تعزيز الظروف المواتية لإنفاذ آليات قابلة للتطبيق ودائمة لجبر الضرر الواقع على الشعب الفلسطيني

بقلم: لبنى الشوملي*

يُعَدّ حق العودة حقًا أساسياً في السياق الفلسطيني بالنظر إلى كونه حقًا فردياً وحقًا جماعيا في الوقت نفسه، وهو يرتبط ارتباطا وثيقاً بالحق في تقرير المصير، ولا غنى عنه لتحقيق الأمن والاستقرار والرخاء والازدهاء على أساس مستدام. ومع ذلك، لا يتناول هذا المقال ما إذا كان حق الفلسطينيين في العودة قائما أم لا، لأنه من الواضح تمام الوضوح أن هذا الحق قائم وموجود حسبما تنمّ عنه قراءة متمعنة ودراسة متأنية لجملة الاتفاقيات والمعاهدات والقرارات الدولية ذات الصلة، ناهيك عن القانون الدولي العرفي والممارسات الفضلى التي تتّبعها الدول في نهجها.

فعوضا عن ذلك، يتطرق هذا المقال إلى الظروف السياسية التي ينبغي تهيئتها قبل إنجاز العودة وإنفاذها والتي تتمثل في؛ معالجة جذور الصراع‘، بمعنى وضع حد للتهجير والترحيل القسريين اللذين يتعرض لهما أبناء الشعب الفلسطيني، وإيجاد الحلول اللازمة للتعامل مع الأيديولوجيا والسياسات والممارسات الكولونيالية[1] التي تنتهجها إسرائيل ونظام الفصل العنصري الذي تطبقه،[2] وتنفيذ المسؤوليات الواقعة على الدول الأخرى والتي تملي عليها إخضاع إسرائيل للمساءلة بموجب أحكام وقواعد القانون الدولي ومعايير حقوق الإنسان. ويسعى هذا المقال إلى بيان الواقع السياسي الراهن الذي لا يتوائم مع تعزيز العمل على عودة اللاجئين والمهجَّرين الفلسطينيين، بما يشمله من دراسة بعض التحديات المتصوَّرة التي لا تفتأ إسرائيل ومناصروها تستشهد بها في هذا السياق.
 
وفي الوقت الذي لا يناقش فيه المقال جميع الاعتراضات الواردة على هذه التحديات، فهو يبحث في جملة من المسائل، بما فيها تقرير المصير والتركيبة الديموغرافية، والمنظومة التشريعية السارية في إسرائيل وتكوينها الأيديولوجي، بما في ذلك ما تسميه مخاوفها الأمنية، والدور الملائم الذي ينبغي للمجتمع الدولي أن يضطلع به والالتزامات الواقعة على عاتقه. ثم ينتقل المقال إلى بيان الحق في جبر الضرر من ناحية المبادئ الناظمة له، وتعرّج على بعض المحاور العملية المرتبطة برد الممتلكات وإعادتها إلى أصحابها. وأخيرا، يستعرض المقال توصيات بشأن بعض الإجراءات التي يمكن، بل ويجب، اتخاذها في إطار السياق السياسي الحالي.
 
الواقع السياسي الحالي وخلق الظروف المسبقة 
 
يشكل الحق في تقرير المصير، مثله مثل حق العودة، أحد أبسط الحقوق الأساسية. فمن الصعوبة بمكان- إن لم يكن من المستحيل – أن تتجسد العديد من الحقوق الأخرى أو تبصر النور دون إعمال هذا الحق. ويستند الحق في تقرير المصير، حسبما ينص عليه الفصل الأول من ميثاق الأمم المتحدة، إلى احترام المبدأ الذي يقضي بالمساواة في الحقوق بين الشعوب والمساواة العادلة في الفرص، كما ينطوي على أن الشعوب تملك الحق في اختيار سيادتها ووضعها السياسي الدولي بحرية ودون تدخّل. ولا يجيز تقرير المصير ولا يشترط تقسيم الدول، وهو لا يشكل رخصة لإضفاء تغييرات مصطنعة على التركيبة الديموغرافية في إقليم ما من خلال تهجير سكانه و/أو ترحيلهم قسرا عنه، أو استعمار ذلك الإقليم[3] أو منح الأفضلية والامتياز لحقوق جماعة إثنية / دينية بعينها على حقوق جماعة أخرى من خلال إنفاذ القوانين والسياسات والممارسات القائمة على الفصل العنصري. ويمكن إنجاز الحق في تقرير المصير من خلال الحكم الذاتي الديموقراطي ضمن حدود إقليم موجود سلفا، أو إقامة دولة جديدة أو تغيير الطابع الذي يميز نظام الحكم القائم في دولة موجودة (كأن يأتي ذلك على شكل إنشاء اتحاد فيدرالي مثلًا).
 
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، يرتبط حق العودة ارتباطًا لا ينفك عن الحق في تقرير المصير. ولا يمكن لأي مسعى يستهدف إنجاز تقرير المصير أن يتحقق أو أن يخرج إلى الوجود دون النظر في حق العودة الواجب لما نسبته 66% من مجموع عدد الفلسطينيين. وبعبارة أخرى، هل يستطيع أبناء الشعب الفلسطيني أن ينجزوا تقرير المصير إن لم يكن يُسمح لغالبيتهم بممارسة حقهم في العودة؟ وبذلك، يشكّل حق العودة الواجب للاجئين والمهجرين الفلسطينيين داخل الأرض الفلسطينية المحتلة وفيما بات يُعرف بإسرائيل اليوم، محورا أساسيا من المحاور التي تؤلف حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.[4]
 
وقد شكّل إقصاء الشعب الفلسطيني وحرمانه من تحديد مستقبله (بمعنى ممارسة حقه في تقرير مصيره) ممارسة بارزة استقرت عليها إسرائيل وأسرة المجتمع الدولي. وينبغي ضمان مشاركة الفلسطينيين بمجموعهم، ولا سيما اللاجئين والمهجرين منهم، ودمجهم في الإجراءات التي تفضي إلى تقرير مصيرهم وإنجازه. ويمثل دمج اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين، وضمان مشاركتهم في التوصل إلى اتفاقية سلمية قابلة للحياة وفضلا عن ذلك، يكون الفشل من نصيب أي اتفاقية سليمة مقترحة دون دمج هؤلاء اللاجئين والمهجرين ومشاركتهم فيها، ومن شأن ذلك أن يفضي إلى استفحال الحالة المزرية التي تشهد غياب الديموقراطية وانتهاك حقوق الإنسان.

ويتأتى حرمان الفلسطينيين من تقرير مصيرهم من الأيديولوجيا الكولونيالية القائمة على الفصل العنصري، والتي وُلدت من رحم الحركة الصهيونية وتجسدت في القوانين والممارسات الإسرائيلية. وتمثل الأيديولوجيا الصهيونية في أساسها شكلا من أشكال تفوق العِرق الأبيض. فهي تتطلع إلى فرض سيطرتها على الآخر (الشعب اللفسطيني) والهيمنة عليه وإخضاعه لاحتلالها. وبينما لا نستطيع أن نتناول جميع القوانين والممارسات الإسرائيلية على وجه التفصيل في هذا المقام، فمن الجدير أن نتطرق إلى عدد من القوانين التي تقيم الدليل على الطابع الكولونيالي الذي يسم إسرائيل، وسياسات الفصل العنصري الذي تطبقه. ففي هذا السياق، يمنح قانون العودة الإسرائيلي لسنة 1952 الحق لأي يهودي ينحدر من أي بقعة من بقاع العالم في العودة إلى إسرائيل، بصرف النظر عن انتمائه لفلسطين وارتباطه بها من عدمه. وفي المقابل، ينكر القانون المذكور هذا الحق نفسه على اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين ويحرمهم حرمانا تاما منه. وفي الواقع، ينبغي للمرء أن يثبت يهوديته لكي يتمتع بممارسة هذا الحق بموجب القوانين الإسرائيلية. وبعبارة أخرى، تقتصر العودة في القانون الإسرائيلي على جماعة محددة بناءً على هويتها الدينية، ويُحرم منها أولئك الذين لا يشاركونهم هذه الهوية الدينية.
 
وفضلا عن قانون العودة الإسرائيلي، يُحرم اللاجئون الفلسطينيون من ممارسة حقهم في العودة بموجب قانون منع التسلل لسنة 1954. وقد دخل هذا القانون الإسرائيلي حيز النفاذ والسريان بعد فترة وجيزة من وقف إطلاق النار في العام 1948 لغايات التعامل مع الفلسطينيون الذين قرروا العودة إلى أراضيهم وديارهم من تلقاء أنفسهم. وفي هذا الإطار، تعاملت القوات الإسرائيلية مع الفلسطينيين الذين تمكنوا من العودة إلى وطنهم بوصفهم "متسللين"، حيث أقدمت على إطلاق النار عليهم أو سجنهم أو إبعادهم بموجب ما نص عليه القانون المذكور.
 
ويُعد قانون الجنسية من جملة القوانين الإسرائيلية الأخرى التي ترتكز على إعمال الفصل العنصري. ففي الوقت الذي لا نرى فيه الدول القومية الحديثة تميز بين الجنسية والمواطنة في أقاليمها، ينص قانون الجنسية الإسرائيلي على فصل هذين الوضعين عن بعضهما بعضا على أساس الانتماء الديني أيضا. فليس في وسع أحد غير اليهودي أن يحصل على القومية الإسرائيلية، التي تمثل وضعا قانونيا ساميا. وفي المقابل، لا يحصل غير اليهود إلا على المواطنة، التي تشكل وضعا قانونيا أدنى من الجنسية في إسرائيل. وفي الواقع، يتألف السكان غير اليهود في إسرائيل من المواطنين الفلسطينيين، بصرف النظر عن انتمائهم الديني.
 
وعلاوةً على ما تقدم، لا تخالف الدعوات التي بِتْنا نسمعها مؤخرا بشأن الاعتراف بإسرائيل بصفتها دولة يهودية المبادئ الأساسية التي يقوم الحكم الديموقراطي عليها فحسب، بل تمثل محاولة ترمي إلى استئصال حق الفلسطينيين في العودة ووأده في مهده. فالاعتراف بإسرائيل بصفتها دولة يهودية يقضي على إمكانية وجود غير اليهود، ويرسخ حالة الفصل العنصري والطابع الكولونيالي الذي يَسِم دولة إسرائيل التي يُنظر فيها إلى كل شخص غير يهودي على أنه ذا وضع قانوني دوني، هذا إن كان يُسمح بوجود ذلك الشخص أو الجماعة أو بقائها في إسرائيل أصلا. كما تشكل الدعوة إلى الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل محاولة تستهدف تسويغ التهجير والترحيل القسريين اللذين تعرض لهما السكان غير اليهود - وهم السكان الفلسطينيون - في ماضيهم وما يزالون يتعرضون لهما في حاضرهم.

وفي الواقع، ينبغي أن تتناول التشريعات الوطنية مثل هذه القضايا وتعالجها معالجة وافية، وألا تتسم بالتمييز في طابعها أو في ممارستها. وبناءً على ذلك، تحتل المسألة التي تتطرق إلى طبيعة الدولة التي ستستقبل اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين أهمية قصوى. ففي وسع الدولة التي تعتمد نظاما ديموقراطيا ونهجا تشاركيا وشاملا أن تحتضن جميع الناس بصرف النظر عن انتمائهم الديني وأن تضمن حقوقهم كافة. ولا ينطوي النظام الإسرائيلي الحالي على أي من هذه العناصر، بل إنه يوظف تشريعاته الوطنية وممارساته القائمة على التمييز والتي تجسد الحالة الكولونيالية وحالة الفصل العنصري. ولا مناص من تقويض هذا النظام الكولونيالي الذي يرتكز على سياسات الفصل العنصري والاستيعاض عنه بنظام ديموقراطي وشامل يقوم على احترام حقوق الناس جميعا. ولذلك، تتمثل طبيعة الدولة التي يتحتم قيامها في دولة تكفل المساواة والعدالة للناس كافة بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو خلفياتهم الإثنية أو أعراقهم أو تركيبتهم الديموغرافية.
 
وفيما يتعلق بأية آلية من آليات جبر الضرر، يشكل تعزيز أواصر الأمن والاستقرار و/أو المحافظة عليهما اعتبارات لا يُستهان بأهميتها في سياق اتخاذ قرار بشأن الطريقة المتوخاة في تنفيذ هذه الآليات، وليس بشأن ما إذا كان من الممكن تنفيذها. فقد جرى تصميم الحق في جبر الضرر وصياغته من أجل تحقيق هذه الغاية على وجه التحديد: إعادة الوضع السابق إلى ما كان عليه حتى أقصى درجة ممكنة والقضاء على الممارسات و/أو التشريعات الكولونيالية التي أرست حالة الفصل العنصري وأفضت إلى التطهير العرقي أو الترحيل القسري في المقام الأول. وغني عن القول أن جبر الضرر الذي وقع على اللاجئين والمهجرين وتعويضهم عما حلّ بهم ينبغي أن يتسم بالتدرج والتنظيم، وأن ينفَّذ حسب آليات جرى اختبارها واعتمادها، وأن يأخذ في الاعتبار إعادة توزيع الممتلكات على أسس عادلة وأن يضمن الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للاجئين العائدين إلى أوطانهم. وفي هذا المقام، يُعَدّ إنشاء هيئة دولية تتعهد المهمة المتصلة بتنفيذ آليات جبر الضرر، وتحظى بدعم أسرة المجتمع الدولي ومساندتها، محورا ضروريا لا غنى عنه لضمان عودة هؤلاء اللاجئين والمهجرين وفقًا لإجراءات فعالة ومستدامة. كما يمكن أن تعمل هذه الهيئة الدولية على تصميم المساعي التي ترمي إلى إرساء دعائم المصالحة الشاملة بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين وتنفيذها ومساندتها. وفضلا عن ذلك، يجب النظر في الرفاه الاقتصادي للدولة واحتياجات اللاجئين العائدين إليها لضمان عودتهم المستدامة وإقامتهم فيها في ظل بيئة تنعم بالأمن والاستقرار. وهذا يشمل تمكين الضحايا من الوصول إلى سبل الانصاف وتنفيذها لصالحهم، والتحقيق في الأعمال الإجرامية التي ارتُكبت بحقهم، من قبيل التهجير القسري والاستعمار والفصل العنصري، وملاحقة مرتكبي هذه الجرائم وإنفاذ العقوبات الواجبة عليهم.
 
وفيما يتصل بمسألة الأمن والاستقرار، فعندما ندرس الأسباب الجذرية التي تقف وراء الصراع (ولنا هنا أن ننظر في الكثير من الأوضاع السابقة والراهنة)، نلاحظ أن انعدام الأمن وغياب الاستقرار ينبع في اغلب الحالات من إنكار الحقوق والحرمان منها. وبعبارة أخرى، ففي المناطق التي تشهد قمع حريات الشعوب وفرض القيود على حقوقها الأساسية، تجد تلك المناطق نفسها وقد نال منها انعدام الاستقرار وغياب الأمن. ويستدعي تحقيق الأمن وإنجاز الاستقرار السماح لأفراد الشعوب والسكان بممارسة حقوقهم والتمتع بها. وفي حالة إسرائيل، تشكل المخاوف "الأمنية" وضعا اضطلعت بدور رئيسي في خلقه وإدامته: مواصلة العمل على اضطهاد أبناء الشعب الفلسطيني وحرمانهم من ممارسة أكثر الحقوق الأساسية الواجبة لهم، ولا سيما حقوق اللاجئين والمهجرين منهم. ولذلك، ينبغي للمجتمع الدولي، وخاصة المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والدول الأطراف الأخرى، أن تحدد الأسباب الجذرية التي تحول دون إرساء دعائم الأمن والاستقرار وأن تقر بها: التشريعات الوطنية والممارسات الإسرائيلية التي ترتكز على التمييز الممؤسس والأيديولوجيا التي تُقصي السكان غير اليهود في كل من فلسطين والشتات. ومما يترتب على ذلك أنه لا بد للمجتمع الدولي من اتخاذ التدابير المناسبة والناجعة التي لا تعنى بوضع حد للتهجير القسري المستمر فحسب، بل التدخل لتفكيك أركان النظام الإسرائيلي الذي يشجع على استفحال حالات اللجوء والتهجير في أوساط الفلسطينيين ويضمن بقاءها واستدامتها.
 
وعلى وجه التحديد، يتعين على المجتمع الدولي أن يتخذ إجراءات تستهدف التعامل مع الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية التي تمس حقوق الإنسان. فبادئ ذي بدء، على المجتمع الدولي أن يمتنع عن الإقدام على أية إجراءات تضفي صفة قانونية بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الوضع غير القانوني الراهن، والذي يشهد ارتكاب الجرائم و/أو أن تعين على دوامه. وفضلا عن ذلك، يجب على المجتمع الدولي أن ينفذ التدابير التي تجبر إسرائيل على الامتثال للالتزامات الدولية الواقعة عليها. وهذا يشمل، ولا يقتصر على، وقف الاتفاقيات التجارية المبرمة مع إسرائيل وقطع العلاقات الدبلوماسية التي تجمعها بغيرها من الدول وفرض العقوبات عليها وغير ذلك من التدابير التي تكفل التزامها بأحكام القانون الدولي وقواعده.
 
وإلى جانب اتخاذ التدابير التي تفضي إلى خلق الظروف المواتية لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم، ينبغي للمجتمع الدولي أن يشجع على اعتماد آلية لجبر الضرر الذي حل بهم وتنسيقها ومساندتها. وهذا ينطوي على إعادة تفعيل أو إنشاء أو تكليف هيئة دولية بالإشراف على آلية جبر الضرر المذكورة وتنفيذها ومتابعتها. ومن الناحية التاريخية، جرى تكليف لجنة التوفيق التابعة للأمم المتحدة والخاصة بفلسطين بإنفاذ هذه المسؤولية بالتحديد بموجب قرار الأمم المتحدة (194)، الصادر في شهر كانون الأول/ديسمبر 1948، غير أن هذه اللجنة لم تحصل على الدعم الذي كان يلزمها لإنجاز تفويضها على الإطلاق، مما أفضى إلى تعطيلها بعد فترة وجيزة من إنشائها. ولذلك، تحتم الضرورة على المجتمع الدولي أن يعيد تقييم قدرات لجنة التوفيق الخاصة بفلسطين لكي تتمكن من إنجاز التفويض المنوط بها، وتحديد السبيل الأمثل الذي يتيح إنجاز حق اللاجئين الفلسطينيين في جبر الأضرار التي لحقت بهم. وفي حال جرى اعتبار أن هذه اللجنة غير صالحة أو غير قابلة للاستمرار، فمن الحلول التي يمكن النظر فيها تحويل تفويضها إلى هيئة أخرى قائمة، من قبيل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أو وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) (والتأكد من أن التفويض الممنوح لها يشتمل على توفير الحماية الضرورية للاجئين)، أو إنشاء هيئة دولية جديدة كليا. وبصرف النظر عن الحل الذي يقع الاختيار عليه، تقتضي الضرورة القصوى من المجتمع الدولي أن يباشر هذه الإجراءات وأن يضمن المشاركة الكاملة للضحايا الفلسطينيين الذين تعرضوا للتهجير والترحيل القسريين في سابق عهدهم أو ما يزالون يتعرضون له في الوقت الراهن.
 
آليات جبر الضرر من ناحية المبادئ وفي الممارسة الواقعية

ترتكز الفكرة الأساسية التي ينبع حق العودة منها على الإرادة الحرة التي يبديها الأفراد والجماعات التي تتعرض للتهجير: فهذا الحق يستند إلى الحق في الإقامة، والحق في السكن اللائق، والحق في الأمان والحق في حرية التنقل. وفضلا عن ذلك، يُعد حق العودة مستقلا عن وضع اللاجئين أو جنسياتهم وعن الأسباب التي أفضت إلى تهجيرهم. وقد نشأ هذا الحق لغايات منع حالات انعدام الجنسية وترحيل السكان عن أراضيهم وديارهم. وتبرُز حالة اللاجئ أو المهجَّر بفعل ارتكاب انتهاكات تمسّ حقوق الإنسان من جانب الدول أو غيرها من الأطراف الفاعلة التي تقع ضمن نطاق ولايتها، و/أو تقصير الدول وتخلّفها عن ضمان توفير الحماية الواجبة للأشخاص الذي يقعون تحت ولايتها. ويتحول ضمان توفير الحماية للأشخاص الذين يحتاجون إليها إلى مسؤولية دولية في الحالات التي لا تبدي فيها الدولة المعنية الاستعداد لضمانها أو لا تملك القدرة على توفيرها. وبعبارة أخرى، يثير إحجام إسرائيل وتقاعسها عن توفير الحماية وكفالتها لأبناء الشعب الفلسطيني الذين يقعون تحت ولايتها وجوب تقديم الحماية الدولية لهم من خلال تدخل دولي. ويأتي على رأس سلم الأولويات في هذا التدخل الحيلولة دون تهجير الأشخاص قسرا عن ديارهم وأراضيهم. وفي حال تعرض شخص أو جماعة للتهجير، فينبغي ضمان حق ذلك الشخص أو الجماعة في العودة من أجل جبر الضرر الذي حل بها.
 
ويتألف الحق في جبر الضرر الواقع على الأشخاص المهجرين قسرا من ديارهم، وفقا للأطر الناظمة للقانون الدولي وغيره من المعاهدات بشأن جبر الضرر، من أربعة محاور رئيسية، أولها العودة الطوعية التي تمثل عودة الضحايا المتضررين بصورة فعلية إلى الأماكن التي هُجروا منها. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن العودة ينبغي أن تكون طوعية: وهذا يشمل الحق في ألا يتعرض المرء للتهجير رغم إرادته، والحق في اختيار العودة بحرية ودون إكراه والحق في ألا يُجبر المهجر على العودة. ويتمثل المحور الثاني من محاور جبر الضرر في رد الممتلكات وإعادتها إلى أصحابها، وهذا يعني استرداد الممتلكات الأصلية التي فقدها الضحايا. ويتضمن المحور الثالث التعويض عن الأضرار التي أصابت الممتلكات وعن المزايا التي فقدها الضحايا بسبب فقدان ممتلكاتهم أو حرمانهم من استخدامها والانتفاع بها والتعويض عن الأضرار غير المادية (من قبيل الألم والمعاناة) التي تكبدها الضحايا. ويكمن المحور الرابع من محاور جبر الضرر في رضا الضحايا. وهذا يشمل، من جملة أمور، الضمانات التي تكفل عدم تكرار ما حدث من تهجير وترحيل مسّ هؤلاء الضحايا. وقد أُرسيت محاور جبر الضرر لضمان إعادة الوضع إلى سابق عهده إلى أقصى درجة ممكنة لمصلحة الضحايا الذين تعرضوا للتهجير والترحيل القسري. وبناءً على ذلك، تُعد هذه المحاور وحدة واحدة لا تقبل التجزئة، وينبغي أن تتضمن الحلول المقترحة لجبر الضرر جميع هذه المحاور لكي يُكتب لها النجاح ولكي تتسم بنجاعتها وفعاليتها، وذلك من أجل تجاوز التبعات التي خلّفها التهجير والترحيل القسريين وتداعياتهما. وفي هذا المقام، توظف الآليات الناجحة على صعيد جبر الضرر آلية صارمة تُعنى برد الممتلكات إلى أصحابها، دون أن تضع نصب عينيها على تقديم التعويضات المالية لهم، وذلك من أجل ردع جرائم التطهير العرقي أو العزل المكاني القائم على أسس عنصرية أو الفصل العنصري أو الهيمنة الكولونيالية، وهي جرائم تنذر باستفحال حالة اللاجئين أو المهجرين. وفضلا عن ذلك، يستدعي رد الممتلكات توفر موارد مالية أقل مما يستدعيه التوجه القائم على تقديم التعويضات وحدها.
 
ويتكفل رد الممتلكات، بصفته واحدا من محاور جبر الضرر، بمعالجة حالة الحرمان من خلال استرداد الممتلكات الأصلية التي فقدها ملّاكها الأصليون وردها إليهم. ففي هذا الإطار، سنت إسرائيل قانون أملاك الغائبين ونفذته بعد العام 1948. وقد تسبب هذا القانون في تجريد اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين من ممتلكاتهم. وبناءً على ذلك، يملك الضحايا الفلسطينيون الذين طالهم الضرر من نظام تمييزي ترعاه الدولة في إدارة الأراضي الحق في رد ممتلكاتهم إليهم من تلك الدولة. وهذا يعني أن إسرائيل تتحمل المسؤولية عن إعادة جميع الممتلكات إلى أصحابها الفلسطينيين الذين يطالبون أملاكهم إليهم وتعويض من لا يطالب بذلك منهم. ومن جملة الفرضيات التي تسوقها إسرائيل في هذا المقام أنه لا يوجد مساحة كافية من الأراضي لإيواء أعداد كبيرة من اللاجئين حتى يعودوا إلى ديارهم فيها، وبالتالي رد ممتلكاتهم إليهم. وهذه الفرضية تفتقر إلى الدقة. ففي الواقع، تتوفر مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت القرى الفلسطينية قائمة عليها، والتي ما تزال غير مأهولة بالسكان. والأمر متاح لرد هذه الأراضي وإرجاعها إلى أصحابها. وحسب التصريحات الصادرة عن وزارة الشؤون الخارجية الإسرائيلية، يعيش ما نسبته 92% من الإسرائيليين في مناطق حضرية.[5] كما تجدر الإشارة إلى أن مساحات لا يُستهان من الأراضي تُعد أملاكا عامة تعود للدولة. وبعبارة أخرى، يُعتبر ما نسبته 93% من الأراضي في إسرائيل (19.5 مليون دونم) ملكا للدولة أو الصندوق القومي اليهودي أو سلطة تطوير الأراضي.  وتتولى سلطة الأراضي الإسرائيلية، التي يملي مجلس الأراضي الإسرائيلي سياستها، إدارة هذه الأراضي.[6]
 
ومع ذلك، يُعد القانون الدولي والممارسات الفضلى واضحة تمام الوضوح فيما يتعلق بحالات الحيازة الثانوية التي تشهد حيازة الممتلكات الأصلية (سواء كانت بيوتا أم أراضٍ) من جانب اليهود الإسرائيليين. فليست جميع حقوق الملكية متساوية على درجة واحدة. وحقوق الحيازة الثانوية لا تحجب حق اللاجئين أو المهجرين في العودة و/أو رد ممتلكاتهم إليهم. ففي هذا السياق، تتحمل إسرائيل المسؤولية عن ضمان توفير مساكن بديلة للشاغلين الثانويين الذين يشغلون تلك الممتلكات في الحالات التي يطالب فيها اللاجئون أو المهجرون بردها إليهم. وفضلا عن ذلك، يستحق الشاغل الثانوي التعويض في الحالات التي يتملك فيها عقارًا بحسن نية. ومع ذلك، فإذا لم يجرِ تملُّك العقار بحسن نية (أي في الحالات التي يقدم فيها الشاغلون الثانويون على مصادرة الممتلكات بصورة مباشرة أو من خلال توزيع هذه الممتلكات على أساس تمييزي وعنصري[7])، فمن غير المعقول توفير الحماية لحقوق الشاغلين الثانويين على حساب حقوق الضحايا الذين سُلبت ممتلكاتهم منهم. ومع ذلك، وسواء تحقق شرط حسن النية أم لم يتحقق، تقع الدولة تحت التزام يملي عليها ضمان رد الممتلكات إلى أصحابها وتعويض الضحايا وتأمين وضع / حالة الشاغلين الثانويين بتوفير مساكن بديلة لهم.
 
ومن جملة النقاط الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في سياق رد الممتلكات وأعداد اللاجئين الفلسطينيين (وذريتهم) أنه ينبغي اعتماد آلية ووضعها موضع التنفيذ من أجل إعادة توزيع الممتلكات الأصلية على مجموعة أكبر من الضحايا. فعلى سبيل المثال، إذا كان فلسطيني ينحدر من قرية ما يملك 1,000 دونم من الأراضي في تلك القرية وبات هو وذريته يشكلون 120 لاجئا، فيجب اعتماد آلية تضمن توزيع هذه الأراضي بين هؤلاء اللاجئين البالغ تعدادهم 120 لاجئا وتنفيذها. ومرة أخرى، يستدعي هذا الوضع ضمان مشاركة اللاجئين والمهجرين أنفسهم ودمجهم في تحديد طرق توزيع الممتلكات المسلوبة وآلياتها.
 
المضي قُدما في ظل البيئة الراهنة

على وجه الإجمال، تترافق آليات جبر الضرر مع أعمال إعادة البناء المستدامة التي تتلو الأوضاع التي تشهد الصراعات بالمعنى العام. فهذه الآليات لا تقتصر على الإجراءات السياسية أو المادية أو الهيكلية، وإنما تشمل إجراءات الإصلاح التي تشمل المجالات القانونية والأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية. وقد صُممت آليات جبر الضرر بغية استرداد الحقوق المسلوبة واسترجاع الممتلكات المالية التي ضاعت من أصحابها (و/أو ما يعادلها من الممتلكات أو التعويض المالي عنها)، وإرساء دعائم العدالة والمصالحة، كما تسهم الإجراءات الكفيلة برد الممتلكات إلى النهوض بعجلة الاقتصاد. ومع ذلك، فمن أجل بلوغ هذه المرحلة من تلك الإجراءات، هناك جملة من الشروط المسبقة التي ينبغي الوفاء بها: الاعتراف بالدور التاريخي الذي اضطلعت به إسرائيل وما تزال تؤديه في ترسيخ حالة اللجوء والتهجير بين صفوف الفلسطينيين وإدامتها من خلال الأيديولوجيا والسياسات والممارسات التي تندرج ضمن إجراءات الترحيل القسري والاستعمار الكولونيالي والفصل العنصري، والضرورة التي تقتضي من المجتمع الدولي تنفيذ التدخلات التي تكفل إجبار إسرائيل على الالتزام بأحكام القانون الدولي وقواعده على أساس الوفاء بالالتزامات التي تقع على كاهلها، وبما يشمل تفكيك الأيديولوجيا التي تقوم على الاستعمار الكولونيالي والفصل العنصري والمحاور الأيديولوجية التي تؤلف النظام الإسرائيلي، إلى جانب تحديد جهة تملك القدرة على إنفاذ آليات جبر الضرر الذي حل بأبناء الشعب الفلسطيني وتشكيل مثل هذه الهيئة، التي يجب أن تكفل مشاركة هؤلاء اللاجئين بصورة فاعلة وبنّاءة فيها.

وبينما لا تُعد الظروف الراهنة مواتية لإنجاز حلول عادلة ودائمة لوضع اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين، بمعنى إنفاذ الحق في جبر الضرر، ينبغي ألا ننتظر الوفاء بتلك الشروط المسبقة أو إبرام اتفاقية سلمية مُحكمة لكي ننجز التحضيرات المطلوبة لعودة اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين إلى ديارهم. فمن الأهمية بمكان أن نباشر العمل على إعداد التحضيرات اللازمة لجبر الضرر الذي وقع على هؤلاء اللاجئين والمهجرين الآن لكي نحقق النجاح الذي ننشده على هذا الصعيد. وفي وسعنا أن نستهل هذا العمل بإطلاق حملات توعوية وتثقيفية واسعة النطاق، بحيث تركز على المبادئ الناظمة لحق العودة والممارسات الفضلى التي تنفَّذ في هذا المضمار، وإشراك المؤسسات الأهلية الفلسطينية - ولا سيما تلك التي تُعنى باللاجئين والمهجرين - في إعداد نماذج جبر الضرر وآلياته، وبما يشمل إعادة توزيع الممتلكات والتعويض، إلى جانب إطلاق النقاش والحوار الذي يتناول تحديد ملامح الدولة وتشريعاتها وآليات الحكم التي تطبقها وتحديد هذه الملامح. وفضلا عما تقدم، يكمن الدور المنوط بالأجهزة والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان في مواصلة عملها على توثيق الانتهاكات التي مست حقوق الإنسان والجرائم التي اقترفتها إسرائيل في الزمن الماضي وما تزال تقترفها في الزمن الحاضر، والدعوة إلى اتخاذ التدابير التي تكفل وضع حد لإفلات المسؤولين عن ارتكاب هذه الانتهاكات والجرائم من العقوبة وضمان خضوعهم للمساءلة والمحاسبة عنها. ويتمثل الدور الذي يجب على المجتمع الدولي أن يؤديه في الاستجابة من خلال تدابير ملائمة وعملية لإخضاع إسرائيل للمساءلة وتوفير الحماية الواجبة لأبناء الشعب الفلسطيني من تهجيرهم وترحيلهم قسرا من أراضيهم وديارهم مرة أخرى.
 

[1]  تُفهم الكولونيالية على أنها تعني الاحتلال الأجنبي الذي يقع على شعب معترف به وفرض الهيمنة عليه واستغلاله، كما تنطوي على تقييد حق أبناء ذلك الشعب في تقرير مصيرهم.
[2]  تُعرف جريمة الفصل العنصري، بموجب الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها، بأنها "الأفعال اللاإنسانية، المرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية ما من البشر علي أية فئة عنصرية أخرى من البشر واضطهادها إياها بصورة منهجية."
[3]  تُفهم عناصر الاستعمار على أنها تعني الاستيلاء على الأرض دون وجه مشروع، وحرمان سكان الإقليم المستعمَر من حكم أنفسهم بأنفسهم واستغلال مواردهم على نطاق واسع من جانب القوة القائمة بالاحتلال.
[4]  للاستزادة حول حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، انظر التقرير الصادر عن هيئة الأمم المتحدة "حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير"، المؤرخ في 1 كانون الثاني/يناير 1979.
[6] http://www.mmi.gov.il/envelope/indexeng.asp?page=/static/eng/f_general.html. ورئيس هذا المجلس هو نفسه نائب رئيس الوزراء ووزير الصناعة والتجارة والعمل والاتصالات. ويتألف المجلس من 22 عضوًا، منهم 12 عضوًا يمثلون الوزارات الحكومية و10 أعضاء يمثلون الصندوق القومي اليهودي.
[7]  على سبيل المثال، أقدم الصندوق القومي اليهودي على تملُّك عدد هائل من الممتلكات عن طريق بيوع الأراضي التي تمت بصفة غير قانونية (حتى بموجب أحكام القوانين الإسرائيلية). وبعد ذلك، عمل هذا الصندوق على تأجير تلك الممتلكات ليهود إسرائيليين باعتبارها من جملة "أملاكه" في إسرائيل، وتتراوح مدة عقود هذه الإيجارات من 49 سنة إلى 98 سنة. 

---------------------
*لبنى الشوملي: مديرة وحدة الشؤون الإدارية والمالية في مركز بديل.