المنغولي:حكاية ولد يشبه المخيم

بقلم عيسى قراقع*

الولد المنغولي، المشبعة ذاكرته بالتفاصيل التي تمتد على مدى الفكرة، وقد كرستها الهشاشة وعيا على وجع الأساطير.
صديق كل شيء؛ عيناه مبتسمتان دامعتان لامعتان كعسل احمر، وكلامه لا يخرج إلا إذا احترقت الأغنية أو أصابه داء الحنين.
الولد الذي تراه في كل زاوية وشارع ومأتم وعرس ومظاهرة وطوشة، وهو في الخيالي والواقعي وابن إرادة.
الولد الذي لا تفهم خارطة الحارة وحكاية المخيم؛ إلا إذا جلست معه. حركات يديه تدلك على ما جرى هذا اليوم، ابتداءً من المعركة بين السكان ودائرة المياه بسبب شح الماء ونرفزات النسوة وغضب الرجال، وانتهاءً بآخر امرأة أنجبت مولودا بعد منتصف الليل؛ قطعت حبله السري بشفرة حلاقة.

يتحسس دروب الناس، يشم أنفاسهم، يفهم أن رائحة صيف قادمة، وأن شتاءً تأخر عن الحديقة. لا يخاف من برج المراقبة المطل على المخيم، ولا من وحش يتجول في أحلام النائمين. لا ينطق، ولكنه يخوض صراعا مع المفردات العابرة. يرقص حتى الصباح، ولا يترك الزفة إلا عندما ينام القمر.

علي عجارمة يتسلل إليك في أي وقت، وهو ليس فضولي، ولكنه ضحية الذين نسوا صورهم على الينابيع، وفقدوا الرواية في تفسير نصوص المؤرخين.
علي عجارمة ابن هذا المشهد الذي طال، وبدونه لا ضوء في آخر المخيم، وبدونه لا تدري عن آخر أسير اعتقله الجنود في ساعات الفجر الباكر، وبدونه لا تسترجع الذكريات، ولا ترتدي الجميلات طيورهن قرب الشبابيك.

علي، الولد المنغولي، المشبع بزيت السمك، ليس له حيلة ولا غد: الحجر والبيت الصغير، والولادة المتعثرة، دخان تبغ الهيشي، أباريق قهوة، وخبز ساخن في طابون قريب.
علي يدحرج كلامه على مصاطب المقهورين؛ كأنه يشكو سوء الواقع، أو يؤجل عمره لهذيان آخر، حتى يعي المريض لرؤياه، ويتخلص من الإشارات الغامضة عن بشر يسمونهم لاجئين.

علي عجارمة ولد على ضوء لامبة الكاز مريضا، أخرجته القابلة (أم زكري) بالماء الساخن والزيت والدعاء، أطعمته العسل من منحلة (أبو عبد الله)؛ كي يعيش ويبقى على قيد الحياة. ولد يشبه الأثر بعد مذبحة أو كزائد بشري على اليابسة. ولد في مكان حمل اسم راهبة جميلة تسمى(عايدةهربت من الحرب لتبني كنيسة على سفح تلة لترى الله قريبا وواسعا يسيل مع الآيات مطرا، ويعانق البشر حبا، ضوءا وظلا، ذكرا وأنثى؛ لتتفاجأ أن الكنيسة أحاطها مخيم استراح قليلا في يوم الأحد، علا فيه صوت العويل على صوت الأجراس.

علي المنغولي، ابن هذا البحر الذي لم يمتلئ بالماء، المولود بين " خلة أبو عطية " ومستعمرة "جيلو". لا يستطيع العودة إلى الوراء الطاعن بالسن تشتيتا ومنفى، ولا سيرا إلى الأمام؛ إذ يصده الجدار ويروضه جمال البقاء متأهبا إلى حيث لا يدري. عقله وقلبه يتقنان الإنصات إلى زمن مقطوع من التاريخ، يلفت الانتباه إلى ما ينقص حياة الناس الذين خرجوا من حقل بلوط إلى بيت من الزينكو، وتحولوا إلى مجرد قرار دولي يدغدغ مشاعر الضائعين.

الماضي جميل والحاضر لا تسعفه المخيلة كلما انقرض عجوز ونهب الباقون محتويات الصندوق، وصار المفتاح تمثالا يملؤه الصدى وجنون العاطفة. فيه خطاب تأخر مع العائدين، وفيه كل عيوب المكان المؤقت، فالمنغولي حسب الأطباء يموت بعد سنين معدودات، ولكن المكان المنغولي هنا عاش متلائما مع أضلاعه الشاذات... وقت إضافي له يشده وينتظر، فيضحك علي بحماقة ويرحل.

في الحالة المنغولية ترى كل شيء: شبابيك مفتوحة، ممارسة الحب فوق الأسطح المتلاصقة، نساء يغتسلن بالصابون النابلسي؛ فتسيل الرغوة عارية من العطر والسكر والشبق الجسدي. وفي الحالة المنغولية يتشظى الصمت، وتتداخل مجاري الصرف الصحي مع شبكة المياه. يدخل فأر إلى خابية الرز ويبكي الهواء، وكانت (أم محمد) تحارب القمل في رؤوس أولادها بالكاز، تفرك شعورهم وهي تقول: الآن اشتعلوا.

المحقق الإسرائيلي (كريم) عرف كل مسامات الوضع المنغولي دارا دارا وحارة حارة. كان يخشى القدوم نهارا، فنجده فجأة في غرفة النوم ليلا، يأخذك من السرير، ويغادر مسرعا؛ لأنه يعلم أن عيون الحارة قد استيقظت ووقفت على النوافذ، تراقب شبحا يتلاشى في فمه بقايا حليب ورائحة امرأة.

المنغولي اخترق حظر التجوّل. حاول المختار وهيب أن يمنعه، زجره بلهجة أهل قرية المالحة، فلم يستطع علي أن يشرح له أن الجنود يبحثون عن (أحمد شابون) المصاب بالدهشة سجناً، والمنتظر منذ أكثر من ستين عاماً في نارٍ حامية بين أركان سورة القارعة.

المنغولي يرتجف. طلقة قاتلة في رأس (اسحق عيسىمظاهرة طلابية على ساحة النقوش الفضية في مدرسة دار جاسر، ولا أحد يشحن لاميّة العرب بصوت (سامي أبو علياأو يستدعي (أبو منصور) من أجل أن يرتب أرقام بطاقة التموين الخالية من الصور نفراً نفرا.

علي المنغولي يرتب عظامه حتى يبقى أكثر وأكثر محمولا على كل الأبراج خارج النحس وتنبؤات الفتاحة (أم يني). يمشي حافيا، يدل ( صبحة خضر) على مكان الجنود خلف السنسلة، قرب التينة، بعد الجرح: هنا سقط (صامد) ينزف، وهناك سقط (الشيخ سليمان) مطرزا بالرصاص، ولا احد تحت سطح الوضع المنغولي يستطيع الطيران وإعلان الجنازة.

علي يأخذ رسائلنا إلى حبيباتنا الخائفات. لا يقرأ غزلنا المقتبس عن نزار قباني، رسائل فوّاحة بالليمون الذي سرقناه من حاكورة (اسكندر أبو قمر)، وقد كتبنا لهن: بأننا أعددنا قلوبنا وأدوات احتفالاتنا، وأننا سنصير شموسا وبرقا يسيل على شفاهكن بعد حين، عندما تنسحب الطائرات ونستعيد حياتنا في غيمة مبلولة بالماء.

غرف المدرسة باردة، نرتعش تحت علم الأمم المتحدة، لا يدفئنا سوى "بربيج" الأستاذ (وديع الصليبي) ينهال ضربا على أجسامنا. نحفظ قصائد إبراهيم طوقان وأبو سلمى وسرعان ما ننسى؛ البرد يعزلنا عن الذاكرة. كان علي يكره المدرسة التي لا تريد سوى طالبا لسانه ينطق كبلبل، ولكنه كان يرسمنا ويشفق علينا، ويشير إلينا بقافية تشبه بندقية في آخر الصف.

على "الجوادل" ينام الصغار صفا صفا، رائحة أقدام وسخة، أبواب مفتوحة، همسات مسموعة، وصوت (أبو فرحان) يزعق على نسائه يفجر صمت الليل... الأجساد متوترة لا تنتظر الغد، والأجساد لا تؤجل جنونها، بينما البنات يقلبن البقجة بحثا عن قميص نوم داخلي فيه عرق الدول المتحضرة، ورائحة نبيذ يتحرش بالنعاس وبالموج.

الممسحة لم تعد تكفي لامتصاص ماء المزاريب المتدفقة من تحت الأبواب الخشبية في الشتاء. الرعد يحمل قصتنا، وموقد النار يذوب في موسيقى رعشاتنا... ينتعل علي الجزمة ويخرج إلى الوحل يفتش عن حلزونة ولدت مع أول طلقة رعد داخل صدفة قفلها من تراب.

يجمعنا (إبراهيم البرميل) في بيت (عبد مساعيدنتفرج على التلفاز الوحيد في المخيم الذي يقتحم وعينا؛ فنتجمد أمام أغاني عبدو موسى وسميرة توفيق... انبساط على وجه علي وهو يتابع مسلسل وضحة وابن عجلان، ليل المخيم يضحك، والصورة تتحرك شيئا فشيئا نحو تجميل الواقع، لنكتشف إنسانيتنا وهي تمتص قمعها وتلعق جرحها في هذا الاغتراب.

ويجمع (أبو فتحيعامل النظافةالقمامة من أمام البيوت والحارات، يحرقها في المزبلة الرئيسية للمخيم بعد أن يفرزها ويصنفها إلى درجة أنه يستطيع أن يعرف ماذا طبخ الناس وماذا أكلوا، من جاع ومن شبع، من ترك شيئا للعابرين أو للقطط.

تنادي (حبسة أبو سرور) على علي ليساعدها في وضع "الحواة" على رأسها، كوم حطب ونتش تحمله من وادي بيرعونة، تشعله ليدفأ أولادها ويستوي العجين في فرنها، ريثما ينسحب البرد ويظهر خيط النكبة من خيط النكسة، ويعلو سن الغزال على سن الحليب في أفواه الصغار.

علي المنغولي يشتبك مع (أبو عوني) في مطعم وكالة الغوث، ينهال أبو عوني عليه بالصفعات؛ لأن علي يزاحم الأولاد المصطفين بصحونهم في الطابور. لم يكن أبو عوني يعلم أن عليّا يحب الفاصوليا الناشفة، وان مشيته المتلعثمة وزر قميصه المقطوع، تدل أنه نص مرتجل بين المخيم والاحتلال، لم يمنحوه إذنا بالهدوء ولا إذنا بالمشاغبة، فظل جائعا إلى أي هدف.

كان هناك ملعب يسمى "ملعب الانجليزية". الاسم موروث عن الانتداب البريطاني لفلسطين، ربما كان معسكرا للجنود الإنجليز أو سجنا، تشتعل فيه مباريات الأولاد الباحثين عن مساحة للهو، ضرب علي كرته فاندلق الفجر عن مستعمرة، وعندها أدرك انه مريض منغولي، ولم يعد بعدها إلى الملعب.

"طاق طاق طقية... صرنا بلا هوية"، هنا لا بحر ولا غطس ولا رمل ولا غرق، هنا ولد منغولي يلعب في الأزقة، يصطاد "أبو ذنيبة" من قناة تسيل بين البيوت بلا شبك، يمسك حنجرة حصاة نزلت عن الكرمل لتصطاد صوت العاصفة. لا ينام علي إلا بعد أن تتوقف والدته من سرد حكاية أبو زيد الهلالي، يغفو على فصول "التغريبة" موجوعا من هذا الحب الذي يبدأ بالسيف والعشق وينتهي بالانقراض.

علي عجارمة مات! ظل يتنفس يحدق في المارين عبر الأزقة بلا ضوء، يعرفهم واحدا واحدا: المكتملين والناقصين والطفرانين والمنسيين والجوعانين والمصابين بالكوليرا، والذاهبين إلى الصلاة والخائفين من عذاب القبر وعذاب الاجتياح الإسرائيلي، والخائبين من عودتهم إلى بيوتهم قبل النكبة وبعد النكبة، الفاقدين لصوتهم وبحرهم وعود ثقاب.

في يوم النكسة جاع الناس. لملم (