رأيت النكبة بعيون أبي وأمي وبأحاديثهما الصباحية في البلدة القديمة من القدس وهما يتذكران حي القطمون وحيثيات الحياة في بيتهما المتواضع فيه. لم يكن البيت قصراً كما يستشف من أحاديثهما  بل كان بيتاً متواضعاً يقع ما بين مخيم للجيش الانكليزي ومخيم للأرغون الصهيوني. أحاديث أبي وأمي كانت دوماً تستحث ذاكرتي وتسترجع تجربة الطفل ذي الثلاث سنوات وقد هم والداه وأخوته الأكبر سناً منه ترك البيت دون اخذ حتى صور العائلة وإنما الاكتفاء بالشح  من الملابس وطبعاً بمفتاح البيت الذي مازالت العائلة تحتفظ به مع نموذج الطابو الخاص بالمنزل.

واذكر غزير القرية اللبنانية الوادعة المطلة على البحر وقد كانت مستقراً للعائلة اللاجئة لعام أو أكثر بقليل واذكر أهلها أو بعض أهلها وقد التقيناهم صدفة في أعياد الفصح في القبيبة في إحدى  سنوات الستينات واسترجعنا سوية مرارة تجربة اللجوء واستقبالهم الرحب لنا. واذكر بيت لحم، بعد غزير، وقد نزلت عائلتي في غرفة واحدة في منطقة رأس فطيس بدون كهرباء أو ماء جاري أو غيرهما من الأمور الحيوية. وما زلت كلما مررت  من المكان استرحم على والدي وعلى الألم الذي مرا به في طريقهما من حي القطمون إلى غزير والى بيت لحم وأخيرا في بداية الخمسينات إلى البلدة القديمة من القدس.

 

 وفي باب خان الزيت استقرت عائلتي في غرفة وفرتها لنا حراسة الأراضي المقدسة الفرنسيكانية كنا ثمانية أفراد وابتدأنا  نلملم إطراف حياتنا المبعثرة باللجوء، فعاد الوالد ليعمل في بلدية القدس والتحقنا نحن الأبناء والبنات بالمدارس القريبة داخل السور وكانت بطاقة (كارت) اللاجىء من وكالة الغوث برهاناً للجوء وتذكرة لقبول المعونات المدرسية والغذائية وغيرها في مركز التوزيع قرب الحرم عند باب الأسباط. واذكر يوماً إنني صاحبت فرداً من إفراد العائلة لاستلام المعونات فخفت وارتعبت من الرجل ذي السوط اللاسع الذي كان يستعمله لإجبارنا على الوقوف في الصف وانتظار دورنا لاستلام الرزم سواء كانت الغذائية أو من الملابس. ولم اعد إلى مركز التوزيع قط. واذكر أيضا الذهاب إلى دير اللاتين لاستلام (الطلم) وهو خبز اسود كان الرهبان الفرنسيسكان يوزعونه أسبوعيا على اللاجئين في القدس.

 واذكر أيضا الأستاذ مرقص أطال الله في عمره وهو يحمل قائمة بأسماء الطلبة اللاجئين والذين تدفع عنهم وكالة الغوث جزءاً من الرسوم،  وما إن يعلمنا بالمبلغ من وكالة الغوث حتى يستثيرنا بعض فرح وسرور ذلك لضيق حال الأهل وعدم استطاعتهم تغطية كل الرسوم والمصاريف المدرسية آنذاك. ويذكر المرء الحليب ذي الطعم المر والذي كنا نضيف له المزيد من السكر والذي كانت المدرسة توزعه علينا إثناء فرصة منتصف الصباح وكانوا يعلموننا بان هذا الحليب يأتي كمساعدة غذائية من وكالة الغوث.

 كانت أيامنا في سنوات اللجوء الأولى بداية لحياة جديدة يحمل فيها والدانا ذكريات حلوة لما كان قبل اللجوء ونتأقلم فيها جميعاً كل على طريقته على ضيق العيش وتحدياته. ولكنا والحق يقال عوضنا عن الألم في تعاضدنا وفي تزاورنا وفي إنشاء صداقات للعمر كله. وكان أمل النهوض عند والديّ كما عند الأغلبية من اللاجئين في التأكيد على تعليم الابناء والبنات وتوفير ما يلزم لهم للحصول حتى على الشهادات العليا. فقد كان والديّ يقولان لنا دوماً: ًيمكنهم أن يأخذوا بيوتنا وان يطردونا وان يفعلوا ما يريدون ولكنهم أبدا لن يستطيعوا أن يأخذوا منا ما نتعلمه.ً

رحمهما الله ورحم الرعيل الأول من أهلنا اللاجئين وحقق لنا جميعاً آمالنا في مستقبل نطوي معه صفحة اللجوء ويثّبت حقوقنا غير القابلة للنقض من أي طرف كان.

------------------------------

 د. برنارد سابيلا، عضو المجلس التشريعي- القدس.


--------------------------------------------------------------------------------