بقلم:هشام نفاع

بداية متفائلة: خلال المسيرة إلى قرية أم الزينات المهجّرة على كتف الكرمل، يوم الثاني من أيار الجاري ، في نفس اليوم الذي احتفلت فيه إسرائيل باستقلالها المنقوص (لأنّ الاحتلال والعنصرية ينهشانه)، سمعتُ ملاحظة لافتة، من شخصين. فقد علّق كلّ منهما، على حدة، بأنّ المشاركات والمشاركين في المسيرة يبتسمون ويتبادلون التحيّات والحديث، بل إنّ بعض الشباب كان يغنّي. 

برأيي أنه لا يمكن هندسة ما يشعر به البشر (رغم قدرة السلطة على غسل الأدمغة وتهويش الغرائز!). وحين يحافظ المحتجّون في أمّ الزينات على معنوياتهم العالية ويعبّرون عنها، فهم يعلنون ثقتهم بعدالة مطالبهم وبتفاؤلهم بأنّ الظلم ليس قدرًا محتومًا. 

مرّة أخرى: في واقع كواقعنا الراهن، بكل ما فيه من بطش وقمع واستغلال وجرائم سياسية، سيصبح التشاؤم سلاحًا قاتلا يدفع الجماهير لليأس أو للبحث عن فردوس مفقود في الماضي، أو ملجأ في عوالم الوهم، من الشعوذات وحتى المخدرات.

 

أما التفاؤل الواعي فيقوم على القناعة بأنّ الحياة محكومة بالتغيير، وأن التغيير يتفاعل في ظروف غير جامدة. صحيح أنّه لا يمكن تغيير العالم كلّه مرّة واحدة وبحركة واحدة. مع ذلك يظلّ هناك ما يمكن (ويجب) القيام به. فالتفاؤل هو موقف سياسيّ، أيضًا.

في المسيرة الى القرية المهجرة أم الزينات، التقيت مشاركيْن أعادا الى ذهني القصة التالية. انهما المؤرخ إيلان بابيه والباحث تيدي كاتس. فقد كانت وقعت في جامعة حيفا (القريبة بالصدفة من موقع أم الزينات. فكلاهما على الكرمل) حادثة بدت يومها "إجرائية" لكنها بقيت عميقة الدلالات. 

يومها كان الممر الواقع في الطابق الأول من البناية الرئيسية للجامعة مليئًا بالعيون. عيون غاصت تحت الحواجب المرفوعة استهجانًا مما قرره رئيس الجامعة، بروفيسور يهودا حيوت.
بدأت القصة حينما بادر المؤرخ إيلان بابي الى تنظيم يوم دراسي يتناول حرب 1948 برؤية تحليلية بحثية مجددة، تقدّم مختلف "الروايات". لكن تبيّن وجود مواضيع يُمنع النظر المجدّد إليها ولو بثمن الكتم الأكاديمي للأنفاس. بل كأنه يجب على تلك المسائل، كما يبدو، أن تظل مغطاة بغبار الأمس. وهو الدليل على شدة راهنيتها. ولكن حتى القمع يفقد في حالات كهذه إحدى احتياجاته الهامة:حفنة  الحياء..
يومها توجه د. بابي الى رئيس قسم العلاقات الدولية في كلية العلوم السياسية، د. ميخائيل غروس بطلب تنظيم اليوم الدراسي، لمتابعة وعرض وتحليل الرؤى الأكاديمية في تناول حرب 1948 لدى اسرائيليين وفلسطينيين وعرب بمشاركة عدد من الباحثين والكتّاب: د. أسعد غانم، د. أودي أديب، الكاتب سلمان ناطور والباحث تيدي كاتس (صاحب البحث الشهير عن مجزرة الطنطورة، والذي قامت الجامعة بشطبه رغم أن أستاذه أجازه بعلامة امتياز. رئيس قسم العلاقات الدولية تجاوب معلنًا موافقته على تنظيم اليوم الدراسي.
من هنا يبدأ مسلسل مثير (للعجب وغيره)، فقد تدخل عميد مدرسة العلوم الاجتماعية بروفيسور أريه رتنر وأعلن إلغاء اليوم الدراسي.. أشهرَ "فيتو"! ومما قاله العميد إن هذا القرار مشترك بينه وبين رئيس الجامعة أيضًا. أما تسويغ تلك الخطوة المفرطة في "الديمقراطية وحماية الحريات الأكاديمية" فقد كان ما اعتبروه "إشكالية مشاركة د. أودي أديب". لماذا؟ لأنه كان أدين في السبعينيات بـ "علاقات مع العدو السوري" وسُجن.
حسنًا،إذن فالمَخرج المتاح من هذا الانفتاح الرؤيوي الذي يشار إليه بالبنان كان محاولة إقامة اليوم الدراسي كحصة غير منهجية ضمن قسم العلاقات الدولية. لأن الادارة الجامعية بلّغت المنظمين أن أي نشاط "يحتاج لترخيص". وبما أن الحصة لا تحتاج لذلك "الترخيص" فقد ظن المنظمون أنهم اجتازوا "العقبات الديمقراطية". ولكن هيهات.. فقد أصدر الرئيس أمرًا موقعًا يعلن فيه منع إقامة هذا اليوم الدراسي في أية بقعة من الحرم الجامعي. حتى ولا في أحد المقاهي. لا بل انه أرسل قوة من رجال الأمن الى القاعة التي كان يُفترض أن تشهد النشاط، حيث أغلقوها وما كان ينقص سوى ختمها بالشمع الأحمر.

هنا اختلط الاستياء والغضب بالتندّر.

فالأمثال تصدق أحيانًا. "شرّ البليّة..".. رسالة الرئيس هي "فرمان" عثماني لا يمكن خرقه، قال البعض.. وآخر تساءل عما إذا كانت "القوات الخاصة" في الطريق.. يومها قال مسؤول الأمن ردًا على سؤال وجهته اليه بهذا الخصوص إنه "ينفذ الأوامر فقط". صياغة ليست غريبة عن واقعنا..
عدد من المحاضرين لم يخفِ غضبه. وقد نشروا ردودهم في موقع الانترنيت الجامعي الداخلي. د. يوفال يونائي من قسم علم الاجتماع قال: "إن إلغاء النشاط بأمر من فوق يناقض الروح والحرية الأكاديميتين، حتى لو كانت لدى ادارة الجامعة الصلاحية لذلك. وهو احتمال مهزوز من ناحية قانونية. على أية حال فإن هذا الحظر يناقض الحاجة في انجاز التسوية ومعالجة جروح الصراعات والعداء".
بروفيسور ميخا ليشم من قسم علم النفس قال: "إن هذا السلوك لا يُغتفر وهو يستدعي تفسيرًا مقنعًا من سلطات الجامعة. أخشى أن العديد من زملائنا ومن الصحفيين سيتساءلون بدهشة عن سمعة الجامعة، ألم يكن من الحكمة إجازة اليوم الدراسي وترك المسؤولية عنه لمنظميه، اذا كانت هناك حاجة في ذلك أصلا؟". وقد اختتم بكلمات قاسية: "في كل الأحوال سنظل في هذا الوحل الذي يغطي وجوهنا".
بروفيسور يوسي غوطمان اتهم رئيس الجامعة بـ "المساس بسمعة جامعة حيفا كمؤسسة أكاديمية منفتحة وحرة". وفسّر موقفه كالتالي: "إن المؤسسة الاكاديمية تقوم على مبدأ حرية التفكير وحرية الرأي، طالما لا تتناقضان على الأقل مع القانون. وممنوع أن يقوم صاحب وظيفة في الجامعة، مهما كانت درجته، باستغلال مكانته لوضع حواجز أمام هذا المبدأ، حتى لو كانت الأفكار المطروحة غير مقبولة عليه".
د. ايلان بابي، المبادر لليوم الدراسي الذي شطبته "رقابة الأكاديميا"، (ويا لها من توليفة!)، اعتبر يومها أن هذه الحادثة ليست وحيدة. بل ان "هذا هو الواقع اليومي في الحرم الجامعي، الذي يعكس التدهور العام في في حقوق المواطن والانسان في إسرائيل". بابي يربط المسألة بالسياق الاسرائيلي الأوسع الذي لا يزال أبرز ما فيه هو الاحتلال. ويقول: "إطلاق النار على الصحفيين وقتل ناشطي حقوق الانسان في المناطق المحتلة من جهة، وسلطة الارهاب والتخويف في الجامعة من جهة أخرى تشكل جزءا من نفس الظاهرة". وتحدى الصامتين من بين زملائه المحاضرين مؤكدًا: "طالما واصلوا صمتهم على تدمير الحياة الأكاديمية في المناطق المحتلة، فلا يمكن للجامعات في اسرائيل أن تكون جزءًا من العالم المتنور والمتقدم الذي تطمح للانضواء تحت لوائه. إن العديد من الزملاء يستصعبون التعبير عن تضامنهم، كل واحد وواحدة لأسبابه. يبدو أنهم لم يذوّتوا بعد العبرة التاريخية من الماضي. فاليوم أنا، وغدًا سيأتي دورهم.. العديدون منهم جاءوا من عائلات عانت على جلدها من كتم الاصوات التدريجي الذي رافق صعود النازية والفاشية والدكتاتوريات في أمريكا اللاتينية. إنهم يعيشون حالة من الانكار الذاتي، وكأن هذا لن يحدث لهم".
هذه القضية المركبة بل الخطيرة التي طالت أساسيات الخطاب والممارسة الأكاديميين تحولت الى ما يلي من خلال سطور (سطر) الرد الرسمي للناطقة بلسان الجامعة: "اليوم الدراسي لم يكن بحسب المعايير الأكاديمية لجامعة حيفا". بمعنى ما، كانت الناطقة محقّة. فمعايير بهذه القامة تغتال نفسها وما تمثّله من أكاديمية. ** 

حادثة جامعة حيفا التي حملت في طيّاتها حظرًا على الاقتراب من تعقيدات عام النكبة، 1948، هي بمثابة ذلك الذي يأبى سوى الطغيان على الذاكرة. فتكتيكات وممارسات التكتّم تتفاعل بشكل معكوس: لأنها تفضح المكتوم على الدوام وإن بدا كأنه خبا.

لذلك، فلم يكن من قبيل الصدفة أن تعود مخاوف ما تطويه/تحمله تلك الذاكرة عندما شنت واشنطن حربها على العراق مطلع 2003.

فقد تعالت في حركات اليسار الراديكالي حينها المخاوف. كان أول ما تبادر الى الأذهان هو ذلك المصطلح الذي يثير القشعريرة: الترانسفير.

فالحديث بلغة "التطهير العرقي" هذه لم يعد مقتصرًا على القوى التي أسموها مرة "يمينية اسرائيلية متطرفة"، بل بات أحد المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة. ورغم أن هذا غير معلن بوضوح فإن سياسات هدم البيوت والتضييق وكل العقوبات الجماعية وترك الرّسن لعصابات المستوطنين في انفلاتها على المدنيين العزّل لزيادة توسعها الكولونيالي، والجدار لاحقًا، أثارت المخاوف. يومها كانت قرية يانون قرب نابلس تشعل الضوء الأحمر. ففي هذه القرية (محيط نابلس) كاد مخطط الترانسفير ينجح لولا جرأة أصحاب الضمائر العرب واليهود الناشطين معًا، الذين تصدوا مع الأهالي لمخطط افراغ  قريتهم. وتزامن ذلك مع مساعي جهاز الاحتلال لتهجير أهالي جنوب جبل الخليل بغية شق محور يربط مستوطنات المنطقة لخلق مساحة استيطانية مترامية، مما زاد من توهّج القلق.
كان هناك أكثر من مغزى للخشية من أن جهاز الاحتلال  والسياسيين قد لا يتورّعوا - تحت غطاء حرب الديمقراطية على العراق!- عن استكمال خططهم الدموية الهادفة لفرض الواقع السياسي الذي يخدم مصالحهم، وبأبشع الممارسات والموبقات. حتى من الصنف الذي يعيد الى الأذهان عام 1948. 

بعد تلك الفترة جاء مشروع الإحتلال الأضخم: اقامة جدار الضم والفصل العنصري. وهو صيغة مستحدثة لتنفيذ أشكال من "الترانسفير الداخلي" بغية تمرير مشروع "الحفاظ على كتل استيطانية" تتساوق مع "تطهير" خطوط الانسحاب الاسرائيلي أحادي الجانب من الفلسطينيين. وهو خطر لا يزال ماثلا. فمن يقرأ الخطوط السياسية العريضة لحكومة ايهود أولمرت الجديدة، ويتذكّر ما قالته قبل شهور وزيرة خارجيتها تسيبي ليفني من أن  الجدار "سيشكـّل الحدود المستقبليّة لإسرائيل"، يجدر به التريّب وتوخي الحذر.
فقد يستبعد البعض إمكانية تنفيذ ترانسفير "كبير" وهذا التقدير مفهوم. ولكن الخطر الملموس أكثر من غيره هو اقتراف جرائم ترانسفير داخل الضفة الغربية نفسها. بالذات على طول ما يعتبره الجنرالات "مقاطع استراتيجية". جرائم من "القطع الصغير"، ولكن مشتقة اشتقاقًا من التاريخ المحظور لما وقع عام 1948. فعلى الرغم من أن النكبة هي مفصل تاريخي، لا تزال تداعياتها تثير المخاوف، لأن أحدًا من رسميي اسرائيل لم يعلن بعد استخلاص العبر!  

لقد اعتبرت بداية هذا الحديث متفائلاً، فهل يمكن للخاتمة أن تكون متفائلة مثلها مثل المقدمة وسط كل هذا؟ سيظل الأمر منوطًا بسؤال الأسئلة: حكمة الممارسة الفلسطينية وصمودها، واستقطاب شركاء هذا الشعب داخل المجتمع الإسرائيلي، على قلتهم، وفي العالم أجمع من أجل إنجاز مطالب قضيته العادلة. فلم يحدث أبدًا أن تحقق نيل المطالب لا بالصلوات ولا بالتمني!
--------------------------------------------------------------------------------

هشام نفاع هو صحفي فلسطيني وناشط سياسي يساري، يقيم في مدينة حيفا