تحرير المساعدات الخارجية المقدمة للمجتمع المدني الفلسطيني من ماهيتها الاستعمارية
بقلم: توفيق حدّاد
تثير الدعوة إلى إنهاء دور المساعدات الخارجية في استعمار المجتمع المدني الفلسطيني سلسلة من المسائل البنيوية التي تستدعي المعالجة قبل التطرق إلى ممارساتها العملية وإجراءات عملها.
لا بد من التسليم، بادئ ذي بدء، بأن المساعدات الخارجية التي تقدم للمجتمع المدني الفلسطيني شكّلت على مدى تاريخها نسبة لم تتجاوز 20 إلى 25 في المائة من مجموع المساعدات التي وُجهت إلى الأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 1993. فمعظم المساعدات الخارجية التي تصل إلى الأرض الفلسطينية المحتلة لا توجَّه في الواقع إلى المجتمع المدني الفلسطيني مباشرة، وإنما تُرسل من خلال لجنة الاتصال المخصصة، التي تمثل آلية التنسيق المشتركة بين الدول المانحة بموجب عملية أوسلو.
وتحدد
هذه المجموعة، التي تضم البلدان المانحة الخمس عشرة التي تتبوأ موقع
الصدارة على غيرها، أولويات تدفق المساعدات الموجهة لغايات التنمية في
الأرض الفلسطينية المحتلة ومحدداتها وحجمها مرتين في السنة. وتُعَدّ
منظومة الأمم المتحدة والسلطة الفلسطينية أكبر المستفيدين من تدفق هذه
المساعدات.
سوّغت الدول المانحة الرئيسية تدخلاتها في الماضي، وبررتها «بدعم عملية السلام الجارية بين إسرائيل والفلسطينيين»، ثم مساندة أنشطة «إحلال السلام» (في الفترة الممتدة بين العامين 1993 و2000)، ثم «إصلاح السلطة الفلسطينية» (في الفترة الواقعة بين العامين 2000 و2005)، ومؤخرًا «بناء الدولة» (بين العامين 2006 و2012). الّا أن واجهة «فعل الخير» التي اكتستها المساعدات الخارجية انهارت اليوم، وما عاد ثمة أساس عريض للعمل الذي تؤديه الدول المانحة.
وطالما حامت الشبهات حول الأساس الذي يستند إليه نشاط المانحين وثارت الإشكاليات بسببه، حسبما تجلّى ذلك مرارًا وتكرارًا على مدى السنوات الثلاثين المنصرمة. ففي أعقاب قمة كامب ديفيد التي انعقدت في شهر حزيران/يونيو 2000، أنحت الدول المانحة الرئيسية باللائمة على رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات بسبب فشل المفاوضات، حيث احتجّت بأن «فساد السلطة الفلسطينية» - وليس الانتهاكات التي ما فتئت إسرائيل توقِعها على القانون الدولي على مدى تاريخها - هو ما أفضى إلى انهيار المحادثات.
كما دأبت الدول المانحة على غضّ الطرف عما تقْدم عليه إسرائيل من الانتقائية في تنفيذ اتفاقيات أوسلو وتسريع وتيرة بناء المستعمرات في شتى أرجاء الأرض الفلسطينية المحتلة. وعلى الرغم من أن مجموع تعداد المستعمرين تضاعف في الفترة الممتدة بين العامين 1993 و2000، لم تفرض هذه الدول أي عقوبات أو جزاءات على إسرائيل.
وقد تبدّى تحيّز الدول المانحة أكثر ما تبدّى غداة فوز حركة حماس في الانتخابات التي عُقدت في العام 2006، عندما سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تمويل انقلاب على الحكومة الجديدة وتأكدت من أن جميع الدول المانحة قد فرضت حصارًا ماليا وسياسيًا عليها. وأثبت هذا الأمر أن الدول المانحة كانت تبدي قدرًا أكبر من الاهتمام في ضمان السيطرة الحصرية التي تمارسها حركة فتح على السلطة الفلسطينية، دون أن تتوخى دعم الديموقراطية الفلسطينية وإسنادها.
وبطبيعة الحال، ضمنت هذه المناورات أن الحيز السياسي الفلسطيني والقيادة الفلسطينية ظلا ينهشهما الضعف ويعصف بهما الانقسام على الصعيدين الدولي والمحلي، مما أفسح المجال أمام إسرائيل لمواصلة اندفاعها في حملتها الاستيطانية، في ذات الوقت الذي عملت فيه على محاصرة الفلسطينيين وتفتيت عرى التواصل بينهم. أي أنه في ظل هذه الظروف، لا يمكن أن يتم تصنيف الشطر الأعظم من المساعدات التي تقدمها الدول المانحة على أنها تسهم في «حل النزاع» القائم.
إذ تجسد المساعدات الخارجية، في أحسن أحوالها، شكلًا من أشكال «إدارة النزاع»، وفي أسوئها أمرًا ينمّ عن قدر أكبر بكثير من المكر والدهاء على نحو أدى إلى إعادة تشكيل هذا النزاع وإشعاله من جديد.
لقد كانت المساعدات الخارجية ولا تزال تمثل وجهًا من وجوه التدخل في العلاقات السياسية الداخلية بين الفلسطينيين من أجل وأد طموحاتهم الديموقراطية والوطنية وتعطيلها. فمن شأن هذه التدخلات أن تعمل على تحييد الحالة السياسية الأعمّ وإبقائها على ما هي عليه، وترك الفلسطينيين في حالة من الانقسام والتبعية، على حين إعطاء الضوء الأخضر للانتهاكات التي توقعها إسرائيل على القانون الدولي.
وعلى وجه الإجمال، ينبغي وصف الشطر الأكبر من المساعدات الخارجية التي تتدفق على الأرض الفلسطينية المحتلة بأنها تشبه خليطًا سامًا من الفورمالديهايد والأفيون.
تحديد
سياق المساعدات الخارجية في الصورة الكبرى
يملك عدد ليس بالقليل من أهم الدول التي تقدم المساعدات للأرض الفلسطينية المحتلة - وخصوصًا الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا الغربية - أقوى العلاقات وأمتنها مع إسرائيل، حيث لم تنفك تقدم لها المساعدات والمزايا المالية والعسكرية والدبلوماسية التي تقوم حياتها بها منذ قيامها. ومنذ العام 1967، أسهمت الولايات المتحدة وحدها في مبلغ لا يقل عن 280 مليار دولار، خُصص في أساسه لتأمين المعونات العسكرية لإسرائيل.
وقد اضطلعت هذه المبالغ الهائلة بدور محوري في بناء قدرات الدولة الإسرائيلية الوليدة في مجاليْ الأبحاث والتنمية، حيث حولتها إلى قوة لها وزنها في صناعة التكنولوجيا العسكرية المتطورة. ونتيجةً لذلك، غدت إسرائيل من الدول الرائدة في مجال التكنولوجيا العسكرية - من قبيل تقنيات «مكافحة الإرهاب» والأمن السيبراني والأسلحة والطائرات المسيّرة والمناهج المتكاملة المستندة إلى الخوارزميات في مراقبة السكان وسلوكهم - وهي تقنيات تحظى بقيمة عالية في السوق العالمي.
وفضلًا عن ذلك، تُعَدّ إسرائيل حليفًا إستراتيجيًا بارزًا ورئيسيًا بلا منازع للولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية ومصالحها في المنطقة. وتُغفل الدول المانحة ما يوجد اليوم من توثيقات تكفي لإثبات واقع الفصل العنصري في فلسطين وتشيح ببصرها عنه، لأن هذه الدول هي من موّله في نهاية المطاف. فقد دفعت المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبالمعنى الحرفي للكلمة، ثمن منظومة الطرق المزدوجة التي أُقيمت على امتداد الضفة الغربية، لكي يتمكن المستعمرون من التنقل بحرية فيها. بل إن الدول المانحة لا تتخذ إجراءات ملموسة بحق مشاريع الأعمال التجارية والمؤسسات والجهات المانحة القائمة في المستعمرات - حتى في الحالات التي تشغّل فيها هذه الهيئات مشاريع تجاهر بعنصريتها في دولها، ولغايات يعتبرها القانون الدولي «جرائم حرب».
ويستدعي هذا الوضع توخي القدر الأدنى من الأمانة الفكرية. فالدول المانحة الرئيسية، والولايات المتحدة وأوروبا الغربية تقدم مساعدات ومزايا هائلة لإسرائيل لكي يتسنى لها أن تبقي على هيمنتها على النظام (العربي) الإقليمي والنظام المحلي (الفلسطيني).
وفي المقابل، تقدَّم مبالغ للسلطة الفلسطينية أدنى بكثير من تلك التي تقدم لإسرائيل، باعتبارها نظام حكم يتسم بالتبعية وموجّه نحو فرض الأمن في شق كبير منه، من أجل تقليص الفرص المواتية لقيام نظام ديموقراطي فلسطيني أو تحقيق الوحدة بين الفلسطينيين أو إنفاذ حقوقهم الوطنية.
وينتهي المطاف بتوجيه مبالغ زهيدة لا شأن لها من المساعدات إلى مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، على الرغم من أن هذه المبالغ لم تفتأ تتضاءل وتجفَّف منابعها في ظل الظروف السياسية المرتبطة بها، والتي تحدّ من التمويل من خلال البنود التي تنص على «مكافحة الإرهاب» و«مناهضة التحريض» أو تلك التي تعمل على لجم «النشاط المعادي للسامية» وكبحه.
وفي ضوء ما تقدم، لا يمكن عزل المساعدات الخارجية التي تقدَّم للأرض الفلسطينية المحتلة - وينبغي لها ألا تُعزل - عن مسألة المساعدات الخارجية التي توجَّه إلى إسرائيل. وفي هذا السياق، ما الذي تعنيه الدعوة إلى تحرير المساعدات الخارجية الموجهة إلى المجتمع المدني الفلسطيني من ماهيتها الاستعمارية عمليا؟ ومن أين تنشأ هذه الدعوة فعليًا؟
ليس من المستغرب أن يسمع المرء عددًا متزايدًا من الأصوات التي تبرُز من داخل أوساط المجتمع المدني الفلسطيني وتطالب بأن تسهم المساعدات التي تصل إلى الأرض الفلسطينية المحتلة، وإلى قطاع المجتمع المدني على وجه الخصوص، في تنفيذ أجندة ترمي إلى إنهاء الاستعمار وتفكيكه.
وتعني الدعوة إلى إنهاء الماهية الاستعمارية للمساعدات الخارجية ضمنًا الاعتراف بأن هذه المساعدات تشكل جانبًا من أجندة الاستعمار، سواء كان ذلك بطريق مباشر أم غير مباشر، وأنها لا تعدّ حميدة ولا نزيهة في أي حال من أحوالها. ففي الواقع، ينبغي النظر إلى الشطر الأكبر من المساعدات الخارجية باعتبارها تشكل محورًا أساسيًا من محاور «النزاع الإسرائيلي الفلسطيني»، حيث تضمن أن هذا النزاع تجري وقائعه وتدور رحاه على نحو يتماشى مع المصالح الإسرائيلية والغربية في المنطقة.
ويجب، في واقع الحال، أن تُستهل المساعي التي ترمي إلى إنهاء الماهية الاستعمارية للمساعدات الخارجية بوضع حد للمساعدات والمزايا الخارجية التي تُغدَق على إسرائيل.
فأي نقاش يتناول النهوض بتدفق المساعدات على الأرض الفلسطينية المحتلة وشروطها لا معنى له إن لم نتطرق إلى المساعدات التي تفوقها في قدرها بقدر لا يُستهان به، والتي تقدمها الدول المانحة لإسرائيل - الدولة المعتدية التي تُمعن في إخضاع أبناء الشعب الفلسطيني واستعبادهم.
ولا فائدة تُرجى كذلك من التمييز بين التمويل الذي يقدَّم لإسرائيل والتمويل الموجه إلى الأرض الفلسطينية المحتلة، بالنظر إلى أن سياسات التمويل التي تنتهجها الدول المانحة «التي تنبع الأموال منها» تجاه أي من الطرفين تتشكل في إطار علاقة احدهما بالآخر، وتكمن هذه السياسات في تعزيز المصلحة الجماعية التي تنشدها تلك الدول في تأمين الحماية لإسرائيل وضمان مكانتها على مستوى الإقليم.
وبناءً على ذلك، ينبغي النظر إلى المساعدات التي تجد طريقها بالفعل إلى الفلسطينيين - سواء كانت موجهة إلى السلطة الفلسطينية أم إلى مؤسسات المجتمع المدني - أساسًا باعتبارها مساعدات تقدَّم للطرف الضعيف في هذه المعادلة.
القضية الفلسطينية في نظر الدول المانحة
من وجهة نظر الدول المانحة، يعد تجاهل الفلسطينيين وصرف النظر عنهم تمامًا أمرًا من ضرب المستحيل، لأنهم يمثلون ما يزيد عن 50 في المائة من تعداد السكان «بين النهر والبحر» ولا ينفكون يقاومون الاستعمار والاحتلال الصهيونيين.
وفي الوقت نفسه، فلهذه الدول اعتباراتها وأجنداتها الحاسمة التي تفوق غيرها في «أهميتها» بشوط بعيد، والتي تحرص كل الحرص على ضمانها - وهي «أمن» إسرائيل بوصفها «دولة يهودية» وحليفة تنال ثقة الغرب في المنطقة. ونتيجةً لهذا الموقف، تحاول هذه الدول «شراء» القضية الفلسطينية وتحييدها من خلال المساعدات والأدوات السياساتية المرتبطة بها.
وبحكم ما تحفل به هذه الأجندة من تناقضات، ليس ثمة صيغة عامة واحدة للطريقة التي تتوخاها في تحقيق هذه الغايات وبيان تكلفتها. ولذلك، تجد الدول المانحة نفسها مضطرة بين الفينة والفينة لمراجعة سياساتها وتدفق المساعدات التي تقدمها، لكي تدير المشهد المحلي والإقليمي والدولي الذي يلفه التعقيد ولا ينفك يشهد التغيير. وهذا يفسر إلى حد كبير السياق الذي تبرز فيه الدعوة إلى تحرير المساعدات الخارجية من ماهيتها الاستعمارية التي توجَّه إلى مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني.
ومن وجهة النظر الغربية الرأسمالية، تشهد الأهمية الإستراتيجية العالمية التي تتبوأها إسرائيل تزايدًا في مقدارها، على حين تتناقص أهمية الفلسطينيين وشأنهم.
وبات هذا الواقع صحيحًا بوجه خاص بعدما شكلت الثورات العربية التي انطلقت شرارتها في العام 2011 صدمة للنظام الإقليمي وأفضت إلى سقوط الحلفاء الذين كانوا يؤيدون الغرب ويناصرونه. وصار يُنظر إلى إسرائيل بصورة متزايدة على أنها الحليف الغربي الذي ينعم بالاستقرار ويمكن الوثوق به والركون إليه، على حين كان يُنظر إلى عدد كبير من الزعماء العرب، إن لم يكن جميعهم، على أنهم في حالة تحفّها المخاطر ومعرضون لاحتمال التقلبات الثورية التي لا يمكن التكهن بها.
كما تعمل الولايات المتحدة على إعادة موضعة نفسها على مستوى المنطقة، كانسحابها من أفغانستان والعراق. وهذه السياسات التي أعيدَ توجيه مسارها، ولا سيما في أعقاب الأزمات المالية الكبرى التي عصفت بالعالم بعد العام 2008، قلصت من دائرة النفوذ التي تملكها الولايات المتحدة في المنطقة.
وشجعت الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية بدورها على إقامة تحالفات أكثر انفتاحًا بين الدول العربية وإسرائيل وعلى إضفاء طابع رسمي على هذه العلاقات التي كانت سرية من قبل ضمن اتفاقيات التطبيع، وذلك على غرار «الاتفاقيات الإبراهيمية». وندبت الدول المانحة الغربية إسرائيل وبصفة غير رسمية لكي تعمل كما لو كانت مقاولًا من الباطن لرعاية مصالح الغرب في المنطقة، حيث غدت تؤدي أدوارًا كانت تضطلع بها تحت غطاء من السرية في سابق عهدها أو كانت تتقاسمها مع الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أو كلا الأمرين معًا.
ومما يتساوى في أهميته أن نشير إلى أن الحرب المتواصلة التي اندلعت في شرق أوروبا بعدما غزت روسيا أوكرانيا قد حولت إسرائيل إلى مورّد بديل للغاز لأوروبا التي كانت تعتمد على روسيا في هذا المجال. ولهذه الغاية، وقّعت إسرائيل اتفاقية مع مصر والاتحاد الأوروبي في العام 2022 لتزويد الاتحاد الأوروبي بما نسبته 10 في المائة من الكميات التي استلمتها في وقت سابق من أنابيب الغاز الروسية.
وتيسر هذه الخلفية التي توضح تحوُّل الضغوط الدولية وديناميات القوى تفسير الأسباب التي تقف وراء إبداء قدر أقل من التسامح إزاء القضية السياسية الفلسطينية اليوم في أوساط دوائر السياسة في الولايات المتحدة وأوروبا. كما تفسّر هذه الخلفية جانبًا من الأسباب التي تبيّن بقاء الحاجة إلى تحرير المساعدات الخارجية الموجهة إلى المجتمع المدني الفلسطيني من ماهيتها الاستعمارية.
وتنبع التدابير المتزايدة التي تستهدف فرض القيود على نشاط المجتمع المدني الفلسطيني وخطابه والمساعي التي يبذلها على صعيد جمع التبرعات وضبط هذا النشاط والاستقواء عليه وقمعه أساسًا من التعصب تجاه القضية الفلسطينية برمتها. ولم يزل هذا التعصب يتنامى ويتعاظم منذ نهاية الانتفاضة الثانية ومنذ أن ترسخ الانقسام السياسي الداخلي الذي تشهده فلسطين بين حركتيْ فتح وحماس (بدءًا من العام 2007).
وقد طرأ تراجع على مكانة القضية الفلسطينية بكاملها من ناحية أهميتها السياسية بالنظر إلى أن الدول الغربية تناور في سبيل ضمان احتفاظها بالنفوذ على مستوى المنطقة وبقائه في يدها. وتشعر مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني بالآثار السلبية التي تفرزها هذه التحولات السياساتية لأن الاتجاهات الفكرية والأحزاب السياسية التي تمثلها هذه المؤسسات يُنظر إليها على أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمعارضة عملية أوسلو.
فقبل إقامة السلطة الفلسطينية، كان التواصل مع هذه المؤسسات أمرًا لا مفر منه لأنها كانت تمثل النخبة الفكرية والشبكات التنظيمية التي تقدم العديد من الخدمات الأساسية لأبناء الشعب الفلسطيني. كما كانت الدول المانحة تخشى من أن تلك المؤسسات قد تشكل تنظيمًا يناهض الاتفاقيات والسلطة الفلسطينية، في حال تهميشها.
ومع ذلك، ما عاد ينظر إلى هذه المؤسسات اليوم على أنها «تحتكر» تقديم الخدمات، حيث تغلبت السلطة الفلسطينية ووزارتها وخدماتها وتفوقت عليها في هذا الجانب في حالات عديدة - وذلك كله تحت رعاية الدول المانحة وبفضل المساعدات التي تقدمها.
وهذا يعني أن مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني - ولا سيما تلك التي تتبنى توجهات سياسية «أكثر تشددًا» - يُنظر إليها كما لو كانت تحظى بقدر أدنى من الأهمية من الناحية السياسية، أو حتى «خطيرة»، وتعدّ معرّضة بالتالي «لتحجيمها» في سياق الاستجابة لتحوّل رياح السياسة العالمية والإقليمية.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أن عددًا ليس بالقليل من المنظمات غير الحكومية الفلسطينية يُنظر إليها كما لو كانت أسيرة للشروط المسبقة التي تفرضها الدول المانحة في الجانب المالي، ويشكل استمرار وجود هذه المنظمات من الناحية الوظيفية تذكيرًا مزعجًا ومذلًا بالنظام الوحشي الذي ترعاه الدول المانحة في شتى أرجاء الأرض الفلسطينية المحتلة اليوم.
تحرير المساعدات المقدمة لفلسطين من ماهيتها الاستعمارية؟
في ضوء ما تقدم، ما الذي يمكن أو يجب فعله بخصوص هذا الوضع المشين، ولا سيما في ظل السعي الحثيث إلى «تحرير المساعدات من ماهيتها الاستعمارية»؟
لا تعد جميع المساعدات الخارجية التي تصل إلى الأرض الفلسطينية المحتلة استعمارية في أصولها. فقد شكلت القضية الفلسطينية، على مدى تاريخها، دافعًا حرك الناس من الناحية السياسية، وأفرزت تقليدًا عريقًا تمثل في المساعدات التي مُنحت لهذه القضية في إطار التضامن معها. وما دامت هذه المساعدات لها فائدتها في دعم الشعب الفلسطيني وقيادته، فقد كان من الضروري تشجيع استمرارها وتوسيع نطاقها.
ولكن الجانب الأكبر من المساعدات التي توجَّه إلى الأرض الفلسطينية المحتلة لا تقدَّم لها من باب التضامن والتكافل معها، بل هي مساعدات سياسية تكمن الغاية المتوخاة منها في تحقيق أجندة خبيثة. فالدول المانحة تسعى دون خجل ولا حياء إلى ليّ ذراع الحركة الفلسطينية من خلال الشروط السياسية التي تربط الوفاء بها بتقديم المساعدات. وينبغي وضع حد لهذه المساعي لأنه ينبغي التركيز على إخضاع إسرائيل للمساءلة والمحاسبة عن الجرائم التي تقترفها والتصدي لما يعمد المجتمع الدولي إليه من التغاضي عن هذه الجرائم الإسرائيلية وتيسير ارتكابها.
ومن شأن وقف المساعدات التي تفضّل إسرائيل وتميزها وتطبيع الممارسات الاستعمارية الإسرائيلية والصهيونية أن يفرز تأثيرًا أكثر جدوى بكثير على رفاه الفلسطينيين وحقوق الإنسان الواجبة لهم مما يؤتيه الاقتصار على زيادة كمية المساعدات أو إزالة الشروط التي تُفرض على المساعدات المقدمة لفلسطين.
وبينما يمكن، بل يجب دعم فلسطين، فإن الإجراء الذي يفوق غيره في أهميته ونجاعته يتمثل في وضع حد للوسائل التي تيسر ارتكاب الجرائم التي تفضي إلى إخضاع الفلسطينيين واستعبادهم.
فعوضًا عن إبداء التزام بكثافة التمويل - على الرغم من أنه التزام لا يمكن تجاهله - ينطوي وقف المساعدات التي تقدم لإسرائيل على قدر أكبر من التنظيم الاجتماعي والسياسي، داخل الدول المانحة نفسها بوجه خاص. وهذا يستدعي قيام حركة تستند إلى أجندات عامة ومحددة الأهداف، بحيث تسلط الضوء على مجموعة من الأطراف الفاعلة والمؤسسات والعلاقات الرئيسية وتدفق المساعدات التي تدعم الدول المانحة الجرائم الإسرائيلية من خلالها.
وتمثل التحالفات التجارية والحكومية والمدنية والثقافية القائمة بين إسرائيل ومحيطها الصهيوني في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية الجبهة الإستراتيجية الرئيسية التي تكفل وضع حد للجرائم اليومية والتاريخية التي تُقترف في فلسطين اليوم. ومن الأهمية بمكان البحث في هذه العلاقات وتحديدها ومسحها وإيلاء الأولوية لفهمها واستيعابها من أجل فضحها ومواجهتها على نحو يتسم بقدر أكبر من الفعالية والنجاعة. ويجب حشد تحالفات عريضة من الجهات الفاعلة في هذه الدول وخارجها لتأييد هذه الأجندة من أجل فرضها على حكوماتها، لأن النخب الحاكمة التي تتولى الآن الإشراف على المعونات التي يقدمها المانحون لكلا إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة لا يمكن الاعتماد عليها في تغيير سياساتها دون ممارسة ضغط فعال عليها.
وبناءً على ما تقدم، ينبغي أن يُستهل الحديث عن تحرير المساعدات التي توجَّه إلى المجتمع المدني الفلسطيني من ماهيتها الاستعمارية بإجراء نقاش جوهري أعمّ يتناول الظروف التي لا يستغني المجتمع المدني الفلسطيني عنها في وجوده ومزاولة عمله في المقام الأول. فالهيكلية الراهنة التي تحكم المساعدات التي تقدمها الدول المانحة تعمل في سياق ينطوي على استمرار الاستعمار والاحتلال والفصل العنصري، ولا يمكن أن تسهم من الناحية الواقعية أو المستدامة في تحقيق أي برنامج أهلي أو مدني في معزل عن هذا الواقع السياسي. ففي هذه الآونة، تهدف المساعدات التي تؤمّنها الدول المانحة إلى تحييد القضية الفلسطينية عن بكرة أبيها تحييدًا فعليًا، وهي تنظر إلى تهميش المجتمع المدني الفلسطيني باعتباره أمرًا لا بد منه لبلوغ هذه الغاية - وخاصة ما ينطوي عليه هذا المجتمع من مظاهر إسلاموية ويسارية يجري تأطيرها في خانة «المخربين/الارهابين». وبالنسبة لأولئك الذين لا يمكن وضعهم في هذه الخانة، تسعى المعونات التي تقدمها الدول المانحة فعليًا إلى تحويل المؤسسات الأهلية والسلطة الفلسطينية برمتها إلى جهات متعاونة أو جهات بيروقراطية وأمنية تتعاقد من الباطن مع الاحتلال.
ولا تفضي أي جهة من هذه الجهات إلى تعزيز المبادئ المدنية أو الليبرالية الأصيلة ولا الاستقرار، سواء لإسرائيل أو في أوساط المجتمع الفلسطيني. لقد أثبتت السنوات الثلاثون الماضية هذا الواقع بالفعل، بما انطوى عليه من عدد مذهل من الأرواح التي أُزهقت والأموال التي أُنفقت في سبيل دفع الثمن المترتب على أي ادعاء بخلاف ذلك.
*د. توفيق حداد: أكاديمي ومؤلف فلسطيني يركز عمله على الاقتصاد السياسي للتطوير. وهو مؤلف كتاب "فلسطين المحدودة: النيوليبرالية والقومية في الأرض المحتلة"، وهي دراسة تبحث في عمل المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة في الأرض الفلسطينية المحتلة، منذ عام 1993.