هل اليوم يشبه الأمس رغم فرق الزمان والمكان؟ عندما أشاهد في التلفاز ما حدث لأهلنا في غزة هاشم نتيجة الحرب الإسرائيلية العدوانية على القطاع الحبيب، حيث دمرت بيوتهم وأصبحوا لاجئين في مدنهم وقراهم ومخيماتهم؛ يعتصرني الألم وتعود بي الذاكرة الى خمسينيات القرن الماضي عندما كنا نعيش اللجوء بأصعب مراحله وأيامه. أتذكر الخيمة والمعاناة التي واجهنا كما يواجهونها اليوم. الخيمة الدائرية التي لا يزيد قطرها عن ثلاثة أمتار، أو تلك المستطيلة التي لا يزيد طولها عن 4 أمتار المقامة على التراب. الخيمة كانت لكل شيء؛ للمعيشة والنوم، بغض النظر عن عدد أفراد الأسرة. الخيمة التي ما كانت تقي حر الصيف رغم رفع جوانبها كي تدخل الرياح الى داخلها علها تخفف شدة الحر. الخيمة "المراح" فمن يسكنها تماما كمن يسكن على قارعة الطريق، فكل ما بداخلها معرض للمارة. الخيمة أرجوحة الريح، فكم من خيمة أيام الشتاء اقتلعتها الرياح القوية وكأنها ريشة تذروها الرياح، حتى يهرع الجيران للمساعدة في إعادة نصبها وتثبيتها بوضع حجارة على أوتادها المغروسة في الأرض، ووضع حجارة على إطرافها أو ذيولها لعلها تصمد وتقاوم قوة الرياح. أتذكر أيام تساقط الثلوج كيف تتهدم الخيام على رؤوس ساكنيها، وكم من عائلة فزعت ليلا صارخة مطالبة النجدة ويهبوا الشباب للمساعدة ولإزالة الثلوج المتراكمة من على الخيام وهم في ملابس رثة خفيفة لا تقيهم برد الشتاء القارص.

عندما طال بنا الأمد ولم تتحقق العودة كما قضت قرارات هيئة الأمم ولم توفر الحماية، اذكر كيف بدأ يحاول اللاجئون تحسين وضع خيامهم بمد أرضيتها بالطين المخلوط بالقش، وبناء السلاسل الحجرية والطينية على ارتفاع متر على أطراف خيامهم من الداخل. أتذكر كيف كانت النساء والأطفال والرجال يجمعون الحطب وهم حفاة، أتذكر كيف كنا نقف نحن الأطفال في طابور طويل أمام خيمة ما يسمى بالمطعم حتى نحصل على وجبة غداء ... نعم اذكر كيف بدأ يتشكل المخيم قبل أكثر من ستين عاما؛ هذا المخيم الذي أصبح اليوم اختصارا للنكبة، وتعبيرا مكثفا عن استمرارها.

في الصفوف الابتدائية كنا ندرس في الخيام، حيث كان المخيم عبارة عن خيام ممتدة بما فيها خيام المدرسة، العيادة، المطعم، مركز توزيع المساعدات، إدارة المخيم. كانت خيام الصفوف أكبر حجما وكانت تعرف بالصيوان، أتذكر عندما كنا أطفالا في الصف الأول والثاني الابتدائيين كيف كنا نضطر لرفع أقدامنا العارية الباردة عن الأرض حتى لا تبتل من مياه الأمطار التي تجري تحت أقدامنا. أذكر "يوم الرش"، وهو رش التلاميذ بمادة الد. دي. تي وذلك لقتل القمل والبق. واذكر أن احد أيام الرش صادف مرة يوم عطلة، يومها قال احدنا لعامل الرش: "والدي يسلم عليك وبيقولك كثر لي رش". لقد اعتاد البعض على ذلك كي يقوم الأهل باستخدام الد. دي. تي في رش فراش الخيمة.

ان ركام البيوت والمؤسسات والمصانع وتجريف الأرض واقتلاع الأشجار في غزة يذكرني بيوم ذهابنا بعد حرب عام 1967 لزيارة قريتنا التي احتلت عام 1948، فقد تجمع بعض من الأهل والأصدقاء وذهبنا لزيارة قريتنا في مجموعة من الحافلات. وكان معنا بعض من كبار السن والشباب الذين ولودوا وعاشوا في القرية وهم يتحدثون ويحكون لنا ونحن في الطريق عن البلدة وأحيائها وبعض من ذكرياتهم. ولكن كانت صدمتي كبيرة وخيبت أملي أكبر حيث كنت متحمسا لتلك الزيارة علني أزور قبر والدي الذي استشهد ودفنه جدي في بيتنا في القرية يوم التهجير.  لقد وجدنا القرية مهدمة وكأنها جبل من الركام، كانت محاطة بسياج منعا لدخولها. ولكن عزاءنا كان في جولتنا في أرضها وحديث الآباء والأجداد: هذه أرض فلان، وهذه أرض علان، وهذا كرم محمد وهذا زيتون يوسف، وهذا جبل كذا... لازالوا يذكرون كل المواقع والآبار المحيطة بالقرية، وكنت أرى الفرح والحزن في عيون الرجال والنساء في آن واحد: فرحة اللقاء والذكريات، وحزن ودموع الفراق. وحينها تذكرت قول "أبو العلاء المعري"

صاح، هذي قبورنا تملأ الرجف، فأين القبور من عهد عاد

خفف الوطء، ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد

نعم إن قبور الآباء والأجداد تملا أرض فلسطين وان ترابها مروي بدمائهم، وما ترابها الا من أجسادهم.

فهل ننسى ماضينا؟ فمن ليس له ماض ليس له حاضر ولا مستقبل. وعهدا سنبقى متمسكين بحقنا في العودة فهو حق لا ينسى، وليس منا من يفرط أو يتنازل عن ذلك.

-----------------------------------

عفيف غطاشة، رئيس مجلس إدارة مركز بديل.


--------------------------------------------------------------------------------

©2003-2009