في الذكرى الحادية والستين للنكبة الفلسطينية الكبرى أصدرت دار الشروق في عمان ورام الله ثلاثة كتب في مجلد واحد للكاتب سلمان ناطور هذا الربيع من عام 2009. المجلد المقصود حمل عنوان "ستون عاما / رحلة الصحراء"، والكتب الثلاثة هي: ذاكرة ، وسفر على سفر ، وانتظار. يقع المجلد في 456 صفحة من القطع المتوسط.

 هذا كتاب النكبة، وصورة النكبة، ومسيرة النكبة. فيه تتجلى النكبة الفلسطينية بوضوح وتتأصل كواقعة تاريخية دامية ومستفزة. فيه يشير الكاتب باصبع دامية الى مصدر النكبة وبأصابع واهنة الى ضحاياها. وهي أصابع استمدت الوهن من شدة المؤامرة وتكالب الأعداء وخداع الأقارب والأباعد. فيه يرسم الكاتب المبدع سلمان ناطور وطنا حقيقيا يلونه بالدم والدموع والزعتر والضحك والطبيعة. يجمع فيه التاريخ الشفوي المروي بلسان من عايشوه على جلودهم، ويغوص في الذاكرة الثقافية للشعب والذاكرة الأبداعية للكاتب نفسه فيحلق في فضاء الخيال الأبداعي القصصي والشعري المعبأ بروح الحنين والقهر والحب والكره، هذه المتناقضات الثنائية يوضحها الكاتب بقدرة فنية عالية تأسر بأسلوبها القارىء فتمتعه وتفيده وتحرضه.

 لقد تجاورت القصة الفنية والقصة الصحفية الى جانب الحكاية والمقابلة، وتقاطعت الخاطرة مع القصيدة في فضاء مفتوح من التهويمات واللقاءات الحقيقية والمتخيلة ذات الأصل الواقعي مع شخصيات من لحم ودم وشخصيات من بنات أفكار الكاتب يصدق فيه الرمز والأشارة الى شخصيات معروفة بعينها أو وقائع معروفة.

 لقد نقل الكاتب سيرة وطن، سيرة المكان والزمان والناس والزعتر، سيرة فلسطين التي كانت والتي هي كائنة عليه الآن، وأشار الى المسقبل المنتظر في كتاب كامل حمل عنوان ( انتظار)، وقد حرص الكاتب سلمان ناطور على نقل الوطن فلسطين بجغرافيتها ومدنها وقراها وناسها وعاداتها ولهجتها، الوطن الذي كان والوطن الكائن وهو يذوب بناسه ويتلاشى " بنعومة" ممنهجة ويتعبرن لينساه أهله ولا يتعرفون عليه.

 لقد اقتادت الحفيدة جدها المناضل القديم المنسي غير المعروف حتى من حفيدته فلا تعرف شيئا عن ماضيه واسهاماته، وهي نفسها قد نسيت لغتها العربية والعادات العربية، مما يعني ضياع الهوية الذاتية. كما أشار الكاتب الى نموذج الشاب اللامبالي المتفرنج شكلا ومسلكا ومضمونا ليحذر من خطورة التماهي مع الآخر الى حد الذوبان.

 أما المدينة ( حيفا نموذجا ) فينقلها الكاتب على أنها مدينة غريبة عن نفسها وعن انسانها، كما أن انسانها فيها غريب ومغترب، فقد كان عباس الفران يوزع الخبز والجبنة صباح كل يوم، أما الآن فصار الخبز ( بيتا ) بلا طعم ولا حكمة... لقد صار الفلسطيني لاجئا في وطنه.

 ينقل الكاتب بلوعة سيرة الغربة المكانية والزمانية وسيرة الأغتراب الأنساني في بلاد احتلها الغرباء وحين عاد بعض أهلها اليها صاروا غرباء أو وجدوا أنفسهم غرباء فيها وعنها، غربة مكانية ونفسية وفكرية، غربة هوية وانتماء ومصير. الكاتب ينقل لنا الواقع القائم بلغة اللامنطق الكائن بحكم قوة الواقع وحدة تغريبه، لذلك فانه يحتال على هذه القسوة الطاحنة بالسخرية؛ السخرية في اللغة وفي الموقف، وهو يوظف ثقافته ليدعم آراءه.

 من هنا نجده وقد عاد الى أسلوب ألف ليلة وليلة الحكائي، وأسلوب غسان كنفاني الروائي برموز لغته وشخصياته، ومن نجيب محفوظ فلسفة أحداثه وشخصياته وقوة لغته، وعرّج على يحيى حقي وقنديل أم هاشم، وجارى متشائل اميل حبيبي في سخريته ولغته، ومحمود درويش في عمق طرحه وجمالية لغته وعرضه. لقد جمع بعض تعاليم الدين أو الأشارات الدينية، وأقوال الحكماء وحكمة البسطاء في ثوب سرديّ جميل وساحر، فيه الحركة والتشويق واللفظة المعبرة والصورة المؤثرة ذات الدلالة المعنوية والأثر النفسي.

 لقد جمع أسلوب المقال الصحفي والقصة والقصيدة والخاطرة ولغة السينما والسيناريو والحوار، فنقل بؤس الشخصيات وفقرها وألمها وأطلعنا على عالمها وأمنياتها من خلال عالمها الجواني النفسي ولغتها البسيطة الأليفة.

 شهادات حية وتاريخ حي صاغه قلم الأديب سلمان ناطور محافظا على أصالته ونكهته وتاريخيته. في كتابه الأول ( ذاكرة ) يتواصل مع مضمونه العام من خلال سيرته الذاتية التي قامت امتدادا للسيرة الجمعية العامة للمكان والزمان والشخصيات ...هكذا جاء الكتاب الثاني ( سفر على سفر) ليمتع ويجرح ويدهش ويفاجىء ويقدم أسلوبا جديدا ذكيا في لغته ورؤاه ووصفه وعمق أفكاره وأصالة مفاصله.

 ثم جاء الكتاب الثالث (انتظار ) لينقل مشاهد وصورا والوانا للمنتظرين ويؤكد على انتظارهم ومأساتهم وخيبة أملهم وقدرتهم أحيانا على المنافسة والتأثير وضياعهم أحيانا أخرى وذوبانهم في عالم جديد غريب متوحش وان كانت تضيء عتمته بعض الفلاشات البسيطة ضعيفة الأثر والتأثير.

الشيخ مشقق الوجه هو امتداد للشعب ذاته المتوحد مع الأرض المندمج بها، هو الأرض نفسها. أما الشيخ عباس جامع المفاتيح فانه الشعب المنتظر وهو أم الروبابيكا في المتشائل. والمفاتيح نفسها التي يجمعها عباس فهي مفاتيح حقيقية ومجازية، اذ لكل شيء مفتاح...

 سلمان ناطور كتب هنا التاريخ بلغة القلب وحكاه بصدق من خبروه. وحين كتب سيرته الذاتية وجدناه يغوص في لغة الشعر لأنها لغة القلب والحنين والحسرة والأنفعالات كلها، فصاغ مزيجا أسلوبيا جميلا.

 (سفر على سفر) عنوان الكتاب الثاني / كتاب السيرة الذاتية، اذ يبدأ الشعر يتدفق مع العنوان نفسه المحمّل بالدلالات والأيحاءات والصور لتسري في مفاصل اللغة الوصفية وتكتسي بالعاطفة والحنين والشوق والحب، ولتأخذ تجسيدها على جسم الصفحات من حيث التوزيع للجمل والألفاظ.

 سلمان ناطور في كتاب النكبة هذا ( ستون عاما – رحلة الصحراء ) يكتب ويصرخ وينادي وينتقد ويعلّم ويعلم وينتظر ويحذّر. انّه يبكي ويضحك، ويمتع ويفيد ويستفز. وانه ليجرح ويؤشر الى الجرح القديم الذي يجب أن لا ينسى. وهو لا ينسى انتظاره مع المنتظرين، فلا يضيع في اليأس ولا تأخذه الحيرة. انه يعرف ما يريد، ويريدنا أن نعرف نحن ما يريده هو وما نريده نحن.

 هذا كتاب آسر في أسلوبه ومضمونه. فيه ما هو جديد ومفيد. أقترح تدريسه في مدارسنا كتاريخ، ولغة، وتعبير، وسخرية فنية، ومكوّنات الهوية المبثوثة في ثناياه، وللتدريب على البحث والتحليل والوقوف على معاني الوطن ومكوّناته ومفهومه.

 --------------------

* إبراهيم جوهر: قاص وناقد فلسطيني من القدس المحتلة.