أفيون التمويل المشروط: المؤسسات القاعدية هي الحلقة الأضعف
بقلم: شذى العزة
في خضم صراعها للبقاء، تتشظّى هويّة مؤسسات المجتمع المدني بالتزامن مع سعيها في التنقيب عن مصادرٍ لم تَشُبْها عُكورة أجنداتٍ مسيّسة. رافق ذلك نشوء شكل جديد لمؤسسات قاعدية متماهية مع شروط وسياسات المموّل الدولي، وتعمل بمعزل عن مفردات التحرّر وتقرير المصير والرؤية الوطنية الفلسطينية، إذ تحولت طوعاً إلى مؤسساتِ تنفيذ، تنصاع لشروط الممول بقيودٍ زمنية وموضوعية وتقارير تفصيلية لا تتّسق مع حاجات ومصالح المجتمع المدني. يظهر ذلك جلياً في تكييف برامجها وفقاً لصيغة وإملاءات المانح "صناديق التمويل الصهيو- أمريكية والأوروبية" والركون سكوناً؛ حفاظاً على ديمومة تلك الموارد. أدى ذلك إلى انكماش مساحة عمل مؤسسات المجتمع المدني كماً و نوعاً، في ظل وجود تشريعات وإجراءات ممنهجة من جهة الاحتلال الاستعماري، والمموّلين، والجهات الحكومية (السلطة الفلسطينية). هذا بدوره أثر سلباً على مستوى أداء المجتمع المدني بأكمله، خاصة بأن الدور المنوط بالمؤسسات هو استنهاض ودعم تعزيز حقوق وصمود الشعب الفلسطيني، وتجسيد العمل السياسي – الاجتماعي، والتعبئة الشعبية، وتعزيز المشاركة والمقاومة في الحيّز الذي تنشط فيه تلك المؤسسات في المجتمع الفلسطيني.
إنّ
تقويض عمل مؤسسات المجتمع المدني يُعزى إلى تغيّرات متراكمة، تكمن في
أبعادها السوسيو- سياسية والاقتصادية منذ عملية أوسلو؛ حيث أغدقت
الأموال على الكثير من المؤسسات التي أجرت إعادة هيكلة لأجندتها؛ حتى
تتوافق وتخدم "عملية السلام"، وسياقات "ما بعد النزاع" مع مصالح
المانحين؛ ملبيّة متطلبات المرحلة. وهذا بدوره قولب البيئة المؤسساتية
والعملية الإنمائية لسياسات المساعدات الدولية المشروطة. كما وانعكست
الهيمنة الاستعمارية المتمثلة بالمشروع الصهيوني على الحقل السياسي
الفلسطيني المتمثّل بدور أجهزة السلطة الفلسطينية "الأمنية"، كآليات
تسهيل ورقابة وتفعيل للهيمنة من جانب، وبفرض مزيدٍ من القيود
والتدخلات في العمل الأهلي كما جاء في القرار بقانون رقم (7) لسنة
2021 الذي أقرّته الحكومة الفلسطينية القاضي بتعديل قانون رقم (1) عام
2000 وذلك بشأن الجمعيات الخيرية والهيئات العامة من جانب آخر. هذا
القرار الذي جاء ليشترط توافق خطة المؤسسة مع خطة الوزارة المعنيّة
ويحدّد نسبة المعاشات في موازنة المؤسسة على نحو تعسفي دون مراعاة
ماهيّة عمل كل مؤسسة. وبلا شك فإن هذا النوع من التدخلات يأتي للتحكّم
بالعمل الأهلي والمؤسسات الفلسطينية من جهة، والمحافظة على استقرار
الوضع المالي والسياسي للسلطة الفلسطينية من جهة ثانية. يشار هنا أن
هذه التشريعات الإستثنائية تخالف القانون الأساسي، خاصة في ظل غياب
المجلس التشريعي الفلسطيني.
إن هذا التحوّل الذي مسّ أهداف وأجندة المؤسسات على مدار العقود الثلاثة الماضية، محَقَ العمل السياسي الوطني، وأفضى إلى خلق معايير تقييدية من الجهات المانحة تسم النضال الفلسطيني بالإرهاب وتسعى لتجريمه، وتصنف المؤسسات بناء على رؤيتها. وإن هذه السياسات الاستعمارية الأمنية، وما يليها من تبعات هي أشد ضراوة على المؤسسات ومجتمعها المدني في تقييد حيّزه داخل الأرض الفلسطينية المستعمرة، متمثلة بالاعتقالات التعسفية، وشنّ حملات تشهير لنزع الشرعية عن تلك المنظمات التي تعزّز وتدعم صمود الشعب الفلسطيني. ولتكتمل دائرة الخناق، أمست جهات مانحة أخرى ووكالات تابعة للأمم المتحدة، تحذو حذو الوكالات الأمريكية والأوروبية بقيودٍ أكثر صرامة واتهاماتٍ بالإرهاب ومعاداة السامية، والتي تنسجم مع المنظور الصهيوني الاستعماري، وتخدم مساعيه الرامية إلى التغيير في بنية المجتمع المدني الفلسطيني، وتُشَرذم مؤسساته، في الوقت الذي تم فيه إقصاء تلك المؤسسات التي تتبنى موقفاً وطنياً ومبدئياً يرفض الانصياع لشروط الممول السياسية.
وفي ظل هذه التحديات القهرية، تبرز مؤسسات قاعدية تصارع في بقائها، ومثال ذلك مركز لاجئ، وهو مؤسسة أهلية، مقرّها مخيم عايدة للاجئين في بيت لحم، المحاط بستّة أبراج عسكرية إسرائيلية وجدار الفصل العنصري. رؤية المؤسسة منذ تأسيسها في مطلع العقد الأول من هذه الألفية، ورسالتها وبرامجها مستمدّة من هويتها الفلسطينية، والنضال من أجل العدالة والمساواة ومبادئ حقوق الإنسان، والتي على أساسها يجري العمل في المؤسسة لتعزيز الحقوق الفردية والجماعية للشعب الفلسطيني. من الناحية التنظيمية، تتشكّل المؤسسة من خمس وحدات رئيسية وهي: وحدة الصحة والبيئة، ووحدة الإعلام، ووحدة المرأة، ووحدة الثقافة والفلكلور، ووحدة الرياضة والفنون الأدائية (السرك). تعتمد المؤسسة في تمويلها الكامل على مانحين دوليين، إلّا أنه مع ازدياد تقليص حيّز الدعم باستمرار، وقطع مصادر التمويل المخصصة للمؤسسات القاعدية، وتقييدها بشرط نبذ الإرهاب، أثّر ذلك على استقرار عملها، وأدى إلى نشوء عبء تشغيلي عبر السنين. كما وأضحت سياسة البقية من المانحين ثقيلة بالتقييدات على المؤسسة.
وجد مركز لاجئ نفسه، كغيره من عشرات المؤسسات القاعدية الأخرى خاضعاً لمطالب الداعمين الدوليين (بمعزل عن الشروط الجديدة الخاصة بمكافحة الإرهاب)، مطالب تسلّلت إلى بيئته المؤسّسية وتداخلت مع الهيكل التنظيمي في مقترحات المشاريع، وآلية التنوع سواء في أعمار الموظفين، والإعاقة، والجندر، والتسلسل الوظيفي الهرمي، وذلك تبعاً لما تمليه أجندات الجهات المانحة وموافقتها على المساعدة، والتي تتطلب في المعظم محتوىً مفرغاً سياسياً ومجرداً من مفردات التحرر والعمل الوطني المقاوم، والتحديات الكامنة وراء العمل في مجتمع اللاجئين. وهنا تختزل المؤسسة تعقيد السياق والصيغة المتفق عليها في منحى يحاكي احتياج المجتمع، بتقارير سردية ومالية تنهك كاهل المؤسسة، لترفد المانحين بمعلومات مفصَّلة عن السياق المحلي وتوثق ما يتماشى مع رؤيته.
إن شعار مؤسسة لاجئ "نفكّر ونختار- لنبدع" والذي يتضمن عدداً من أسماء المخيمات الفلسطينية، يستوجب أن يحاذيه شعار الجهة المانحة في المشاريع التي تموّلها؛ حتى يقتضي ذلك عملية التوثيق والإثبات، مختزلة لحظات ومشاعر المنتفعين في صورة مع الشعار، وقوائم بأسماء المنتسبين اللاجئين ممن هم منتفعين من مشاريع الممول بتواقيعهم وأرقام هواتفهم؛ حتى يستوفي المصداقية المطلوبة. وبهذا فقد انتُزع من لاجئ شعاره؛ فلا عاد يختار أو يفكر ليبدع. بل تقمص المانح دوره وسلب منه التفكير والاختيار. وغالباً ما تَتمثل المدة الزمنية للمشاريع بفترة قصيرة لا تستقصي الهدف التغييري، وهذا ما يجعلها غير قابلة للقياس. وبذلك فإن العملية الإنمائية التي تعمل عليها المؤسسة بغية تمكين اللاجئين بقضاياهم وحقوقهم تصبح منقوصة، خاصة في حالة معالجة الأعراض، وليس التصدي الجذري للمسببات حول السبب الكامن في البنية الاستعمارية الإسرائيلية، باعتبارها العقبة الرئيسية الماثلة.
إنَ التغيرات التي طرأت في طبيعة التركيبة المؤسسية لمركز لاجئ نتجت عن تفاقم المشكلات الناجمة عن تراجع خدمات الأونروا الإغاثية، والتعليمية، والصحية للّاجئين داخل المخيمات. أدّى ذلك إلى قيام مؤسسة لاجئ وأقرانها من المؤسسات الأهلية بملء الفجوة التي خلّفتها الأونروا. فانبثاق مشروع الصحة داخل المؤسسة نتج عن احتياج مرضى الأمراض المزمنة (ارتفاع ضغط الدم والسكري) داخل مخيمات بيت لحم، وهذا المشروع يستدعي تعاون الأونروا بما يخص سهولة الوصول إلى نتائج فحوصات المرضى للمرضى ذاتهم؛ حتى يتّسنى للعاملين الصحيين في مركز لاجئ بمتابعة حالتهم الصحية. إلّا أنّ الأونروا عزفت عن التعاون في توفير أبسط الحقوق الصحية بمشاركة نتائج الفحوصات مع المرضى. كما اشترطت بأنه على المؤسسة تقديم تفصيل حول رؤيتها، وأهدافها، وأسماء مانحيها، والأسماء الرباعية لموظفيها، وذلك وفقاً لتعريفات ومتطلبات الولايات المتحدة الأمريكية؛ حتى تُسقط قواعدها لمكافحة الإرهاب على المؤسسة، وهنا نقضْ لمبادئ عمل الأونروا الإنساني المستقل والمحايد، وتحويلها إلى وكيل أمني.
وفي الآونة الأخيرة، ظهرت اشتراطات جديدة من المانحين الدوليين، تتبنّى مشروطيّة أيديولوجيّة، بفِكر وأجندة تطبيعية، تُلزم المؤسسة في تموليها بوجود شريك "إسرائيلي". وهذا ما واجهته مؤسسة لاجئ مع جامعة يورك في بريطانيا، مما أفقدها التمويل لبرنامج بيئي بعشرات آلاف الدولارات. حيث جاء البرنامج بمشروع للعمل في الزراعة كاقتصاد مقاوم وتجسيد للهوية الوطنية الفلسطينية برموزها الفلّاحية وارتباطها بالأرض، من خلال استغلال الحيازات الصغيرة بين الاكتظاظ المستفحل، على أسطح منازل اللاجئين داخل المخيمات الفلسطينية. تعود عائلات المستفيدين من المشروع إلى أصول فلاحية حُرمت من مئات الدونمات الزراعية، والتي تبعد عن قراهم الأصلية بضعة كيلومترات. يتبنّى المشروع منهج الزراعة البيئية العضوية التي تخلوا من الأوساخ الكيميائية، لكنها لا تخلوا من كيماويات غاز الاحتلال الإسرائيلي المسيل للدموع، والذي يستهدف بشكل متعمّد الحدائق على أسطح المنازل داخل المخيم، ناهيك عن حرق وحدة الزراعة المائية على سطح مركز لاجئ مرات عدة، الأمر الذي جعلها حبيسة سياج حديدي لحمايتها من ممارسات الاحتلال الممنهجة، وشركائه من المؤسسات التطبيعية في العمل المجتمعي.
اجتاح الاغتراب والعزلة مؤسسة لاجئ وأبعدها عن الكثير من مؤسسات المجتمع المدني منذ عام 2002، حينما تغلغلت شروط الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) في برامج ورؤيا المؤسسات. ومع مرور الوقت، تصاعدت وتجرأت منظمات تمويل أخرى بشكل غير مؤاتٍ على فرض شروط أكثر إذلالاً وتجريم لنضال شعبنا. هذا ما دفع المؤسسة إلى بتر مَن تلوَّث بغرغرينا التمويل المشروط من شبكة علاقاته ومقاطعته، وأضحت مساحة التقاطع مع تلك المؤسسات معدومة، وهذا بدوره انعكس على طبيعة وجود وتمثيل المؤسسة في حقول عملها داخل المجتمع المدني. إن هذا الإغتراب الذي يحفظ الكرامة جعل المؤسسة في عزلة مع البقية من أجناسها يحاربون ويعّرون من تَواطئ مع تلك الحملات الصهيو-إسرائيلية.
في ظل تلك الظروف المتراكبة، يشتبك مركز لاجئ مع جلّ الإشكاليات ويجابهها منذ عقدين من الزمن؛ إذ أن انعكاس الأبعاد المتضادة داخل المجتمع المدني الفلسطيني، والمتمثلة بانحدار الحالة الوطنية، والمكانة السياسية للقاعدة الشعبية، يجعل إنتاج المعرفة بتبني مشاريع وطنية مستدامة، تلبي حاجات عشرات الآلاف من المستفيدين، مغايراً لرؤية وأهداف الممول. وهذا سيمحق عملية تمكين الأجيال المتعاقبة بعد النكبة بحقهم في العودة وتقرير المصير، إذا لم تتم مقاومة إملاءات المانحين والاستناد إلى رؤية ذات أولوية وطنية.
إنّ تكاثر مؤسسات المجتمع المدني المتواطئة في خدمة ومصالح الجهات المانحة، يشكل خطر يهدد شبكة أمان المجتمع، وحالته الوطنية. ولمواجهة حالة التشرذم المتفشية، يستوجب على منظمات المجتمع المدني وقواعدها الشعبية التمكين المتبادل، والحدّ من تأثير القطع الممنهج للمساعدات الغربية، والتلاحم مع حركات المجتمع المدني والعدالة المجتمعية المناهضة للاستعمار في العالم. كما ويجب أن يقترن ذلك بحالة تغيير بنيوي جذري في عملية أنماط جلب التمويل، وخلق مصادر تمويل ذاتي. يتطلب هذا استحداث نهج مبتكر ومستدام للتنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والانتقال من النهج القائم على التبعية للمساعدات الخارجية إلى الاستقلال والاستدامة الذاتية بالاعتماد على الذات، والتعافي من الغرب، وإعطاء السيادة والأولية للتصورات الوطنية.
* شذى العزة: ناشطة بيئية فلسطينية. وهي حاصلة على درجة الماجستير في الدراسات البيئية عملت مديرة لوحدة الصحة والبيئة في مركز لاجئ.