حق العودة من البازار السياسي الى المنهجية القانونية

خلال مؤتمر عُقد في القدس قبل عشر سنوات بمناسبة الذكرى الخمسين للنكبة؛ أتيحت لي الفرصة للالتقاء بممثلين عن مركز بديل في المؤتمر. كانت سنتان قد انقضت من عمرنا كائتلاف حق العودة في الدانمرك، ومنذ الدقائق الأولى وجدتُ أن لدينا الكثير من القواسم المشتركة والاتفاق حول مركزية قضية حق العودة وضرورة العمل من أجل هذه القضية. تتوج هذا اللقاء بزيارة مكتب مركز بديل في بيت لحم برفقة نشطاء فلسطينيين من ألمانيا، السويد وفلسطينيين من داخل الخط الأخضر، وقد تم خلال تلك الزيارة وضع وترسيخ القاعدة المشتركة للتعاون. بعد عامين من ذلك، وتحديدا قبيل انطلاقة الانتفاضة الثانية بيوم واحد؛ قمنا بالمشاركة بفعالية في اللقاء التنسيقي الأول للمؤسسات الفاعلة في ميدان الدفاع عن حق العودة وذلك في قبرص، حيث التقى ناشطون فلسطينيون من أربع قارات للنقاش والتداول في واحدة من أهم القضايا الأساسية للصراع، ألا وهي قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى ديارهم الأصلية.


لقد كان أحد الأسباب الرئيسية لمعالجة هذه المسألة هي عبارة واحدة وردت في إتفاقيات أوسلو وتتعلق بالطريقة التي تم عرض قضية اللاجئين فيها، حيث اوردت أن الاطراف سيقومون بمناقشة قضية اللاجئين في المرحلة النهائية من الاتفاق الانتقالي، وهي صيغة غير واضحة وغامضة جدا. الآن، وبعد أربعة عشر عاما على اتفاقية أوسلو، فإن المكانة غير الواضحة والغامضة لقضية اللاجئين لا زالت سائدة في الاتفاقيات المختلفة. وخصوصا عند قراءة وثيقة جنيف، أو التصريحات السياسية المختلفة من قبل القلائل الذين جاؤوا بتفسيرات مختلفة للكلمتين المشهورتين: "حق العودة". لقد كان القاسم المشترك بين هذه التفسيرات هو غياب المنهجية المستندة للقانون، ومن المعروف أنه قد تم تعليق اجتماعات اللجنة الرباعية المكونة من ممثلين عن إسرائيل، الأردن، فلسطين ومصر بعد عدة اجتماعات، حيث لم تتمكن هذه اللجنة من الاتفاق على تعريف "من هو اللاجئ؟" وإذا كان تحديد من هو اللاجئ الفلسطيني عبارة عن أحجية بالنسبة للجنة الرباعية للاجئين؛ فإنني سأشير هنا إلى عدد من التلميحات المختصرة للدور الحيوي الذي لعبته مؤسسة بديل في تمهيد الأرضية لرؤية إستراتيجية وسياسية بديلة، تم بناءها على أساس البحث والتوثيق المكثف، وعبر عشرات التقارير، التحليلات، الكتب والوثائق، والأفلام، وفوق كل ذلك تقديم المنهجية العالمية القائمة على أساس الحقوق من أجل معالجة جامعة لكل الإشكاليات المتعلقة بحقوق اللاجئين. من وجهة نظري؛ لعب مركز بديل هنا دورا هاما في التحول الجذري نحو هذا النموذج؛ من حيث نقل مسألة حقوق اللاجئين من البازار السياسي إلى المنهجية القانونية التي تضع القضية برمتها في إطار آخر لا علاقة له بميزان القوى ولا بذكاء فرق التفاوض المختلفة، بشأن كيفية الحديث بصوت جهور فيما يتصل بقضايا اللاجئين المختلفة. وقد انتشر هذا المنهج مثل الفطر بين المنظمات غير الحكومية الدولية على امتداد العالم، وبالتالي ليس غريبا أن نسمع احد السياسيين الإسرائيليين في أيام أوسلو يقول: "من أي مكان في الجحيم يأت حق العودة هذا!"

لقد دشّن بديل العديد من المؤتمرات الدولية في عواصم أوروبية مختلفة، وذلك بمشاركة قانونيين بارزين، محللين، ساسة دوليين فاعلين، خبراء قانونيين وشخصيات قيادية كان لها تجارب في كل من جنوب أفريقيا، البوسنة وقبرص؛ وقد لعبت جميع هذه المؤتمرات والندوات الدولية، ولا زالت، تلعب دورا رئيسيا في تحديد وتعريف نموذج جديد للمجتمع المدني وماذا يعني؟ وبالرغم من انتشار عشرات آلاف المنظمات غير الحكومية على امتداد العالم العربي؛ فإن القليل منها يمتلك مثل هذا النفوذ والقوة في عملها. فمؤسسة بديل هي واحدة من بين المنظمات الفلسطينية غير الحكومية التي تمتلك مصداقية الاستدامة، والحكم الرشيد، الشفافية المقرونة بالمهنية العالية والتفاني.

في الحقيقة، كنت مندهشا عندما كنت أبحث عن مكتب بديل في بيت لحم في العام 1998 لأجد هذه المؤسسة في مكتب متواضع جدا، والذي يحتاج غالبا إلى خارطة خاصة للوصول له، وطاقم الموظفين الذي قابلناه كان أقل من عدد أصابع اليد الواحدة. ومع ذلك؛ فإن نشاط هؤلاء الأفراد المعدودين أصبح معروفا على نطاق عالمي، ومع الوثائق الضخمة، والموقع الإلكتروني المنظم، ودورية المجدل باللغة الانجليزية، والخبراء، وجريدة حق العودة باللغة العربية؛ وهذه فقط أمثلة قليلة. إن مؤسسة بديل هي مثال للمؤسسات غير الحكومية الجديدة التي يجب منحها الثقة لتكون نموذجا لمئات وآلاف المنظمات غير الحكومية، وخاصة في فلسطين؛ حيث أن منظمات مجتمع مدني قوية ومستقلة هي التي تشكل الضمانة الوحيدة للحفاظ على حقوق المواطنين، وبخاصة حقوق اللاجئين الفلسطينيين المحرومين والمقتلعين، والذين يمثلون حالة اللجوء الأطول في تاريخنا الحديث، سواء على مستوى الحجم والزمن؛ ستة عقود من الشتات لستة ملايين إنسان، وقضية بهذا الحجم والمدى الزمن يجب أن تكون كفيلة أكثر من اللازم لتحريك النظام الدولي للتفكير بحكمة وشمولية للفت الانتباه لأسباب جميع الحروب التي جرت في المنطقة خلال الستة عقود الأخيرة.

أحد الجوانب اللافتة الأخرى لمركز بديل، والتي أرى من واجبي ذكرها علنا؛ وهي تنظيم الزيارات الدولية لكل من جنوب أفريقيا، البوسنة والهرسك وقبرص. وقد كنت واحدا من بين العشرات من بين نشطاء الائتلاف الفلسطيني لحق العودة وشركائه، الذي شاركوا في هذه التجربة الفريدة، والتي أعطتني مع زملائي حصيلة ضخمة وغنية من خلال التعلم من التجارب العالمية للآخرين؛ حيث يمكن للمرء أن يدرك إلى أي حد يمكن أن يكون المرء فقيرا وضعيفا، ومع ذلك لديه الإرادة والإصرار على انتزاع حقوقه، وهذا ما يمثل القوة الأعظم في الوجود، إنها قوة المنطق ضد منطق القوة، وإنها تقدم لنا البرهان بأنه مهما كانت تعقيدات قضية اللاجئين، ومهما يطول الزمن الذي تستغرقه؛ فإن هناك إمكانية لإيجاد حلول مستدامة لقضايا اللاجئين. صحيح إن التطبيق لم يكن مثاليا في عدد من الأماكن التي قمنا بزيارتها، ولكن المنهج القانوني الذي اتبعته المنظمات الدولية؛ مثل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين وغيرها، قد أوجد الأرضية الصلبة لحل المشكلات في حقبة ما بعد الأبارتهايد الذي سيطر على جنوب أفريقيا لعدة قرون من الزمن، كما أظهر نفس المنهج الإمكانية لمعالجة مشكلة اللاجئين في قبرص التي امتدت لأربعة عقود من الزمن؛ وذلك من خلال الخطط المختلفة التي تقدم بها كوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، وكذلك التطبيق الناجح لعودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية في البوسنة والهرسك. وقد تعلم اللاجئون الفلسطينيون الدروس من تجارب الآخرين بأن إمكانية الوصول لاتفاق دائم هي أقل كلفة أكثر بكثير من كل الحروب التي لا طائل منها ومن الخطابات الهادفة لتجاوز حقوق اللاجئين.

ربما يوجد نقطتان رئيسيتان يتوجب أخذهما بالحسبان بالنسبة لبديل وللشركاء العالميين للائتلاف الفلسطيني لحق العودة، وهما: وجوب التوجه للنساء وإشراكهن بشكل مكثف في حركة العودة، والنقطة الثانية التي تحتاج الاهتمام من وجهة نظري، هي: كيفية إشراك العرب ومنظماتهم غير الحكومية بتنوعها لتصبح منخرطة أكثر في حركة العودة؛ وهذا تحدي لنا جميعا من أجل تحويل هذا الائتلاف إلى حركة أكثر شعبية مع مشاركة فعالة للآلاف الراغبين في المساهمة في دعم ومعالجة هذه القضية العادلة.

في النهاية؛ أود القول أن كل ما تم القيام به، على الرغم من حيويته وضخامته، فإن طريق تحقيق الحقوق غير القابلة للتصرف للاجئين الفلسطينيين لا زالت معبدة بالصعوبات والتحديات. ولكن؛ مع الكونفدرالية الاولوبية لحق العودة، ومجموعة عائدون، ومع شركاء حق العودة في الولايات المتحدة وأمريكيا اللاتينية، ومع حركة حق عودة المهجرين داخل الخط الاخضر، ومع مركز بديل كمحرك للائتلاف، ومع اللاجئين أنفسهم الذين شرعوا في حركة العودة منذ اليوم الأول لتهجيرهم في عام 1948، ومع اليهود الإسرائيليين الذين شاركوا في ثلاثة مؤتمرات لحق العودة في فلسطين، ومع أصدقائنا الدوليين على امتداد العالم؛ مع كل هؤلاء جنبا إلى جنب، يمكننا تحقيق أهدافنا الإنسانية في استعادة كرامتنا، ومطلق حقوقنا الأساسية وفقا لكل المعاهدات الدولية ومواثيق حقوق الإنسان وأحكام القانون الدولي.

وأخيرا؛ أود أن أكرر ما قاله كاتب الدراما التراجيدي "يوريبايدس" في أثينا القديمة قبل أكثر من ألفي عام: "ليس هناك قدر أعظم من الحزن على الأرض أكثر من فقدان المرء لأرضه الأصلية" (Euripides، 430 قبل الميلاد).

_______________

د. محمود عيسى هو مستشار المركز الدانماركي للأبحاث النسوية والجندر KVINFO  وهو ناشط ومن مؤسسي لجان الدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين في أوروبا. لعيسى العديد من الأبحاث والمقالات حول اللاجئين وحق العودة.