بقلم: هيئة التحرير

يتناول هذا العدد من جريدة حق العودة قضية وسم المجتمع المدني الفلسطيني بالإرهاب، ونزع صفة الشرعية عنه من خلال إنفاذ ما يسمى أنظمة مكافحة الإرهاب المصممة من قبل الغرب وإسقاطها تعسفاً على الحالة الفلسطينية دون أي اعتبار لحق الشعب الفلسطيني المشروع في النضال والتحرر. ويحلل العدد، الذي ييسر فهمًا تاريخيًا للمجتمع المدني الفلسطيني والدور الذي يؤديه في سياق استعماري، الأدوات والإستراتيجيات التي يوظفها نظام الاستعمار القائم على الفصل العنصري والجهات المانحة الدولية في سبيل نزع الصفة المشروعة عن المجتمع المدني الفلسطيني وإسقاط البعد السياسي عن جذر المعاناة الفلسطينية. كما يتطرق العدد إلى الأثر الذي تخلّفه هذه الإستراتيجيات على استقلال المجتمع المدني الفلسطيني وسيادته السياسية - البرامجية.

يواجه المجتمع المدني في الآونة الأخيرة، على مستوى العالم، مجموعة من القيود التي لا تمنعه من أداء مهمته في الحيز المدني فحسب؛ بل تتمادى لتصل إلى حدّ تجريمه ونزع الصفة الشرعية عنه. وفيما يخص فلسطين، فإن مسألة تقليص الأحياز المتاحة تنال المزيد من الأهمية نظراً لاحتياجات المجتمع المدني الفلسطيني الذي لا بدّ له أن ينخرط في مواجهة سياسات المنظومة الإستعمارية وحلفائها ليكون وطنياً.

رسم كاريكاتير من الحملة الوطنية لرفض التمويل المشروطتأتي هذه السياسات الإستعمارية على شكل قوانين وشروط تسعى في باطنها إلى نزع شرعية مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية وتجريمها من خلال وصفها بالإرهابية، أو عن طريق نزع الصبغة السياسية عنها وربط مشاريعها ومساعداتها حصراً بتقديم الخدمات "الإنسانية". بالإضافة إلى الممارسات القمعية، التي لا تعد بالأمر الجديد على المجتمع الفلسطيني بمختلف مكوناته، إلا أنها تمارَس حديثاً على مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية ممن "انتهكوا" شروط اللا-تسييس التي وضعتها الدول الأجنبية المانحة، بضغطٍ من إسرائيل، باعتبارها عناصر فاعلة في مواجهة الإستعمار الإسرائيلي والدول المساندة له.

وبالرغم من حقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة الإستعمار الإسرائيلي بالوسائل المشروعة والحصول على حقوقه غير القابلة للتصرف في تقرير المصير والعودة إلى الديار الأصلية المقرّرة بموجب القانون الدولي، إلا أن هذا الحق لم يمنع الدول المانحة – الداعمة لإسرائيل – من تحديد طرق عمل مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية. يشار هنا أن تقييد عمل المؤسسات يجري لخدمة سياسات مجتمع المانحين، والتي تتضمن التحييد واللاتسييس وفرض العقوبات المادية (من خلال قطع التمويل أو تقليصه) على كل من يخالف شروطها. من الناحية الموضوعية، تشكّل هذه السياسات والإجراءات أداة لترسيخ الإستعمار والفصل العنصري على الشعب الفلسطيني؛ ذلك أنها تقمع الدور الوطني لمؤسسات المجتمع المدني وتجهض إمكانية التأثير إيجاباً في عملية التحرير.

ومن خلال انتهاج المنظومة الإستعمارية وداعميها لسياسات قمع ممنهجة ضد مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية، ومحاولاتها لحصر عمل هذه المؤسسات في حيز جغرافي وعملي ضيق، تسعى – منظومة الإستعمار وداعميها – إلى نزع المشروعية عن المؤسسات الفلسطينية التي تنتقد فشل وعجز وتواطؤ ما يعرف بالمجتمع الدولي، وتدعو إلى مقاومة المشروع الاستعماري خارج إطار الإدانات والمناشدات وتسول المساعدات الإنسانية. إن المؤسسات الأهلية التي ترفض إسقاط البعد الإستعماري في التعامل مع الحالة الفلسطينية وترفض اعتبارها مشكلة إنسانية بحتة، تجد نفسها في دائرة تجفيف المصادر وتصنيفها كمؤسسات "راديكالية - متطرفة"  أو "غير متعاونة" أو على أنها "كيانات إرهابية".

تكشف مقالات هذا العدد أن مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية شاهداً آخر على نظام الفصل العنصري والقمع والاضطهاد، وأن وطنيتها إلى زوال إذا لم تبادر بإبداع استراتيجية تُحرّر عبرها الدعم من ماهيته وأهدافه الإستعمارية.

بينما عملت إسرائيل على مدى سنوات على قمع مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية، فقد أفرزت التغيرات التي طرأت مؤخرًا على السياسات التي تنتهجها الجهات المانحة الدولية نمطًا أقسى في قمع المجتمع المدني الفلسطيني وتحييده، والتي ستناقشها مقالات هذا العدد بشكل معمّق. وكنتيجة لهذه التغيرات، التي تنفَّذ في حالات كثيرة في مواجهة الضغط الذي تمارسه إسرائيل وحلفاؤها، تهاوت مؤسسات في تماهيها مع أجندة مجتمع المانحين، ولا تزال أخرى تخدع نفسها بادعاء الفهلوة عبر التماهي جزئياً مع شروط المانحين، وأخرى تكافح من أجل البقاء.