بقلم: سائد ياسين أسعد قبها**

لم يكن يتوقع أن تصاريف القدر سترحل به إلى حيث حنين الماضي وسني الحرمان. شدّه إلى المكان شعور لم يعهده من قبل. أشجار الكينا تسدل عباءتها كأنها كهل أثقلته السنين، تناجي عروق الصبار، وأكوام الحجارة المتناثرة يحتضنها مرج يوحي يُنوعه وجسده المطرّز بالأقحوان والحنون بزيف ابتسامة تخفي جبلا من الأنين... شعور تملّك ذاكرته بأن هناك علاقة بينه وبين هذا المكان.


غسان واحد من ثلاثة شبان قادتهم مرحلة شبه الانفراج والبحث عن سبل تعزيز لغة التفاهم والحوار وتوطيد العلاقات ما بين الشعبين بعد اتفاق أوسلو إلى مركز السلام العربي الإسرائيلي المسمى "جفعات حبيبا". 1

 

نواة الفكرة أنجبتها زيارة عادية لبيت قريب له كان يعمل مديراً للبرامج العربية في هذا المركز، وذات الصدفة هي التي جمعتهم مع مدير عام المركز والمسؤول المباشر حين كان في زيارة لبيت قريبه في الوقت نفسه.

"البروفسور (داني)، مدير عام مركز جفعات حبيبا..." هكذا عرّف به الأستاذ رياض، صاحب البيت وقريب غسان.

هزوا رؤوسهم إيماءً بالتحية والتقدير. أنا غسان... خالد... محمود... عرّفوا بأنفسهم دون التحدث بمسميات أو مواقع. وأضافوا: "نحن أقارب الأستاذ رياض".

تناولوا أطراف الكلام وغرقوا بالحديث عن ماضي الصراع وعملية السلام، ومستقبل الشعبين، وسبل تعزيز الحوار والتعايش بين الأجيال، وبنوا في حديثهم أحلاماً لمستقبل وردي... وأشار البروفسور إلى مجموع الأنشطة التي ينفذها المركز في سبيل تحقيق ما تم الحديث عنه، لا سيما بين فلسطيني 48 واليهود.

"أقترح أن تقوموا بزيارة للمركز للاطلاع على أقسامه وبرامجه، وسنقوم بترتيب ذلك لكم واستصدار تصاريح الدخول".2 هكذا أنهى مدير عام المركز الحديث. بدت لهم الفكرة مستساغة، وتتماشى مع طبيعة المرحلة. أبدوا موافقتهم بسرعة وشجعهم "رياض" على ذلك، وأبدى استعداده لترتيب الزيارة.

كان يوماً ربيعياً... سرحت أعينهم، ولم تكن ترى في ساحة المركز إلا أحواضاً ومربعات تطمس حقيقتها أزهارا متنوعة الألوان، وتخفي ابتسامتها ماضياً يئن بالذكريات، تدفن تحتها إرثاً من التشرد والضياع. رغم جمالية المكان وحفاوة الاستقبال، فإن أكوام الحجارة خارج سور المركز، وألواح الصبار المطلة من زحمة الأعشاب، وشموخ الأقحوان سرعان ما تقلب الصورة. يتبدل الشعور بجمال المكان، وتسرح الذاكرة إلى أفواج من المهجرين محملة ظهورهم وأكتافهم أطفالاً وأمتعة، ويقبضون بأيديهم على مفاتيح يناديها صرير الأبواب...

الصورة القاتمة خارج الأسوار لم تفارق مخيلته طوال الزيارة، ولم تمنعه شروح المرشدة وتعريفاتها بأقسام المركز وجنباته من تكرار النظر من خلال النوافذ إلى الخارج. "لا بدّ لهذا المكان من ذكرى... لن أسأل هذا المرشدة؛ لأنها بالطبع ستخفي الحقيقة، هذا إذا كانت تعرفها... ". هذا ما جال في خاطر غسان.

الساعة الآن السادسة مساءً، ولم يتبق لانتهاء التصريح سوى ساعة. غادر الثلاثة المكان في سيارة رياض، وبقي ذهن غسان متعلقاً بذاك المكان. لم ينفك خالد ومحمود يبديان رأيهما الذي أحب أن يسمعه رياض، بينما هو شارد الذهن يسترجع شريط اليوم الذي قارب على الانتهاء. الحجارة، وأزهار الحنون، وشجرات الكينا، وألواح الصبار هي كل ما تجمع في ذاكرته.
- ما سمعنا رأي غسان... ما رأيك في المركز؟
فاجأه رياض بهذا السؤال على حين غفلة منه.
- ها.. (التفت فجأة )... آه مركز جيد!
ثم عاد إلى غفلته.

عادت ذاكرته إلى حديث والدته يوماً، حين ندبت حظها بأنه ليس لهم أرضاً يبنون عليها؛ لأنهم تركوا أرضهم في وادي عارة بعد أن سمعوا أن اليهود شرّدوا أهل ( أم الشوف ) 3 وقتلوا الرجال وهتكوا الأعراض. واستقر بهم المقام في برطعة إلى ما بعد وفاة جده، ثم باعت جدته الأرض التي ورثتها من والدها لترحل إلى يعبد وتتزوج للمرة الثانية.

لم يكن يتوقع غسان أنّ ساعات المساء بعد وصوله للبيت ستحمل في أحشائها حقيقة مرة تسوقها إليه مصادفة القدر. جلس أمام التلفاز مع والده الذي كان يتابع برنامجاً على قناة الجزيرة، ولكن غسان كان يتابع شريط الزيارة الذي بقي عالقاً في ذهنه. كسر شرود ذهنه قول والده: " برااو... والله إنه مذيع شاطر". كانت مقابلة إخبارية مع "شمعون بيرس" وزير خارجية الاحتلال آنذاك، حين خرج مقدم النشرة عن المألوف وقال لبيرس ساخرا من طروحاته حول توطين اللاجئين وتعويضهم: "أنت تسكن فوق منزلنا وعلى أرض هي لي ولأهلي".

- هل تعرف مركز جفعات حبيبا "يابا" ؟
سأل والده عندما رأى على وجهه نشوة الفرح بحديث المذيع.
- آه ... أنا إللي بعرفه أكثر من غيري. هناك جنب (أم القطف) 4 كنا نسكن قبل أن نترك بيتنا ونقعد في (برطعة).5 ومن هناك طلعنا مع سيدك وستك وقت الحرب. وهذا المركز إللي بتحكي عنه تحته أو جنبه كان بيتنا.

الآن أدرك غسان حقيقة الشعور الذي تملّكه حين قال في نفسه: "لا بد أنّ علاقة ما تربطني بهذا المكان".
- اليوم كنا هناك... والله أول ما شفت الحجار وألواح الصبار وأشجار الكينا صابني شعور إنه كأني بعرف هالمكان وفي إشي بربطني فيه.
- وشو الفائدة يا بوي... راحت البلاد وراحوا أهلها...
قالها بزفرة ممزوجة بالألم، وتبدلت معالم وجهه من نشوة الفرح لما سمعه من المذيع إلى حسرة على ماضٍ أثار أشجانه.

لحظات الغفلة والتأمل بذاك المكان تكررت في نفس غسان مرة ثانية. وتمنى أن تتاح له الفرصة أن يجتمع بإدارة المركز من جديد ليتقمص دور المذيع وهم يتولون دور وزير خارجية دولتهم؛ ليقول لهم: إنّ مركزكم الذي تسعون من خلاله إلى تعزيز التفاهم والتعايش ويحمل اسماً فيه كلمة (السلام) هو أكذوبة قامت على أنقاض بيتنا... ولن يكون هناك سلام؛ إلاّ إذا أعيد بناء أكوام الحجارة بيتاً لأصحابه، وعادت البسمة الحقيقية إلى المرج الذي وقف مركزكم كجلاد يلوح بسوطه ليخيف زنابق الأقحوان.

ثلاثة أيام مرت ورأسه قد أتخم بالأفكار وأشبع بمشاعر السخط والألم. كلما أطرقت مسامعه إلى حديث أثير هنا وهناك حول المقابلة التلفزيونية مع شمعون بيرس، عادت تراوده الأفكار ذاتها، وتمر في مخيلته صورة المركز وبشاعة حاضره.
كسر حالة الشرود هذه مكالمة من صديقه خالد الذي شاركه زيارة المركز:
- اتصل رياض ويدعونا إلى ندوة حول آفاق عملية السلام في المركز. ما رأيك؟
- موافق!
قالها بلهفة، وكأنها ساعة الفرج واكمل:
- متى وكيف؟
- ابعث صورة هويتك لأنه سيسعى لاستصدار التصاريح لنا.

بعث صورة بطاقة هويته على عجالة، وانتظر بفارغ الصبر يعدّ الساعات... يومان، ثلاثة. وفي اليوم الرابع قرر أن يبادر هو بالاتصال بخالد.
- مرحبا... كيفك؟ ماذا حصل بالتصاريح؟
قال كلماته متواصلة دون أن يتيح الفرصة لخالد أن يرد عليه التحية.
- على مهلك على مهلك...
وضحك خالد ساخراً ليثير الشكوك في نفس غسان:
- لأ يا سيدي، ما طلعوا التصاريح، لأنا مرفوضين أمنياً!

حزن غسان لأن الفرصة التي تمناها قد ضاعت، والأمل بأن يعبّر عن سخطه بكلمات تشفي غليله كان قد رتبها في عقله قد تبخر. وسرعان ما مدّ يده إلى جيبه فأخرج ورقة كان قد كتب فيها عنوان البريد الالكتروني للمرشدة التي عرفتهم على أقسام المركز وأنشطته. نظر إلى الورقة بتمعن، ثم ابتسم.

"ارفعوا أقدامكم عن ركام منزلنا... ولا تقتلوا أزهار الحنون التي تفوح رائحتها بذكريات السنين... فما دمتم تقبرون الماضي تحت أحواض الأزهار في مركزكم فلن تسمعوا منا إلاّ لغة العداء... ".
كتب هذه الكلمات على جهاز الحاسوب خاصته، وبخط لونه أحمر، وبحجم كبير وأرسلها على عنوان المرشدة. ووقعها:
(غسان/ مرفوض أمنيا).

-----------------------------
* القصة من وحي الواقع مع تحوير وتعديل على أسماء الشخوص اقتضتها الضرورة (ملاحظة المؤلف).
** سائد قبها: الفائز بالمرتبة الأولى، في جائزة العودة للعام 2010 في حقل القصة الصحفية المكتوبة.

-----------------------------

الهوامش:

1. جفعات حبيبا: مركز السلام العربي الإسرائيلي. أقيم على أرض قرية أم القطف على الطريق المؤدي ما بين باقة الغربية ووادي عارة ، تنفذ فيه برامج ثقافية واجتماعية تهدف إلى تعزيز التفاهم ما بين فلسطيني 48 واليهود في إسرائيل.
2. التصاريح: إذن دخول بوثيقة تصدرها الإدارة المدنية الإسرائيلية للفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة إلى أراضي 48 سواءً للعمل أو العلاج أو الزيارات. وترفض منح الكثير منهم بحجة أن دخولهم يشكّل خطراً على أمنها.
3. أم الشوف: قرية فلسطينية مدمرة تقع في أراضي الروحة ما بين أم الفحم ووادي عارة، هجر أهلها من قبل عصابات الصهاينة عام 48. ويقيم الاحتلال الآن على أرضها معسكراً للتدريب.
4. أم القطف : قرية عربية في أراضي 48 ما بين باقة الغربية ووادي عارة.
5. برطعة: قرية عربية تم تقسيمها بعد الهدنة عام 48 إلى قسمين: برطعة الغربية وأخضعت للإدارة الإسرائيلية، وبرطعة الشرقية وتتبع محافظة جنين، ويفصلهما وادي. وينحدر أهل القريتين من جد واحد هم عائلة (قبها).