؤولية، وتحت مسمى القانون الملتحف بمظاهر الدين والتدين.

المسرح هو ذلك الفن الادائي الذي يعمل على تجسيد وترجمة وقائع ونصوصا مسرحية باعتباره وسيلة للتعبير، ولكن السؤال هو: هل المسرح ما زال وسيلة التعبير عن ذلك الواقع أمام ما جلبته او تضمنته ثورات "الربيع العربي" من تغيرات؟

المسرح كان وسيلة لطرح أفكار ووقائع، لم يكن المشاهد يمتلك القدرة على قولها والتعبير عنها في بعض الأوقات. فكان المسرح هو من يشكل اللسان الناطق بلسان الشعوب للتعبير عما يدور بتلك العقول من تساؤلات حول إشكالات العدل، ونهايات الاضطهاد، وسبل المطالبة بالتغيير والتطوير والإصلاح...الخ. اليوم جاء التعديل والتغيير وبلغ حدا جعل الشارع العربي مسرحاً مفتوحاً لهذا المشاهد، وليس مفتوحاً للمشاهدة، بقدر ما هو مفتوح للتعبير عن واقعه وحقوقه دون أي خطر أو رادع سياسي، أو حكومي، أو حزبي. هذا ما خلق ذلك البعد بين المسرح الواقعي والمسرح الأدائي الفني، نتيجة أن المشاهد العربي، وصاحب الربيع العربي، أصبح يرى الواقع الحياتي من منطق القريب الذي منحه المشاركة في تفعيل حرية التعبير من خط اللقاء وليس فقط من مقاعد المشاهدين.

وبالرغم من أن المشاهد العربي ابتعد بشكل أو بآخر عن مقاعد المشاهدين، إلا أن هذا الابتعاد لن يطول ولكنه سيعود من أجل التعرف ومشاهدة المسرح للتعرف على تلك الخاتمة لذلك الواقع. وهذا مصدره أن الثورات العربية وضعت عنوانا، ولكنها لم تصل إلى تلك الخاتمة التي تحوي الموعود  والمأمول من الحلول لكافة العقد التي طرحت عبر مسرح الواقع. وبالتالي هذا يوجه البوصلة مرة أخرى للمسرح الأدائي وخصوصاً المسرح الذي يطرح القضايا السياسية والذي يطرح بدوره أفكار كتبها الشعب، ولكن لم يستطع أن يصل لنهاية المشهد معها.  ومن وجهة نظر مسرحية بعض الشيئ، يبدو أن المسرح عائد من اجل ترسيخ مبادئ الثورات العربية، ومن أجل توطيد فكرة حرية التعبير، بالرغم من وجود أبطال حضروا في نهاية العرض، وبدأوا بالتكفير والتضييق على حرية الفن وحرية التعبير عن الرأي عبر المسرح أو من خلال الفنون الأدائية تحت طائلة الدين.  ومع ذلك أرى أن المسرح أمسى لغة ديمقراطية تعبيرية تمس  واقعا مريرا وقضايا مجتمعية تعيشها الشعوب العربية منذ زمن لن يتوقف أمام كل محاولات ووسائل التضييق. فالمسرح سرعان ما سيستعيد دوره باعتباره هو نفسه كحقل فني او كوسيلة نتاج فنيً يعبر عن الرفض ومنادي بالعدالة والحرية عبر العروض- المواضيع المسرحية والفنون الأدائية.

لقد شهدت بعض الدول العربية ثورات عربية مطالبة بالتعديل والتغيير. وفعلاً حملت هذه الثورات بين طياتها التعديل والتغيير، ولكن حتى وقتنا هذا لم نشهد ذلك التطوير، بل ما نسمعه عبر القنوات الإعلامية او ما يقرأ عبر الأقلام التي تكتب رسالة ذلك الواقع على العكس من ذلك. فأصبحنا نشاهد ونلمس أنماط تقييد جديدة تستند الى مفاهيم وآليات إضطهاد "مستحدثة". ولكن يلاحظ هنا ان هذا التقييد أدى فعليا على أرض الواقع إلى تفعيل مجموعة من العروض المسرحية التي تتحدث وتذكر "أصحاب السيادة والسياسة" الجدد بأن حرية التعبير والمطالبة بالعدالة الإنسانية، هي حق لهذه الشعوب، وهي واجبة على تلك الحكومات وليس منحة من ذلك السيد صاحب الفخامة او السمو، أو معالي ذلك الوزير.

في دولنا العربية التي لم يصلها الربيع، ولكن وصلتها بعض الرياح من تلك الثورات، نجد انه قد غلب على الطابع الفني والأدائي فيها مشاهد من التجربة العربية أو ذلك المشهد الحقيقي التي عاشته الشعوب العربية أثناء وقفتها للربيع العربي ضمن قالب مسرحي فني. ففي فلسطين، كانت أغلبية العروض المسرحية والفنية تحمل بين طياتها بعدا سياسيا يطالب بحقوقه المشروعة ويعبر عن قضاياه وواقعه "المائل" مع استخلاص مجموعة من العبر والمشاهد التي عاشتها دول الربيع العربي.

والسؤال، بالعودة إلى مسرح الواقع الحالي، أو ما يعرف بالربيع العربي هو: هل الجمهور العربي الذي رفض الجلوس على مقاعد المشاهدين لحضور المسرحية وأصر على المشاركة في كتابة وإخراج وتمثيل مسرح عربي واقعي حقيقي ولم يعد يقنعه ما كان يؤدى فنيا؛ قادر على دفع  ذلك القائد العربي للتنازل أو قادر على إقصائه عن دور البطولة- اذا لزم الأمر- ليترك خشبة المسرح للشعب، كل الشعب،  ليقرر مصيره، ويمارس حريته، ويتمتع بحقوقه؟

لا بد أن الجواب في القادم من حصاد لما يعرف بالربيع العربي.

------------

*رئبال الكردي: محام فلسطيني وناشط مسرحي، لاجئ يقيم في مخيم عايدة للاجئين الفلسطينيين- بيت لحم.