أخبار بديــل

بعد أكثر من خمسة عشر شهراً من الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة، تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار الذي طال انتظاره وتأخيره بلا داع. وفي حين أن هذا الاتفاق يضع نهاية للقصف الإسرائيلي المتواصل، فإن حجم الدمار والخراب الذي ألحقته المنظومة الإسرائيلية عمداً في قطاع غزة هائلاً، ويتطلب أكثر من مجرد وقف لإطلاق النار وتبادل للأسرى. اما على مستوى الضفة الغربية، فإن التوسع الاستعماري الإسرائيلي ليس مستمرا فقط، بل يتصاعد الى مستويات جديدة.
إن وقف إطلاق النار لا يمثل سوى الحد الأدنى من الالتزام الدولي في مواجهة نظام استعمار وفصل عنصري يرتكب الإبادة الجماعية، بل يقع على عاتق الدول والأمم المتحدة اتخاذ تدابير ملموسة لمعالجة الأسباب الجذرية التي أدت إلى الإبادة الجماعية، ومحاسبة المنظومة الإسرائيلية على جرائمها، وحماية الأونروا وحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، ودعمه أخلاقياً وسياسياً ومادياً في نضاله الى التحرر.
إن حقيقة أن المنظومة الإسرائيلية ارتكبت إبادة جماعية في قطاع غزة لمدة 471 يوماً دون هوادة تعكس فشل الدول في الوفاء بالتزاماتها غير القابلة للجدل بموجب "اتفاقية الإبادة الجماعية" لضمان منع الإبادة الجماعية ووقفها وتجنب التواطؤ فيها. إن قدرة منظومة الاستعمار والفصل العنصري الإسرائيلية على الاستمرار في ارتكاب الجرائم الدولية تنبع من فشل الدول في الاعتراف بالأسباب الجذرية لنظام الهيمنة الذي تتبعه هذه المنظومة، ناهيك عن مواجهتها. إن الإبادة الجماعية في قطاع غزة لم تكن استثناءً، بل استمرارا وتصعيدا لنمط استعماري وتهجير قسري وفصل عنصري يتواصل منذ 76 عام.
إن عواقب الإبادة الجماعية مفجعة، فقد حولت المنظومة الإسرائيلية أحياء كاملة إلى أنقاض، وقتلت أكثر من 46,600 فلسطيني، وألحق إصابات بأكثر من 110 آلاف، وهجرت 1.9 مليون شخص قسراً. إن البنية التحتية في قطاع غزة، بما في ذلك العديد من المنازل والأحياء والمستشفيات والمدارس والخدمات الأساسية، أصبحت في حالة خراب، مما يترك السكان – في حال عدم التدخل فورا وبشكل كاف - في حالة من الموت البطيء نتيجة للظروف المعيشية التي صممتها المنظومة الاستعمارية.
لقد وفرت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، والتي بدأت في 19 يناير 2025، فرصة للنجاة من الإبادة الجماعية. وفي حال تم تنفيذ الاتفاق بالكامل، فإن وقف إطلاق النار سيضمن دخول المساعدات الإنسانية والخدمات والإمدادات الأساسية إلى قطاع غزة، وسيقوض في نهاية المطاف أهداف المنظومة الإسرائيلية لتجزئة قطاع غزة وإنشاء المستعمرات والتطهير العرقي للسكان الفلسطينيين. مع ذلك، فإن تحقيق هذه النتائج يتطلب إرادة سياسية حقيقية واتخاذ تدابير ملموسة من الدول للضغط على المنظومة الاستعمارية للالتزام بالاتفاق بعد الانتهاء من المرحلة الأولى.
يتضمن أحد المكونات الرئيسية لاتفاق وقف إطلاق النار أحكاماً لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى السكان وتسليم الإمدادات الأساسية إلى المستشفيات وتحسين البنى التحتية الحيوية الأخرى. ولكي يتم الحفاظ على شروط الاتفاق ووقف الإبادة الجماعية ومعالجة الظروف المعيشية التي صممتها المنظومة الإسرائيلية لتدمير الفلسطينيين، فمن الأهمية بمكان أن تحمي الدول الأونروا وتمكنها من أداء دورها. فالأونروا ــ باعتبارها الوكالة التابعة للأمم المتحدة الأكثر جهوزية والمفوضة لتقديم المساعدات والخدمات ــ هي شريان الحياة للفلسطينيين المهجرين والجوعى والمصابين والمحاصرين في قطاع غزة. إن حماية الوكالة تتطلب تزويدها بالدعم السياسي والمالي والفني لضمان إدارتها لتقديم المساعدات وإعادة الإعمار في غزة. علاوة على ذلك، يتعين على الدول أن تتخذ تدابير عملية للضغط على المنظومة الإسرائيلية لإلغاء قوانينها التي تحظر عمل الوكالة، كتنفيذ حظر على الأسلحة، وتجميد أصول "إسرائيل" ومؤسساتها، وطرد الدبلوماسيين والمسؤولين الإسرائيليين.
من الجدير بالذكر أن وقف إطلاق النار يشمل أيضا تبادلا للأسرى، والذي سيشهد إطلاق سراح حوالي 1900 أسير فلسطيني من المعتقلات والسجون الإسرائيلية خلال المرحلة الأولى. في العشرين من يناير/كانون الثاني 2025، وكجزء من اتفاق وقف إطلاق النار، تم إطلاق سراح 90 أسيراً/ة فلسطينياً/ة في الساعات الأولى من الصباح، ولكن بحلول نهاية اليوم نفسه، كانت المنظومة الإسرائيلية قد اعتقلت 64 آخرين. ومع توقف القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، كثفت المنظومة الإسرائيلية من الاقتحامات والهجمات في الضفة الغربية، مع تجديد حملة قمعها في مخيم جنين مما أسفر عن استشهاد 12 فلسطينياً. إن القمع الإسرائيلي آخذ في التصاعد من خلال الاعتقالات التعسفية الجماعية والاحتجاز، وهجمات المستعمرين، ومصادرة الأراضي، وزيادة عمليات إغلاق الحواجز بين المدن والقرى في جميع أنحاء الضفة الغربية.
إن اتفاق وقف إطلاق النار ليس سوى نقطة بداية في التصدي للجرائم والانتهاكات الإسرائيلية. وهذا يتطلب أكثر من مجرد تقديم المساعدات وإعادة البناء، فكل دولة ملزمة بعزل ومحاسبة المنظومة الإسرائيلية على جرائمها الدولية، ودعم إنهاء الاستعمار في فلسطين. هذا يشمل أيضاً فرض عقوبات عسكرية وسياسية واقتصادية على "إسرائيل" والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاستعمار بكل الوسائل المشروعة، بما في ذلك الكفاح المسلح، وحماية وضمان حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف – بما في ذلك حماية الأونروا - حتى تنفيذ القرار 194.
من الضروري أن تحافظ حركات التضامن العالمي مع فلسطين على تصعيد أعمالها الموجهة للضغط على الحكومات لإنهاء تواطؤها في الإبادة الجماعية الإسرائيلية والجرائم الدولية. كما يجب على القطاعات الخاصة والأكاديمية والرياضية قطع علاقاتها مع المنظومة الإسرائيلية والجهات المتواطئة معها.
تحقيق وقف إطلاق النار لا يعني التوقف عن إعلاء الصوت للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، بل يجب أن يستمر حتى يتمكن من ممارسة حقوقه غير القابلة للتصرف - بما في ذلك حق العودة وتقرير المصير - وتفكيك منظومة الاستعمار والفصل العنصري الإسرائيلية.
مقاومة حتى التحرير والعودة