بقلم:ميشيــل كيــلو

مرت فلسطين، إلى اليوم، في لحظتين تاريخيتين مهمتين. بدتا منفصلتين، ثم بدأتا في السنوات الأخيرة تتداخلان، مع أن الأولى منهما كانت خارجية المصدر أساسا، جسدها الاحتلال الصهيوني، الذي اقتلع شعبها العربي ومزقه، بمعنى الكلمة الحرفي، وثانيتهما لحظة راهنة، تفاعلية، يختلط فيها الخطر الخارجي بالداخلي، في ظل انقسام ذاتي لا مثيل له في تاريخ ما بعد العام 1965 ، عندما فجرت حركة فتح المقاومة، وشكلت منظمة التحرير الفلسطينية مع بقية قوى وأطياف العمل السياسي والمسلح، ووضعت البرامج التي تكفلت بتوحيد الإطار الاستراتيجي العام، الملزم لفصائل العمل الوطني، الذي اكتسب، ضمن هذه الحاضنة، طابعا يتجاوز الفصائل،   استمر يفعل فعله في الساحة. وقد صار الخطر الخارجي الإسرائيلي، أكثر فأكثر داخليا، ويتنوع ويتعاظم، وتتناقص القدرة على احتوائه نتيجة هذا الانقسام بالذات، الذي إما أن يتم احتواؤه بسرعة وحكمة، في إطار يتسع للجميع، يرجح أن لا يكون إطار المنظمة القديم عينه، أو أن يقال ذات يوم ما لا يستطيع أحد قوله عن المرحلة الراهنة، مرحلة 1885 – 1965: لقد انقسمنا وتفرقنا ففشلنا.

 

بدأت المرحلة الأولى بمشروع تبنته أطراف في السياسة الاستعمارية الدولية استهدف تحويل فلسطين إلى قاعدة تجمع غريب، يهودي، حولته سياسة عنصرية وأيديولوجيا توسعية إلى صهيوني، أريد له أن يكون جزءا من خطط وسياسات دول أجنبية كبرى في الوطن العربي عامة وفلسطين خاصة، التي صممت على جعل الوحدة العربية ممنوعة بالقوة القاهرة، إن استحال منعها بقوة السياسات والمصالح، عبر احتلال موقع هو القلب من الوطن العربي، بما يرمز إليه بالنسبة إلى ديانات العالم المختلفة، ويحتله من موقع حاسم الأهمية في استراتيجيات القوى الدولية جميعها، التي تعد وحدة العرب خطا أحمرا في حسابات مصالحها. وبما أن المشروع كان يجب أن يكتسب دوره من صفته المغايرة لهوية المنطقة، أي من طبيعته كتجمع أجانب مسلح، فقد قامت سياساته على تقويض وجود صاحب الأرض الأصلي، شعب فلسطين، وإخضاع جيرانه، الأعداء الذين لن يفيد معهم شيء غير القوة. لذلك، كان من الضروري لنجاح المشروع أن لا يبقى فيه أحد من حملة هوية البلد الأصلية، أي العربية، من جهة، وأن يرتبط، من جهة أخرى، بالقوى المعادية للعرب عموما برباط رحم ووجود، ويرى وظيفته كقاعدة متقدمة لها، ولا يسمح بفك علاقاته معها، لأي سبب كان، بما هو جزء منها نقل إلى الأرض العربية. بالمقابل، كان من الضروري أن يزود الخارج هذا التجمع بقدر من القوة، الاقتصادية والمسلحة، يجعله قادرا على إنزال الهزائم بخصم يملك إمكانات أكبر كثيرا من إمكاناته، يفوقه عددا بمائة مرة ، كما كان من الضروري تركيز قوى الخارج على هذا الخصم، لمنعه من تعبئة طاقاته البشرية والمادية والروحية وزجها في المعركة، لأن أية معركة تستحق اسمها ستكون حتما نهاية التجمع والمشروع وما يقومان به مهام وأدوار. وقد تم بالفعل الاشتغال بالعرب، لهدف استراتيجي رئيس هو: إبقاء قواهم بعيدة عن ساحة الصراع ضد إسرائيل، منشغلة بعضها ببعض، مثلما حدث خلال معظم الفترة التالية لسايكس / بيكو وحقبة تشكل ما عرف بالدولة الوطنية العربية بعد العام 1920. 

هذه الحسبة اتفقت مع الواقع، إلا في نقطة واحدة هي: أنه لم يكن ممكنا تغييب صاحب الأرض عن المواجهة، رغم أن القسم الأعظم منه غيب عن الأرض وطرده وشرد ولوحق في المنافي، وتسلط النظام العربي عليه وكبته وكتم أنفاسه وجوعه.. الخ. لم ينجح أحد في تغييب شعب فلسطين: صاحب الأرض الأصلي، عن المواجهة، رغم أنه كان معظم الوقت بلا سلاح.  

واليوم، وبعد مرور نيف ومائة عام على بدء المشروع، ونيف ونصف قرن على قيام دولته، يبدو شعب فلسطين وكأنه عصي على الهزيمة بيد أعدائه، قادر على الصراع لقرون أخرى، كي يسترد وطنه هويته الأصلية، مهما تطلب ذلك من تضحية وجهاد، بينما تساور التجمع الغريب شكوك جدية في قدرته على البقاء حيث هو، في أرض ليست له وسط بشر لا ينتمي إليهم، ولا يريدونه بينهم. ولا مبالغة في القول: أن فلسطين صارت اسما للحرية، وإن شعبها غدا رمزها الأكثر نقاء ومبدئية خلال تاريخ البشرية الحديث. 

أخيرا، فإنني لا أخاف على فلسطين من أعدائها، لا أخاف أن ينزل هؤلاء بها هزيمة نهائية، بل اعتقد جازما أنها ستبقى في ساحة الصراع، مهما فعلوا. لكنني أخاف عليها كثيرا من الانقسامات والتناقضات الداخلية، التي لعبت بالأمس القريب دورا كبيرا في انتصارات العدو، ويمكن أن تكون اليوم أيضا أعظم خطر يهددها. 

____________________

ميشيل كيلو هو كاتب سوري من مواليد اللاذقية في العام 1940. وهو عضو جمعية البحوث والدراسات. له العديد من المؤلفات والإصدارات كما ترجم عددا من الكتب الفكرية الى العربية.