بقلم: ميخائيل يعكوفسون*

في آذار 2010، تلقيت رسالة على صندوق البريد الالكتروني الخاص بي وصلتني من الأردن. كانت الرسالة من أيمن حمودة، أبن لأحد لاجئي قرية بيت دجن المحاذية ليافا. لقد عمل أيمن حمودة على كتابة وتحرير كتاب فريد من نوعه الذي يعرض حكاية قريته بمساعدة مقابلات أجراها مع العشرات من لاجئي القرية. لقد أرسل إلي برسالة، في أعقاب عرض صور في موقعي الخاص على الانترنت الذي يستعرض بقايا قرى أخرى دُمرت في النكبة.

 

في الرسالة، ذكر حمودة موضوع الكتاب، ولم استطع فهم طبيعة التوجه، ولكن الموضوع قد لفت انتباهي، ووجدتها فرصة لم تكن قائمة قبل ذلك في الاتصال مع هؤلاء الموجودين وغير الموجودين. وبدون تردد للحظة، فقد أرسلت له رسالة رد، وتوجهت إليه بسؤال فيما إذا زار القرية يوما وصوّر ما بقي فيها. ولمفاجئتي، فقد علمت بأن لا شخص من لاجئي القرية ومن بينهم حمودة زار القرية منذ العام 1948. وفي أعقاب ذلك، سألت حمودة فيما لو أحب أن أسافر إلى قريته وأحاول توثيق ما بقي، وقد فرح بهذا الاقتراح وانتظر زيارتي.

لقد حرصت على أن لا أماطل كثيرا، بعد أن اعتقدت بأنه يتوقع بفارغ الصبر رؤية الصور، وفقط بعد 4 أيام على الرسالة الأولى، زرت في صباح يوم الجمعة بقايا قرية بيت دجن. أقيمت على قرية بيت دجن اليوم المستوطنة الإسرائيلية "بيت دغان"، التي تحفظ أسم القرية المدمرة، والتي بدورها ربما تحفظ اسم القرية اليهودية في المكان قبل نحو 2000 عاما. كنت أتوقع بأن لا أجد شيئا، ولكنني لم أجد فقط بقايا كثيرة، وإنما أيضا بيوتا كاملة- فيها تقطن اليوم عائلات يهودية إسرائيلية، هي في الأساس من العائلات المهمشة في المجتمع الإسرائيلي.

عقد من الزمن وأنا أتعقب هذه القرى مع وعي لما حصل هنا وللأسرار التي تخفيها هذه البقايا- أسرار أصر على العودة وكشفها بيني وبين نفسي. في هذا العقد، تعلمت كيفية تعقب هذه القرى، وقراءة الأمكنة، وكيفية الإجابة على أسئلة مثل أين كان مركز القرية، وأين كانت المباني العامة، وماذا تبقى، وبشكل عام تعامت استكشاف المباني التي تعود إلى هذه الحقبة.

بيت دجن هي إحدى القرى الأوائل التي محيت على يد إسرائيل، ومع ذلك، فقد أوقفت عملية الهدم في أوجها، بغية إسكان المستوطنين الجدد الذين كانوا أنفسهم لاجئين، وخصوصا أولئك الذين قدموا إلى إسرائيل من الدول العربية. مركز القرية القائم على تلة صغيرة قد محي وبقي اليوم كحديقة وطنية، ولكن في هوامشه تتواجد عشرات الأدلة على بيوت سكنها أهل بيت دجن الموزعين على أنحاء العالم. غالبية البيوت مهدومة أو مغلقة، ولكن في بعضها تسكن عائلات.

فور عودتي إلى شقتي، أرسلت الصور إلى حمودة وأنا شغوف بمعرفة رده، وما إذا استطاع احد لاجئي القرية في التعرف على بيته. لقد تم التعرف على أحد أبهى البيوت الباقية بشكل كامل على أنه يتبع لمصطفى الشيخ الدجاني، وهو أحد أرباب الأسر التسعين التي سكنت في القرية. ورويدا رويدا، فقد عادت الذكريات للاجئي القرية، ولكن هذه المرة كانت ملموسة أكثر من السابق، وذلك بفضل الصور التي يرونها للمرة الأولى، بعد أكثر من ستين عاما منذ أن رأوا قريتهم للمرة الأخيرة.

هذه هي الحقائق الجافة، ولكن معها كان شيئا من تجربتي الذاتية، والذي اختلف عن سائر الزيارات التي قمت بها إلى القرى المختلفة. لقد نشأت هنا روابط وأحاديث بيني وبين نسل الأشخاص الذين عاشوا هنا يوما، وهؤلاء الذين لا يتواجدون في المكان اليوم- وأنا أتواجد فيه اليوم، هل أنا وحدي؟

عميل مع كاميرا؟ مبعوث؟ مُقرر؟ عيون بجهاز تحكم عن بعد؟ من وراء عدسة الكاميرا أنظر إلى القرية وأرسل لكل هؤلاء اللاجئين مناظر بيوتهم التي هجروا منها، وهكذا تصل بيت دجن إلى الأردن، العربية السعودية، دبي، أستراليا، الإمارات العربية المتحدة، قطر، سوريا، ليبيا، كندا، النرويج، الولايات المتحدة الأمريكية، وأيضا إلى غزة، نابلس ورام الله.

لقد تفاجأت حتى هذه اللحظة، بأن أيمن حمودة الذي يحمل جواز سفر أمريكي ويخصص الوقت والجهد الكبيرين من أجل العودة والعيش في بيت دجن، لم يفكر أبدا في زيارة مكان أحلامه. وأنا الإسرائيلي، تحولت هنا إلى ذاك الذي يأتي ويعرض عليه قريته في العام 2010. لقد ضايقني هذا السؤال: لماذا يتهربون من العودة وزيارة قريتهم التي يشتاقون إليها كثيرا؟ هل يخافون من زيارة لا تعد عودة دائمة؟ هل يخافون من تفجير حلم جنة الفردوس التي نسجوها حيث سيجدون قرية مهدومة وحولها أقيمت قرية إسرائيلية حقيرة ومترهلة ليس أقل من تلك البقايا التاريخية؟ هل يخشون أن يجدوا القرية محاطة بالطرق السريعة المزعجة والملوثة، وجبل من القمامة يغطي قرية خيرية المجاورة، ويلوث البيئة المحيطة...

هذا هو واقع حالي أنا الإسرائيلي في وسط ما كان في الماضي بيت دجن، أعلم على الأرجح وحدي بما حصل هنا أمام مناظر الركام، تتوسطني الكاميرا، ومن الجهة الأخرى، أبناء القرية بأجيالهم المختلفة الأحياء والأموات، كلنا هنا في هذه اللحظة في وسط القرية الحية-الميتة.

--------------------------------
* ميخائيل يعكوفسون: مهندس معماري، تلة صمويل.