بقلم:د. أمــل يـازجـــي

أيــن الأمــم المتحــدة مـن قضيــة اللاجئيــن الفلسطينييــن؟

تعود علينا الذكرى الثامنة والخمسين للنكبة، ذلك اليوم المرادف لمولد دولة إسرائيل، واليوم الذي تختزل فيه إحدى أهم المسائل القومية إلى حق "شعب بلا أرض حصل على أرض بلا شعب"، وتتحول الأنظار كلها إلى الدولة الديمقراطية الحديثة وكأن الجميع ينتظر منها أن تكون ما لم تكن يوما قادرة أو راغبة أن تكون، وشرق أوسط جديد، بقيادة جديدة ومعالم مختلفة، حتى ولو كان ذلك على جثث شعب يقتل من أكثر من ستين عام، وتنكر حقوقه، ويعامل وكأنه الغائب، الغائب الحاضر، الغائب الذي لا يدري العالم كيف يواجهه، بل كيف يمكن أن يقنعه بحلول مختلفة تضمن عدم عودته ونسيان الهوية والوطن، وكأن الذاكرة الجماعية بمتناول أصحاب القرار يمحونها ويحلون مكانها هويات وأوطان جديدة، تبدأ في الشرق وتنتهي في أقاصي الغرب. ويلح علينا السؤال أين حق العودة بعد 58 عاما من النكبة بالنسبة للجمعية العامة ومجلس الأمن أهم أجهزة الأمم المتحدة؟

 

لم تكن النكبة إلا مؤشراً واقعياً على استقرار مفهوم إحلال شعب مكان شعب أخر، إحلال مهاجرين من كافة أصقاع  الأرض محل السكان الأصليين بحجة أنهم وعدوا بها من الرب. ولدت إسرائيل وبدأت من يومها الأول بإصدار مجموعة من التشريعات المتلاحقة ترفع بها وتيرة الاستيلاء على الأراضي وتوسيع رقعة الدولة التي منحت إليها في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181. 

وتمثل الحقبة بين عامي 1945 و1949 فترة اختمار المشروع الصهيوني وحصاد نتائج قرابة 50 عاما من العمل الدؤوب لجعل فلسطين أكثر من موطن قومي لليهود، لجعلها دولة يهودية لا بد أن تحافظ على ذاتها من خلال نقاء ديني يحفظ لها وجودها. وفي هذا الإطار كانت الأمم المتحدة، هذه المنظمة الوليدة، أداة لتنفيذ المشاريع التي تخدم مصالح الدول العظمى. 

انتهت الحرب العالمية الثانية في هذه الفترة، معلنة معها انقضاء عهد عصبة الأمم بكل ما حملته من حلول لدعم مفهوم رعاية الشعوب غير القادرة على حكم ذاتها بذاتها، وانتقل عدد من الأقاليم إلى التحرر، والباقي إلى نظام الوصاية في الأمم المتحدة التي حلت محل عصبة الأمم، مع صمت شديد عن مصير إقليم كان مصنفا في الفئة أ من نظام الانتداب، لم يتحرر كما لم ينتقل إلى نظام الوصاية، لتستمر بذلك فلسطين تحت نظام قانوني ألغي من الوجود.

وعرفت الأقاليم التي كانت تحت الانتداب أنها كانت مجرد مستعمرات وقامت فيها الثورات حتى انتهاء الانتداب، غير أن فلسطين لم تعرف فقط الثورات ضد الإنكليز بل كان لا بد من مواجهة غزو إنساني ومالي لم يكن عرب فلسطين يدركون طبيعة مقاصده، فارتفع عدد المهاجرين اليهود من قرابة 6 % في بداية القرن العشرين إلى قرابة 30 % عند إعلان قيام الدولة الصهيونية في قسم من أراضي فلسطين، منحت لهم بناء على قرار صادر من الأمم المتحدة.

واستمر خرق ما يدعى بالكتب البيضاء التي تحد من الهجرة إلى فلسطين، واستمرت العصابات الصهيونية بعمليات الإرهاب المنظم، وتتالت اللجان لترى أين هو خير فلسطين، وكأن الإقليم خال من أي سلطة، وكأنه لم يكن معتبرا ثلاثين عام إلى الوراء من الأقاليم المرشحة للاستقلال. وجاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، المؤرخ في 29 تشرين الثاني من العام 1947، والقاضي بتوصية خطة تقسيم فلسطين، ليصبح القاعدة التي انطلقت منها المنظمة الدولية العالمية الهادفة إلى إحلال الأمن والسلم الدوليين في التعاطي مع الشأن الفلسطيني. 

قـرارات الأمــم المتحــدة حـول فلسطيــن: نظــرة تحليليـــة 

يتميز قرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم 181 المعروف بقرار التقسيم بعدم استناده إلى معطيات تمثل الواقع في فلسطين، أو تأخذ بعين الاعتبار رأي الشعب الفلسطيني إضافة إلى كل المقيمين فيها من غير الفلسطينيين، حيث لم يجر على الأقل استفتاء لمعرفة توجه هؤلاء الناس ورغبتهم في شكل الوطن الذي يريدون، وعادت مقولة كانت تردد دائما بشأن وعد بلفور: "إعطاء ممن لا حق له لمن لا حق له"، لتتكرر للمرة الثانية، حيث منحت الأمم المتحدة دولة لليهود دون أن يكون لها أي حق في اتخاذ مثل هذا القرار. 

وقد تعامل مجلس الأمن الدولي مع توصية تقسيم فلسطين وكأنها واقع حقيقي، حيث لم يصدر عقبها أي تعليق له حول التقسيم، سوى ما جاء في القرار 44 بتاريخ 1 نيسان 1948، والذي نص على أن المجلس تلقى القرار 181، وأخذ العلم بتقريري لجنة فلسطين التابعة للأمم المتحدة، وأوصى الأمين العام بدعوة الجمعية العامة للانعقاد للنظر مجددا في حكومة فلسطين المستقبلية. ثم تتالت قرارات المجلس لتتعلق بالهدنة، وشكلها، وضرورتها، والصدمة بشأن اغتيال الكونت فولك برنادوت ومرافقه، حتى صدور توصيته القاضية بقبول إسرائيل عضوا في الأمم المتحدة، وذلك بتاريخ 4 آذار 1949، على اعتبار أن إسرائيل "دولة محبة للسلام وقادرة وعازمة على تنفيذ الالتزامات التي يتضمنها الميثاق". 

وفي 26 نيسان 1948، طلبت الجمعية العامة في قرار حمل رقم 185 من مجلس الوصاية أن يدرس مع سلطة الانتداب والأطراف المعنية الإجراءات اللازمة لحماية مدينة القدس، رغم عدم دخول فلسطين في عداد الأقاليم الخاضعة للوصاية، ومن ثم تعيين مفوض بلدي خاص بالقدس بناء على تقرير مجلس الوصاية بموجب القرار 187، مما يعني فعليا البدء في تنفيذ القرار 181 الذي جعل من القدس مدينة دولية تخرج من إطار فلسطين إلى الإطار الدولي. 

لم يصدر أي رد فعل لا عن مجلس الأمن ولا عن الجمعية العامة في أيار من العام 1948 عندما أعلنت بريطانيا العظمى إنهاء الانتداب وتم الإعلان عن دولة إسرائيل في، مما يعني أن المنظمة الدولية مسؤولة مسؤولية قانونية وتاريخية عن قرارها رقم 181 الذي قسم فلسطين ونتج عنه إعلان دولة إسرائيل. 

أما قرار الجمعية العامة رقم 194، والمؤرخ بتاريخ 11 كانون أول من العام 1948، والقاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم فقد أعلن عن مرحلة جديدة حاولت من خلالها الجمعية العامة جبر بعض الضرر الذي لحق بالفلسطينيين، غير أن صيغة القرار جاءت لتنبئ عن مرحلة أخرى من مراحل تطبيق القرار 181، حيث جاء في الفقرة 11، والتي نصت على حق العودة، على إمكانية تعويض  "اللاجئين غير الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم"، وبالتدقيق في النص نرى أن العيش بسلام مع الجيران هو شرط للعودة، أي لا بد من الاعتراف بالتقسيم. هذا إضافة إلى عدم قدرة لجنة الأمم المتحدة للتوفيق حول فلسطين (UNCCP) التي تشكلت بموجب القرار رقم 194 على مراقبة تنفيذه، ليكون هذا القرار في النهاية ليس أكثر من تكرار لكل القواعد الدولية التي تنص على الحق الطبيعي بالعودة لكل فرد خرج من أرضه مكره لا أكثر.

ويشكلّ القرار273 الصادر في 11 أيار 1949، أي بعد قرابة عام من إعلان دولة إسرائيل، والقاضي بقبولها عضوا في الأمم المتحدة، أخر القرارات التي انتهكت حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير وفق ما جاء في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة ذاتها، لتقضي بذلك على أمله في الظروف الراهنة بإقامة دولة على كامل أرض فلسطين. في ذات الوقت، قصرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراتها المختصة بفلسطين والشعب الفلسطيني زمنا طويلا على إعانة اللاجئين، وتصريف أمورهم لا أكثر، وتمديد ولاية وكالة الغوث الدولية-الأنروا، وإبداء الأسف لعدم تطبيق قرار العودة، وإعادة تبني هذا القرار. 

كما لم تقم الجمعية العامة للأمم المتحدة عقب ما يدعى بالنكسة، أي حرب العام 1967، سوى بطلب إلغاء كل التدابير المتخذة لتغيير وضع مدينة القدس والامتناع عنها مستقبلا، وذلك في قرارها رقم 2253، المؤرخ في 4 تموز من العام 1967، ثم عن أسفها في 14 تموز من العام 1967 لعدم قيام إسرائيل بذلك.  أما مجلس الأمن فلم يجد أكثر من طلب وقف إطلاق النار والعودة إلى حدود الرابع من حزيران ودعوة إسرائيل إلى إلغاء جميع إجراءاتها لتغيير وضع القدس (القرار 252) والأسف لعدم تطبيق هذا القرار (القرار 298). 

كما تأخر الاعتراف بالفلسطينيين على أنهم شعب وبالتالي الاعتراف لهم بحق تقرير المصير حتى العام 1970، وذلك في قرار الجمعية العامة رقم (2649) ، مما فوّت على الفلسطينيين خلال مرحلة طويلة جدا حق المطالبة بتقرير المصير أسوة بكل الشعوب الأخرى، كما منح الدولة الصهيونية الفرصة لتشد عودها على حساب الانقسامات العربية، وعدم الاعتراف للفلسطينيين بحق المقاومة من أجل التحرير. وقد منحت منظمة التحرير الفلسطينية حق تمثيل الشعب الفلسطيني الذي أقرت له حقوقه  في فلسطين (دون ذكر أي فلسطين هذه وأي حدود لها) وذلك في القرار رقم 3236، المؤرخ في 22 تشرين أول من العام 1974. ومن ثم منحت منظمة التحرير الفلسطينية في الجلسة ذاتها مركز مراقب في المنظمة الدولية وذلك في القرار رقم 3237. دون أن يرافق ذلك أي قرار من مجلس الأمن بهذا الخصوص، رغم الطلب المتكرر من قبل الجمعية العامة وحثه على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف (القرار رقم دإط – 7/4، المؤرخ في 28 نيسان 1982). 

تمثل مجمل القرارات التي صدرت منذ عام 1974 وحتى تاريخه، سواء كان ذلك من قبل الجمعية العامة أو مجلس الأمن، سلسلة من التصريحات التي تتحدث عن حق العودة وإدانة الاعتداءات على الشعب الفلسطيني، وإدانة الإرهاب، لا أكثر. وقد أصبح القرار 242 الصادر في 22 تشرين أول 1967، أساس التسوية الذي تعتمده المنظمة الدولية في تعاطيها مع المسألة الفلسطينية، أي أن الحدود لم تعد كما جاءت في القرار 181 بل كما أضحت عليه قبيل الرابع من حزيران 1967. 

يبدو من قراءة هذه القرارات أن المنظمة الأممية كان لها كبير الاثر والدور في قيام دولة إسرائيل، ولا بد هنا من العلم أن المنظمات الدولية تتمتع بشخصية دولية وقرار مستقل عن قرارات الدول الداخلة في عضويتها، مما يعني أنها تتحمل كل العواقب المترتبة على هذه الشراكة من خرق لحق تقرير المصير الذي يتمتع به الشعب الفلسطيني والذي لم ينشأ مع القرار 2694، لآن هذا القرار كشف فقط هذا الحق، كما تتحمل جزءا من المسؤولية المترتبة منذ صدور القرار 194 عن عدم تطبيقه حيث لم تزوده بأية آلية فعالة لضمان التطبيق.

كما تدل هذه القراءة على أن اعتراف المنظمة الدولية بإسرائيل شكل نقطة انطلاق هذه الأخيرة كمؤسسة قانونية في عالم العلاقات الدولية. وأن الشعب الفلسطيني قد كسب في المقابل كل تعاطف الأمم المتحدة لا أكثر. رغم كل ما صدر من قرارات من باقي أجهزة الأمم المتحدة كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي واليونسكو ولجنة حقوق الإنسان ومنظمة الصحة العالمية.

وبالعودة إلى مشاريع القرارات المنقوضة من قبل مجلس الأمن خلال الفترة الواقعة بين عامي 1947 و 1998، نلاحظ أن المجلس قد رفض أي مشروع قرار يتعلق بحق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف بتقرير المصير وفي العودة إلى دياره، كالمشروع المقدم بتاريخ 23 كانون الثاني من العام 1976، أو المشروع المقدم بتاريخ 29 حزيران من العام 1976، والمشروع المقدم بتاريخ 28 نيسان من العام 1980، مشاريع قابلتها الولايات المتحدة بحق النقض الفيتو.  

خــاتمـــة  

إن النظر في هذا السرد التاريخي السريع لعدد من قرارات الأمم المتحدة قد يدفع إلى الاستنتاج السريع بعدم ضرورة التعاطي مع هذه المنظمة، إلا أنه لا بد من الانتباه إلى النقطتين التاليتين: 

أولا: لا زالت هذه المنظمة هي المنظمة الأممية الوحيدة التي تملك حق القرار الدولي الشرعي حتى ولو لم يكن مشروعاَ، لكن في هذا الإطار لا بد من التأكيد على أن استخدام الأدوات الدولية بما فيها الأمم المتحدة، هو في وقتنا الحاضر المرآة للحقيقية للتوازنات الدولية وآلية تنعكس من خلالها علاقات القوة في المجتمع الدولي، وبالتالي فالعيب يكمن في توازنات القوة وضرورة النظر فيها أكثر مما يكمن في المنظمة ذاتها، مما يستدعي العمل في عمق المسألة الفلسطينية وعدم الاعتقاد أن الأمم المتحدة هي مصدر الأزمة.

ثانيا: رغم كل المواقف المنحازة لإسرائيل من خلال الدفع لقيامها وتثبيتها على الساحة الدولية، إلا أن القرارات الدولية المتعلقة بحق العودة تؤكد على نقاط هامة تفيد في تعريف حقوق الفلسطينيين، من حيث أنها حقوق ثابتة لا يحق التصرف بها ، مما يرسخ مفهوم كون هذه الحقوق أولا حقوق ذات طابع فردي تمنح صاحبها حقوق فرعية ذات طبيعة سياسية واقتصادية تتمثل في العودة والتعويض بكل أشكاله، وثانيا حقوق ذات طابع جماعي تتمثل في حق تقرير المصير الذي يشمل كامل الشعب الفلسطيني أينما كان.

_________________

د. أمل يازجي هي محاضرة في كلية الحقوق بجامعة دمشق، ونائبة عميد كلية العلاقات الدولية والدبلوماسية بجامعة القلمون الخاصة.