كيف تتجاوب مؤسسات المجتمع المدني مع الأوضاع الراهنة
بقلم: إيلين كُتّاب
مرحلة ما قبل أوسلو - مجتمع مدني يستجيب للأولويات الوطنية والمقاومة الوطنية
في منتصف حقبة السبعينات من القرن الماضي، انتهجت الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلةً بمنظمة التحرير الفلسطينية، سياسة تقوم على إرساء دعائم الديموقراطية لحشد قطاعات عريضة من الجمهور - ولا سيما الشباب والنساء والعمال والطلبة. ولم تكن الغاية المتوخاة من هذه السياسة تنحصر في مواجهة سياسات الاستعمار الاستيطاني الصهيونية القائمة على الترحيل والتوسع والتدمير فحسب، وإنما كانت تسعى كذلك إلى حشد الجماهير وتنظيمها والوفاء باحتياجاتها العملية والإستراتيجية بناءً على الأولويات الوطنية. وشكّل هذا الأمر عملًا ثوريًا انطوى على إعادة هيكلة الحيز السياسي الفلسطيني، حيث غدا الضعف السياسي يلفّ النخبة التقليدية التي كانت تتألف من «أعيان» العائلات ومُلّاك الأراضي، فحلت محلها قيادة جديدة من عيار مختلف ضمّ نشطاء علمانيين ومتعلمين من صفوف الطبقة المتوسطة في المناطق الحضرية والتي انحدرت أصولهم من مناطق جغرافية متباينة في الأرض الفلسطينية المحتلة.[1] وشجع ذلك على ظهور موجة جديدة من المنظمات الشعبية القاعدية التي كانت ترتبط في الغالب بالفصائل السياسية التقدمية التي شكلت الشطر الأعظم من الحركة الاجتماعية الفلسطينية.[2] وضمت هذه الحركة الاجتماعية في فلسطين بين جنباتها اللجان النسوية[3] والحركات الطلابية واتحادات العمال والمتطوعين، واعتمدت هيكلية ديموقراطية ولامركزية في التواصل مع غيرها، حيث سمحت لها بالوصول إلى المواقع الجغرافية كافة.[4] وقد فرضت منهجية التنظيم هذه تحديًا جسيمًا أمام إسرائيل في سيطرتها على الشؤون الاقتصادية والسياسية الفلسطينية وأمام المساعي التي كانت تبذلها في سبيل تدمير التراث الثقافي والبنية التحتية الاقتصادية التي تملكها فلسطين.[5]
وقد
سطّرت هذه المنظمات نجاحاً في إشراك العديد من قطاعات المجتمع
الفلسطيني وشرائحه في الحياة السياسية. فقد عملت على تعزيز المقاومة
الجماعية، ورفعت مستوى الوعي بالقضايا الاجتماعية والتنمية الشاملة
وساعدت في تعميم خطاب بديل ركّز على سياق استمرار العدوان الاستعماري
وأعاد ترتيب أولويات الاحتياجات المحلية ضمن تلك الحركة الوطنية.
وكانت النساء والعمال في طليعة من عملوا على تنظيم الجماهير وحشدهم في صفوف المقاومة الشعبية، ولا سيما من خلال تقديم الخدمات في حقولٍ كالصحة والزراعة والتعليم الشعبي. وكان هذا النموذج الذي اعتُمد في تقديم الخدمات يتمحور حول الإستجابة لاحتياجات المجتمع. وكان المتطوعون والتبرعات الصغيرة التي يقدمها أفراد الجمهور والأحزاب السياسية وعدد قليل من الشركاء الدوليين من باب التضامن السياسي تحتل أهمية بالغة في دعم هذه الأنشطة والخدمات وإسنادها.
ومع مرور الوقت، شكلت هذه المنظمات رابطة عضوية مع الجماهير التي غدت تنظر إليها كما لو كانت سلطة وطنية دون أن تحمل صفة رسمية باعتبارها تضم الأوصياء عليها وممثليها في ظل غياب حكومة رسمية. وقد نشأ عن الاحترام والتقدير الكبيرين اللذين حظيت به تلك المنظمات في نظر الناس نوع من المساءلة والمحاسبة.
وأرست النشاطية الديموقراطية التي سادت في هذه الفترة الأساس الذي ارتكزت عليه الانتفاضة الأولى التي انطلقت شرارتها في العام 1987. وقد أخذت المشاركة في هذه الانتفاضة صورًا متباينة، شملت مقاطعة البضائع الإسرائيلية التي دفعت إلى تشكيل الجمعيات التعاونية الإنتاجية التي أنشأتها النساء وظهور نماذج جديدة من النشاط الاقتصادي الذي تديره الأُسر وبروز أشكال بديلة من إنتاج السوق.[6] وبينما لم يكن الخطاب النسوي قد ضربت جذوره وتأصل في لجان المرأة بعد، فهو ما فتئ يركز على حقوق المرأة باعتبارها جزءًا أصيلًا لا يتجزأ من حركة التحرر الوطني. وأفضى إغلاق المدارس والجامعات في أثناء الانتفاضة إلى تشكيل لجان التعليم في الأحياء والتي تكفلت بتعليم الطلبة تاريخ فلسطين وجغرافيتها - وهي مواضيع كانت محظورة في المنهاج الرسمي الذي قررته الإدارة المدنية الإسرائيلية (وهي في الحقيقية الإدارة العسكرية الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة في العام 1967).[7] كما أقام طلبة الجامعات أحيازًا بديلة غير رسمية عملوا على إكمال تعليمهم فيها خلال تلك الفترة.
وعملت اللجان المتخصصة في قطاعات من قبيل الصحة والزراعة على توسيع أنشطتها، حيث أنشأت وحدات الخدمات المتنقلة من أجل الارتقاء بقدرتها على الوصول إلى الجماهير. وسجلت هذه المنظمات الشعبية النجاح في الجمع بين الاعتبارات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية عبر القنوات التي كانت تقدم الخدمات من خلالها، حيث عملت على رفع مستوى الوعي السياسي في أوساط أبناء التجمعات السكانية الفلسطينية وتوطيد أركان التنمية وترسيخها باعتبارها وسيلة من وسائل التمكين وأداة من أدوات النضال في سبيل نيل الاستقلال.
وفي مطلع التسعينات من القرن الماضي، أجبرت عقبات بنيوية المنظمات الشعبية الفلسطينية على الخضوع لعمليات من التحول. فسياسات القمع الاستعماري كانت قد أنهكت قدرة هذه المنظمات الشعبية على التنظيم والتعبئة، مما أدى إلى بروز فجوة بين القيادة وقاعدة الشعب. وكانت هذه المستجدات نتاجًا لمجموعة من العوامل المتشابكة على المستويين المحلي والدولي.[8] كما أفرزت سلسلة من التدخلات التي نفذتها القيادة الفلسطينية في المنفى، والتي باتت تشعر بأن القيادة المحلية الوليدة حينئذٍ - التي كان الفلسطينيون ينظرون إليها على أنها تكتسي صفة شرعية أكبر وتخضع للمساءلة والمحاسبة أمامهم - أثرًا سلبيًا في هذا المقام. واقتضت حملة القمع السياسي التي شنتها القيادة الرسمية إجراء تغيير في توجّه الحركات الشعبية.
ولذلك، انطلقت موجة ترمي إلى «إضفاء طابع مؤسسي على المنظمات غير الحكومية»،[9] بحيث تقرّ بإضفاء صفة مهنية ورسمية على المنظمات الشعبية باعتبارها طريقة تنتهجها في إعداد برامجها في قطاعات الزراعة والصحة والقضايا الاجتماعية. وكان الاتحاد الأوروبي أحد الجهات المانحة الرئيسية التي مدّت يد العون في تمويل هذه البرامج التي أعيدَ تشكيلها حديثًا في ذلك العهد، حيث عملت على طائفة من القضايا التي شملت حقوق المرأة والعنف الأسري وسياسة فرض الحجاب والزواج المبكر ونماذج التنمية البديلة وأبحاث السياسات، وذلك من جملة مجالات أخرى. كما برزت برامج وضعت نصب عينيها على تنمية قطاعيْ الصحة والزراعة - اللذين استدعيا درجة أكبر من إضفاء الطابع المهني عليهما وتدريب الكوادر العاملة فيهما. وغدت المنظمات غير الحكومية التي عملت في هذه المجالات تُعَدّ أطرافًا فاعلة لها أهميتها ووزنها في الساحة السياسية.
ونتناول في المبحث التالي الطريقة التي أثّر فيها هذا الانتقال والتحول على الأحزاب السياسية التقدمية التي كانت قائمة في حينه، وعلى موقف هذه الأحزاب تجاه اتفاقية أوسلو.
مؤسسات المجتمع المدني التي واقفت على الأجندات النيوليبرالية
أعاد التوقيع على اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في العام 1993 تشكيل البيئة السياسية، الأمر الذي كان له أثر بالغ على الرفاه الاجتماعي والاقتصادي في أوساط الفلسطينيين. فقد تسبّبت هذه الاتفاقيات في تقويض دعائم القيادة المحلية في الأرض الفلسطينية المحتلة إلى حد هائل، كما عملت السلطة الفلسطينية حديثة العهد على تطويق المنظمات غير الحكومية من ناحية الشرعية السياسية التي كانت تكتسيها والدعم المالي الدولي الذي كانت تنعم به. وقد هيمن جو من التفاؤل الذي خالطه الذعر والخوف على مزاج الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية والمنظمات الشعبية القاعدية والجماهير وعلى مواقفها كذلك.
وغلب
التفاؤل على العديد من المراقبين الخارجيين في اعتقادهم بأن الحكم
الذاتي الذي ناله الفلسطينيون كان من شأنه أن يسرّع من إنهاء النزاع
وأن يخفف من وطأة الضغوط اليومية التي يفرضها الاحتلال - وكان هذه
التوقع في معزل عن الواقع، وهي حقيقة سرعان ما أصبحت واضحة للعيان.
فطالما كانت القيادة الجديدة متمركزة خارج فلسطين وكانت تفتقر بحكم
ذلك إلى الخبرة في الوضع القائم في الأرض المحتلة. وبما أن مؤسسات
المجتمع المدني القائمة كانت أكبر نسبيًا وتحظى بقدر أكبر من الخبرة،
كان الغموض يلف مستقبل العلاقة بين تلك القيادة الجديدة وهذه
المؤسسات، ناهيك عن مستقبل الحركات الاجتماعية نفسها.
فعلى الصعيد السياسي، سببت اتفاقية أوسلو شرخًا عميقًا أيضًا في أوساط الحركة الوطنية، وذلك في مسألة التوحد تحت راية المقاومة مقابل التفاوض مع السلطة القائمة بالاحتلال. وفي مواجهة السياسات الاستعمارية التي قوّضت الأحزاب السياسية الديموقراطية وفككتها من الناحية البنيوية، ما انفكت معارضة اتفاقية أوسلو ينتابها الضعف والوهن.
وقد جلبت هذه الاتفاقية معها وبصورة آلية عولمة الاقتصاد الفلسطيني، مما كان له أثره في تقويض دعائم تنمية قطاعاته الإنتاجية وترسيخ اعتماده على سوق العمل الإسرائيلي للحصول على فرص العمل والبضائع المصنَّعة. واضطرت غالبية المنظمات إلى التكيف مع هذا الوضع المستجد من خلال تبنّي خطاب وموقف نيوليبراليين روّجا لنموذج غربي في بناء الدولة، ولكنه زعزع أركان المقاومة الوطنية وقوضها في الوقت ذاته.
وأفضت عوامل من قبيل التمويل الدولي، الذي شهد ازدهارًا في المرحلة التي أعقبت التوقيع على اتفاقيات أوسلو في فلسطين المحتلة من أجل إرساء دعائم الاستقرار وتعزيز ما سُمي «بعملية السلام» وبناء دولة فلسطينية عتيدة تحكم نفسها بنفسها، إلى الاعتماد على الشبكات العالمية والركون إليها. وحمل هذا الأمر في معناه أن بقاء الاقتصاد والطريقة التي اعتُمدت في تحديد الأولويات الوطنية صارت مرهونة بعوامل خارجية. وأثّر ظهور التمويل المشروط على الحيز الاقتصادي والسياسي الفلسطيني وعلى المحافظة على التراث الثقافي الفلسطيني والاحتفاء به بطرق شتى. فاندماج فلسطين ضمن الاقتصاد العالمي كان له تداعيات سلبية بالنظر إلى أنه أدى إلى إضفاء نزعة نيوليبرالية على الاقتصاد الفلسطيني - وهي عملية كانت تقف على طرفيْ نقيض مع الأولويات الإستراتيجية والاحتياجات المحلية. وفضلًا عن ذلك، ضمِنت إعادة هيكلة الاقتصاد حسبما أملته اتفاقيات أوسلو وما أعقبها من اتفاقيات، من قبيل بروتوكول باريس (1994)، أن التنمية ستنفَّذ في جانب كبير منها على يد وكالات دولية، التي دفعت بالاقتصاد الفلسطيني إلى الاعتماد اعتمادًا كليًا على الأسواق الخارجية.
واقتضت هذه العملية القائمة على التعاون ضمن إطار عالمي ضرورة التغيير والتكيّف. فأفضت الدعوات التي نادت بإعمال الشفافية والمساءلة، فضلًا عن إضفاء طابع رسمي على المؤسسات التي كانت شعبية وقاعدية في سابق عهدها، إلى إضعاف الحركات الاجتماعية النابعة من الجماهير. وبينما تحولت بعض المنظمات إلى مؤسسات مهنية تكيفت مع المناخ السياسي الجديد واحتفظت بمقومات بقائها، لم يقْدم غيرها على هذا التحول. وصارت مصالح البنك الدولي تستأثر بالصدارة على الأولويات المحلية، وشهدت هذه المرحلة إعادة توجيه الأجندة السياسية لكي تتصدى للقضايا العالمية دون القضايا المحلية. وأعيدَ توجيه الخطاب الوطني لكي يضع نصب عينيه على بناء الدولة. واعتُمدت الممارسات الموحدة على الصعيد الدولي، بما فيها صيغ كتابة الطلبات والمقترحات الفنية، وتسوية الأوضاع المالية من خلال فتح الحسابات البنكية، وتواتر توظيف اللغة والخطاب اللذين يتسمان بسمة تكنوقراطية. وأفضى هذا الحال إلى تهميش الخطاب الثقافي والسياسي وشحنه بمفاهيم شملت اجتثاث مفهوم «الاستعمار» واستئصاله.
وشهدت فترة العولمة انتقال الشق الأعظم من عمل المجتمع المدني إلى المكاتب الدولية، مما نأى به عن الجماهير الفلسطينية من الناحيتين الجغرافية والمفاهيمية. وبات الضعف والاغتراب ينهشان الحركات الاجتماعية ويفُتّان في عضدها على نحو متزايد نتيجةً لذلك. وتلاشت الوحدة والتكافل اللذين أرستهما الانتفاضة، وغدا التنافس بين المنظمات هو القاعدة الحاكمة في المرحلة التي تلت إبرام اتفاقيات أوسلو، وذلك بالنظر إلى أن تمويل المنظمات غير الحكومية كان محدودًا. وكانت مؤسسات المجتمع المدني التي نسجت على منوال الأجندات الدولية أوفر حظًا من غيرها في تلقّي التمويل، على حين أخفقت المنظمات الأخرى في تأمين أي تمويل على الإطلاق. وقد أجبر هذا النموذج المسيّس الذي قام عليه التمويل مؤسسات المجتمع المدني على اعتماد توجه نيوليبرالي يتماشى مع المصالح العالمية، حيث عملت في مرحلة لاحقة على تحويل تركيزها والابتعاد به عن التزاماتها بسد الاحتياجات الأساسية لدى الناس لصالح إعداد الأجندة الوطنية. وقد أفرز هذا التحول آثاره على توجه عمل المشاريع التي ترعاها تلك المنظمات، مما فرض تحديًا أمام الأجندة السابقة التي كانت تركز على تعزيز الصمود والمقاومة. ودفعت هيمنة الجهات المانحة الدولية والسياسة السائدة إلى ظهور قيادة جديدة، تتألف من نخبة معولمة وتكنوقراطية ولا صفة سياسية لها، حيث برزت لتضطلع بدور مهم في اتخاذ القرارات وفي تخيل مستقبل ما يسمى «الدولة» الفلسطينية. وبات هذا المنتدى المهيمن هو «المكتب المعولَم» الذي لا يوجد ما يربطه بالجماهير ولا يخضع للمساءلة والمحاسبة إلا أمام الجهات المانحة، وليس أمام الأُصلاء من الجماهير. ولذلك، ما عادت مؤسسات المجتمع المدني تستمد شرعيتها من الشعب بحكم دورها الرمزي والتاريخي، بل صارت موجودة فعليًا لخدمة مصالح الجهات المانحة عوضًا عن ذلك.[10]
الوضع الراهن: تقلص الحيّز المتاح أمام المنظمات غير الحكومية
تواجه مؤسسات المجتمع المدني في هذه الآونة تحديات خطيرة بفعل طائفة من العوامل، يتمثل أكثرها إلحاحًا في تصاعد وتيرة العنف الذي يمارسه الاستعمار الإسرائيلي بحق أبناء الشعب الفلسطيني ومؤسسات مجتمعه المدني. ويأخذ هذا العدوان أشكالًا شتى: اعتقال الناشطين، وإغلاق المؤسسات القائمة في القدس عنوة، واقتحام مقرات المؤسسات ومصادرة ممتلكاتها، وفرض الرقابة، ناهيك عن نزع الصفة الشرعية عنها من خلال المزاعم المتصلة بالإرهاب، كتلك المزاعم التي واجهتها ست مؤسسات استُهدفت استهدافًا سافرًا وفجًّا بسبب دورها الوطني ومبادئها الديموقراطية.
ويكمن تحدٍ آخر في السلطة الفلسطينية وممارساتها التسلطية وغير الديموقراطية، من قبيل ما تقوم به من فرض القيود على حرية التعبير عن الرأي وتهميش أصوات المنظمات القاعدية التي تنبثق من عامة الشعب في إجراءات اتخاذ القرارات المتعلقة بالتنمية ووضع الإستراتيجيات والسياسات. واتسمت السياسات الجديدة التي تمليها الجهات المانحة الدولية، وخاصة تلك التي يضعها الاتحاد الأوروبي، باتفاقيات التمويل المشروط وبتكريس برامج التمويل لكي تركز على قضايا هامشية تناسب الأجندات الغربية ولا صلة لها بالاحتياجات الملحّة لدى الفلسطينيين وأولوياتهم الوطنية. وتمثلت النتيجة في بقاء قلة مختارة من مؤسسات المجتمع المدني، التي تضاءلت قدرتها على تشجيع إضفاء الطابع الديمقراطي على النظام السياسي وحقوق الفئات الاجتماعية الأشد ضعفًا وعوزًا إلى حد بعيد. وقد حرم قطاع المجتمع المدني المتضائل الفلسطينيين من الخدمات الاجتماعية والسياسية التي كانت لها قيمتها في تعزيز صمودهم وشدّ أواصره.
وتستلزم الحلول المطلوب اجتراحها لهذه التحديات السياسية والمالية والبنيوية إعادة النظر في الدروس المستفادة من الانتفاضة الأولى، من قبيل تعزيز الهياكل البديلة واللامركزية التي كانت سائدة وبارزة في ذلك العهد. فمن شأن الرد على ما يقوم به الاستعمار من إغلاق المؤسسات عن طريق نزع الصفة المركزية عن الوسائل والمنهجيات التي يعتمدها في ميدان التوعية والتواصل أن يعطّل المساعي التي يبذلها هذا الاستعمار في سبيل إحكام قبضته على هذا القطاع وبسط سيطرته عليه. وتعني اللامركزية أن تصبح الأنشطة التي تنفذها مؤسسات المجتمع المدني أكثر تواؤمًا مع احتياجات المجتمع، عوضًا عن انسجامها مع أجندات الجهات المانحة. فهذا يشدّ من أزر النشاط على مستوى القاعدة الشعبية ويحول مناط تركيزه وينأى به عن البيروقراطية، مثلما كان عليه الحال في أثناء الانتفاضة الأولى.
إن وضع حدٍ للاعتماد على المساعدات الخارجية من خلال توظيف المتطوعين أحد الحلول العملية الأخرى. فحسبما أثبتته الانتفاضة الأولى، يستطيع المتطوعون أن ينفذوا برامج وأنشطة مختلفة، وفي وسعهم أن يحشدوا قطاعات عريضة من المجتمع وأن يقيموا قنوات الاتصال بين القيادة وعامة الشعب. وعلى الرغم من أن إضفاء الطابع المهني على قطاع المنظمات غير الحكومية ترك المجتمع المدني في حالة من الاعتماد على التمويل الدولي من الناحية البنيوية، فلا يزال من المهم دبّ الحياة في العمل التطوعي في أحياز المجتمع المدني وفضاءاته.
ويتعين على المنظمات غير الحكومية المحلية أن تعمل بدرجة من الوعي الجماعي وأن تحرص على التواصل مع بعضها البعض إن كان لها أن تصل إلى فهم مشترك للتحديات التي تواجهها في المستقبل وأن تجترح حلولًا ممكنة لمواجهة تلك التحديات والتصدي لها. وفي الوقت نفسه، لا بد من تعزيز التعاطي مع الشركاء الدوليين من أجل بلوغ إجماع يمكّن المنظمات المحلية والمنظمات الشريكة الدولية من ضمان استدامة عملها وإعادة التضامن مع فلسطين إلى الواجهة في عملياتها وفي تخصيص التمويل لها في آن واحد. ولا غنى عن الاعتراف بأن المساعدات التي تقدَّم للشعب الفلسطيني تشكل حقًا من حقوقه والتزامًا ينبغي للمنظمات الدولية أن تفي به، بدلًا من توظيفها في طمس الهوية الفلسطينية أو حجب جانب منها.
وتُعد المنظمات غير الحكومية الفلسطينية امتدادًا لأبناء الشعب الفلسطيني ومسعاهم نحو نيل كرامتهم الإنسانية. وينبغي للشركاء الذين يمولون البرامج ويبدون تضامنهم السياسي مع الفلسطينيين ألا يرضخوا لإدانة المقاومة أو تأطيرها كما لو كانت إرهابًا. وعلاوةً على ما تقدم، يجب فهم وقف المساعدات الاقتصادية وحجبها في الحالات التي ترفض فيها المؤسسات التمويل المشروط سياسيًا باعتباره جزءًا لا يتجزأ من طائفة ممتدة من التدابير الاقتصادية التي تُفرض على الصعيد العالمي من أجل إخضاع الفلسطينيين وضمان إذعانهم، وإنكار ما يجب لهم من حقوق سياسية، وترسيخ حرمانهم من التنمية وإجبارهم على التنازل عن حقوقهم الوطنية والسياسية والتخلي عنها.
*د. إيلين كتّاب: أستاذة في مجال علم الاجتماع ومديرة مؤسِّسة لمعهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت. وهي أيضًا رئيسة في المجلس العربي للعلوم الاجتماعية (ACSS) في رام الله.
[1] Da’na, Tariq (2014), “Disconnecting Civil Society from its Historical Extension: NGOs and Neoliberalism in Palestine”, In Takahashi, Saul (ed.), Human Rights, Human Security, National Security: The Intersection, Praeger Security International; Kuttab E. 2008. Palestinian Women’s Organizations: Global Co-option and Local Contradiction. Cultural Dynamics. 20(2): 99-117; Kuttab, Eileen. “Alternative Development: A Response to Neo-Liberal De-Development from a Gender Perspective” in Austrian Journal of Development Studies, Special Issue vol. XXXIV, 1-2018.
[2] Taraki, L. 1991. The Development of Political Consciousness among Palestinians in the Occupied Territories, 1967-1987. In Intifada: Palestine at the Crossroads. (eds.) J. Nassar, and R. Heackock. New York: Praeger Publishers
[3] مجموعة من الباحثين 1990، "مشاكل المرأة الفلسطينية في الانتفاضة"، مبادرة شعبية: دراسة لأدوار القوى الاجتماعية.
[4] Kuttab, 1990, Ibid.
[5] Kuttab, 1996, Ibid.
[6] Kuttab, 2018, Ibid.
[7] Kuttab, 1990, Ibid
[8] Dana, 2014, Ibid, p. 22
[9] Alvarez, Sonia. (1998) “Latin American Feminism “Go Global” in eds. Alvarez, E. Evelina Dagnino and Arturo Escobar “Cultures of Politics, Politics of Cultures, Re-visioning Latin American Social Movements”. Westview Press, USA.
[10] Kuttab, 2018, Ibid.; Hanafi, Sari; Tabar Linda. 2005. The Emergence of Palestinian Globalized Elite: Donors, International organizations and local NGO’s.