حذار من مجازر فلسطينية جديدة ماذا يجري في سوريا؟

بقلم:أحمد مفلح*

تختلف الآراء حول ما يجري في سوريا: أهي ثورة تحررية، أم ربيع عربي؟ مؤامرة أم حرب على دولة ممانعة ومقاومة؟

بداية أتمنى ألا يُفهم كلامي أنني منحاز لطرف ضد طرف في سوريا، لكن، من وجهة نظر شخصية، ما يجري اليوم في أغلب صوره، يعبر بوضوح عن فوضى وخراب ومأساة... وإن أردتم مؤامرة فعلاً!

لا يعني هذا الكلام أنني أدافع عن النظام السوري أو أي نظام آخر، فهذا النظام هو من شقَّ وحدة الثورة الفلسطينية ودمّرها وتآمر عليها في لبنان عقوداً خلت، وهو من قضى على الحركة الوطنية اللبنانية ودعم القوى الإنعزالية في المواجهات المصيرية مع الحركة الوطنية، وهو من ميّع الهوية القومية العربية وقضى على عنفوان سوريا، وحوّلها إلى حارس حدود لإسرائيل بانتظار المعركة التي طالت ولم تأت ولن تأتي معه، وطبعاً وليس مع من بعده... هو النظام الذي باع واشترى بالوطنيين والمناضلين من مختلف الهويات والأيديولوجيات، النظام الذي كان الفلسطيني بالنسبة إليه مُتهماً دائماً. هو النظام الذي تفنن في هتك الأعراض والإنسانية والآمال والأحلام... وقتل المستقبل.

في الواقع علينا التفريق، ولا نقول التمييز، بين عصري هذا النظام، عصر الأب (1971 – 2000)، وعصر الإبن (2000 – 2010)، ففي الوقت الذي قضى الأول على كل شيء يُخالف مشروعه القائم على الأنانية الطائفية والبحث عن يد غربية يُصافحها، فداس الناس والتاريخ والواقع والجغرافيا. كما ونجح في تقديم نفسه بصفته راعي المقاومة والتحرير والممانعة، وهذا في ذات الوقت الذي أعدم المقاومين وأقصاهم. جاء ابنه بشار حاملاً البروباغاندا المقاومة نفسها، لكنه حاول الانفتاح بعض الشيء، فغازل العولمة الليبرالية وذهب إلى الغرب ولم ينتظره حتى يأتيه، إلى جانب توظيفه للمقاومة كسلعة معتقداً أنها تزيد قيمته، لكنه اصطدم بالحرس القديم المستفيد أصلاً من حكم أبيه، وإن كان لم يظهر علانية؛ لأن طغيان الوالد كان يُحدّه. ففُهم الانفتاحُ فساداً فوق فساد، وخرج مارد الإستغلال والطمع والإحتكار والرأسمالية المتوحشة من القمقم وما عاد أحد يستطيع لجمه؛ فأكل خيرات سوريا وناسها، وتحولت القضية من بروباغاندا مقاومة ضد إسرائيل، إلى مقاومة ضد الفساد، وفي المقاومتين كان الناس هم الوقود. المقاومة الأولى كما قلنا أكلت الناس والتاريخ، والثانية أيضاً أكلت الناس ومعهم خيرات واقتصاد سوريا. ولكن للأسف كان الشعب صامتاً ما خلا بعض الأصوات التي هاجرت أو اعتقلت أو قتلت أو نُبذت بصفتها "عميلة للإمبريالية".

هذه صورة النظام السوري الذي يشبه غيره من الأنظمة العربية، والسؤال، بعيداً من الوصف لما يجري، وجرى منذ حوالى أربعين عاماً، هل ما يدور اليوم في سوريا ثورة تحررية؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال علينا التوقف قليلاً عند المحركات "السوسيومعرفية" لما يجري، ونسأل: ما دام هذا النظام مشكوك في وطنيته وعدالته المجتمعية، وهذا واقع، والشعب يريد الحرية، وهذا من حقه، لماذا بعد أربعين سنة، أو بمعنى آخر لماذا اليوم، وهذا ينطبق على الأوضاع في سوريا وغيرها من الدول العربية التي طالها التغيير والربيع؟ فهل من رابط بين مشروع الشرق الأوسط الجديد و"دوز" الحرية المفاجئ؟ إني أتساءل هنا فقط!

ما هو المحرك العقائدي والأيديولوجي لما يجري؟ هل سقوط النظام، أي نظام، يعني خلاص المجتمع من أمراضه التي زرعها هذا النظام؟ وهل يحمل البديل الدواء؟ ولا ننسى ما علينا من دراسة لما يجري في مصر وتونس وليبيا.

هل فعلاً الإنفتاح و"الميديا" والعولمة حرّكت همم الشباب؟ ولماذا الشباب، أين المجتمع كله، خصوصاً رجاله الذين عايشوا "ازدهار" ما قبل هذه الأنظمة؟ ولماذا لم تحرك "الميديا" السابقة من إذاعة وتلفزيون وصحف، على الرغم من الرقابة، بعضاً من الانتفاضات أو حتى التململ الفاعل؟ وهل العولمة حملت روح التقدم والانفتاح والتنوير والعقلانية والحداثة إلى هؤلاء الذين تأثروا بها وثاروا؟

 ويبدو لي أن هؤلاء الثائرين ثاروا على العولمة، أو أثّرت فيهم عكسياً، فازدادوا تخلفاً من قطع رأس أبو العلاء المعري في سوريا، إلى أزار أم كلثوم في مصر، إلى تصفية شكري بلعيد في تونس. وغيرها من دروب الانغلاق في الدول العربية. وهنا نسأل: هل عصابات القتل في سوريا، باسم الإسلام، وهم من أخوات القاعدة يحملون الحرية للمجتمع السوري، والتقدم والانفتاح والعقلانية؟ وهل أنظمة الاستبداد وتأليه الحاكم التي حوّلت شعبها ومجتمعها إلى حظائر ومراعٍ ستحمل الحرية إلى سوريا وغيرها؟ وما سر الغيرة السعودية القطرية على حرية السوريين والمصريين والتونسيين والليبيين وعلى جزء من اللبنانيين، وغياب هذه الحرية عن مجتمعهم، وعن البحرين، وعن الفلسطينيين؟ ولكن ماذا عن العدو الصهيوني في جنوب لبنان، وفلسطين؟

مرة أخرى، هذه الكلمات لا تخرج للملأ دفاعاً عن النظام السوري أو غيره من الأنظمة، لكن أسئلة إشكالية من حقي بصفتي مواطن عربي أن أسألها، وأضيف ما هي محركات ما يجري في الدول العربية اليوم؟ ولا أقصد هنا أسباب ما يجري، فالأسباب من فساد وبطش وقمع وجوع وقهر... حدث ولا حرج، معروفة كانت ولا تزال ويبدو أنها باقية لوقت ليس باليسير، هذه سمة الدولة العربية، ولكن لماذا وكيف تحرك المجتمع؟

أنا مع سوريا، هذه الأرض الخيّرة، وعلينا ألا نقع في خطأ ما أوقعنا به النظام ونخلط بين سوريا والنظام، سوريا هي الأرض والشعب، التاريخ والهوية، الدولة والمجتمع، وأستثني من مقوماتها نظام الحكم، وهذا ما يجب أن نثور عليه، ونظام الحكم لا يعني النظام وشخصية الرئيس فقط، إذا أسقطناه تُحل المشكلة. نظام الحكم الذي نقصده هو الذي يُغيّب الإنسان ويسقطه إلى الدرك الأسفل من الحياة والمعيشة، يُحرمه من وجوده وحقوقه وحريته، ومن طعامه وملبسه، نظام الحكم الذي يختزل الأرض والتاريخ بشخصه، النظام الذي يسخط القيم المجتمعية على مقاس مزاجه.   

إذا أردنا التغيير علينا استبدال هذا النظام بنظام مدني ديمقراطي قومي مقاوم، لا تبديل صورة الرئيس فقط. فهاهم في مصر أو تونس استبدلوا الرئيس، هل تغيّرت المعاملة وأخذ المصري أو التونسي حق نفسه وقدره؟ السحل لا يزال كما هو، وتصدي أجهزة النظام تقتل وتبطش، والجائع جائع، وأمنيات الناس مهدورة، لا بل أسقطوا قيم الإسلام السياسي ومبادئه إلى أدنى مراتبه؛ فماذا عن العدل والحرية والقدس وفلسطين والعدو الصهيوني والعلاقة مع الغرب...؟

الواقع في سوريا

كما قلنا، الخاسر الأكبر في سوريا هم الناس، السوريون، فكيف نُفسّر مقتل أكثر من سبعين ألف إنسان، وتشريد الملايين، واعتقال الآلاف، وتدمير قرى ومدن بأكملها؟ وكيف نُفسر نهب المصانع وتفكيكها وبيعها بأبخس الأسعار إلى الأتراك؟ كما سُرقت إهراءات القمح المعروفة تاريخياً وبيعها بسعر أقل من عشرة بالمئة من سعرها الحقيقي، بشكل مدروس ومنظم؟

إن الدور الذي تقوم به تركيا في الأزمة السورية مشكوك فيه، فهل تركيا تغار إلى هذا الحد على حرية السوريين، وإن فعلت لماذا هذه الجرائم الاقتصادية المنظمة؟ طبعاً هذا يذكرنا بالدور نفسه الذي قامت به سوريا في لبنان بين عامي 1976 و2005، عندما نهبت لبنان وحرمته من مقومات العيش والتقدم وردّته قرونا إلى الخلف باسم الحرص على وحدته، وكانت يومها خطة أمريكية مرسومة وينفذها السوريون، وأبرز ما تكشفت عندما قضى النظام السوري على المقاومة الفلسطينية وأهلها والحركة الوطنية، فهل من يمنع تكرار السيناريو نفسه مع السوري عينه على أرضه ولكن باعتباره مفعولاً به هذه المرة والفاعل تركي؟

وضع الفلسطينيين

الفلسطينيون في سوريا جزء من النسيج المجتمعي، وهذه تُحسب لنظام الأسد بأنه حافظ على هذه الحال، وليس بالضرورة هو مُنشئها، يُسمح لهم بالعمل والتملك والوظائف، لا فرق بينهم وبين المواطنين السوريين إلا بالترشح والانتخابات في مجلس الشعب، وهذا تطبيق لمقررات جامعة الدول العربية في أوائل ستينيات القرن العشرين، التي وافقت عليها الدول المضيفة ما عدا لبنان ومعظم دول الخليج. لكن مقابل هذه المسحة من الراحة السورية للفلسطينيين كان ممنوع عليهم العمل بالسياسة، خصوصاً التي لا تتناسب مع رؤية النظام، ولم تغب طبعاً العداوة المضمرة من أجهزة السلطة تجاه الفلسطيني باعتباره متهماً دائماً.

اللافت، أنه في الفترة الأخيرة التي سبقت التحركات الأخيرة في سوريا بدأت هناك حال من التململ الشعبي السوري تجاه الفلسطينيين، باعتبارهم يأخذون من مجالات السوريين، وهذه ظاهرة لم تكن موجودة من قبل، وزادت في بداية التحركات، وكأن شيئاً منظماً لاح في الواقع تجاه الفلسطينيين. 

وقف الفلسطينيون في بداية الأحداث على الحياد، وكان لافتاً ابتعاد جيش التحرير الفلسطيني عن المشاركة بالمعارك، على الرغم من محاولة النظام، بناء على فرز طائفي في منطقة اللاذقية (العلوية) استدراج الفلسطينيين من خلال الادعاء أن إطلاق نار جاء من داخل المخيم (مخيم الرمل)، فمُسح المخيم وشُرد أهله الذين يُعدون بالآلاف. وهذا مرة أخرى يؤكد اتهام الفلسطيني الدائم.

إن سوء التقدير عند الطرفين الفلسطينيين الأقوى في سوريا، حركة حماس والجبهة الشعبية القيادة العامة، الأولى بتقديرها أن أصولها الإخوانية وصلت الحكم في مصر وتونس، وبالتالي انطلاقاً من حلمها الدائم للسلطة اعتبرتها فرصتها للتحول عن النظام الذي قدّم لها، بانتهازيته المعهودة، ما لم يقدمه لفصيل آخر على الرغم من تعارضهما العقائدي والتاريخ الطويل من العداوة بينه وبين الإخوان، فالتقت انتهازيتهما (حماس والنظام). بالمقابل خاف الفريق الفلسطيني الآخر المرتبط بالنظام أمنياً ومصلحياً، القيادة العامة، على وضعه بعد النظام، أو ربما أُمر بالتحرك باعتباره من "بلطجية النظام"، فكان الاحتكاك المباشر أو غير المباشر بين الفريقين وحليف كل واحد منهما، حماس والمعارضة الإسلامية من جهة، والقيادة العامة وحليفها النظام. والنتيجة استغلال النظام الفرصة ودمّر بشكل بشع وانتقامي غير مبرر، سوى من الاتهام  الدائم للفلسطيني، بالطيران والمدفعية، وهذا ليس غريباً عليه في مخيمات لبنان.

الإيجابي إلى الآن أن رد فعل النظام وعقوبته الجماعية للفلسطيني لم تصل إلى بقية المخيمات الفلسطينية الأخرى في سوريا. ولم يتضح بعد موقف المعارضة السورية من الفلسطينيين، لكن ما يمكن التكهن به هو أن مشكلة فلسطينية اجتماعية سوف تخلق مستقبلاً، بأي شكل حُلّت المشكلة- الأزمة السورية.

خاتمة

نختم في هذه العُجالة ببعض النقاط:

أولاً،نحن مع الثورة التحررية الإجتماعية السورية، ونُشدد على السورية، وليست المستوردة من الخارج، خصوصاً إذا جاءت ممن هم أشد قمعاً وتخلفاً من النظام السوري.

ثانياً،نتفاجأ بغياب الجماهير السورية، فأين الشعب السوري، المؤيد أو المعارض للنظام، فالظاهر أن هذه الجماهير السورية رضخت لتربيتها باعتبارهم "رعية"، خانعة. فكيف أمة تريد الحرية ولا تعمل عليها ولو بتظاهرة، أو على العكس، كيف يؤيدون نظاماً في مواجهة مؤامرة خارجية؟

ثالثاً، يُشار في خضم هذه الحال الحربية المدمرة في سوريا إلى وضع الجيش السوري المتماسك إلى حد كبير، وجهوزيته وصموده على الرغم من شراسة المعركة، لكن ماذا لو كانت عقيدة مثل هذا الجيش الذي أثبت وجوده قائمة على مواجهة العدو الإسرائيلي؟ انه لدليل على قدرة الجيوش العربية على على الحرب اذا توافر القرار.  

رابعاً،مستقبل الوضع الفلسطيني في سوريا مقلق بغض النظر كيف انتهت هذه المعركة، وبالتالي مزيد من الضعف والمآزق التي ستأكل من رصيد قضيتنا في ظل غياب قيادة ومرجعية فلسطينية حريصة على أهلها، وخوفي من مجازر إضافية أخرى في التاريخ الفلسطيني هذه المرة في سوريا، على غرار ما جرى في الأردن ولبنان، وخوفي أن يدفع الفلسطيني ثمن أي اتفاق في سوريا باعتباره الحلقة الأضعف والأكثر انكشافاً في ميزان الإصطفافات، أو ثمن أي نصر لطرف، فكلا الفصيلين الفلسطينيين اللذين انقسما هنا وهناك استبدل عدالة قضيته بزاروب سلطة الغير.

مرة أخرى، أنا مع ثورة سورية وعربية تنويرية حرية عقلانية شعبية، تقتلع الأنظمة البائدة العفنة كلها، فعندها، وعندها فقط تُحرر فلسطين، ويبدو أننا بحاجة أولاً لمعركة داخلية في المجتمعات العربية قبل التحرير، ودعونا نقلب شعار الستينيات والسبعينيات فنقول لا صوت يعلو صوت الحرية والعقلانية... بدلاً من لا صوت يعلو صوت المعركة مع العدو، حيث جربنا هذا الشعار وتبين أنه لم يكن للمعركة صوت، كانت ميتة، والأنظمة جيفة أكلها العفن والديدان، تحللت لكن بعد أن نشرت "الفايروسات" والروائح الكريهة.

---------------------

*أحمد مفلح: أستاذ سوسيولوجيا المعرفة في الجامعة اللبنانية، ناشط فلسطيني لاجئ إلى لبنان من طبرية.