إسرائيــل بعــد انتخابــات 2006:

بقلم: أنطــوان شلحـــت

الخارطــة الحقيقيــة تنــزاح يمينــًا وبصــورة متطــرفة" 

حملت نتائج الانتخابات للكنيست الإسرائيلي الـ 17 (التي جرت في 28 آذار 2006) عدة دلالات سياسية واجتماعية وفكرية، فيها ما أحال أساسًا إلى التركيبة المتوقعة للحكومة الإسرائيلية المقبلة وإلى أجندتها العامة، بمقدار ما يحيل إلى مستقبل علاقة إسرائيل الخارجية مع الجانب الفلسطيني وخصوصًا ما هو متعلق بالعملية السياسية، فضلاً عن إحالاتها إلى التطورات الداخلية السياسية والاجتماعية والحزبية. يتناول هذا المقال أبرز هذه الدلالات وتأثيرها على مستقبل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، وكيفية انعكاسها في مجال السياسة الداخلية حيال المواطنين العرب. 

هل انهار اليمين المتطرّف؟ 

إعتبر الكثير من المعلقين والمحللين وكتاب الأعمدة الصحافية الهزيمة النكراء التي مُني بها حزب "الليكود" مؤشرًا دالاً إلى انهيار اليمين المتطرف، الاستيطاني، وتحديدًا على خلفية موقفه ضد خطة الانفصال عن قطاع غزة وأجزاء من شمال الضفة. فهل انهار اليمين المتطرف فعلاً؟.

 

 

 

- في جردة حسابية بسيطة، قد تبدو جافّة بغض الشيء، لا يجوز التغاضي عن أن قوة المعسكر اليميني المتطرف في الكنيست الـ17 قد ازدادت إلى حوالي نصف المقاعد الـ120. والمتشائمون أكثر قد يرون أن قوة هذا المعسكر تضاهي الغالبية المطلقة، أي 50 بالمائة زائد واحد.

إذا أخذنا في الاعتبار أن هذا المعسكر الواضح يضم الأحزاب التالية: يسرائيل بيتينو، هئيحود هليئومي- المفدال، شاس، يهدوت هتوراة والليكود فإننا نصل إلى 50 عضو كنيست. وإذا أضيف إلى هؤلاء أعضاء كنيست يمينيون في كديما، مثل المستوطن عتانئيل شنلر ونائبة الوزير روحاما أبراهام والوزير تساحي هنغبي وأشباههم، فسنصل بسهولة إلى رقم يزيد عن 60 عضو كنيست. 

- في الكنيست السابق الـ16 بلغ عدد أعضاء كتل هئيحود هليئومي ويسرائيل بيتينو والمفدال 12 عضوًا. أما في الكنيست الحالي الـ17 فإن هذه الأحزاب الثلاثة ارتفع تمثيلها إلى 20 عضو كنيست، أي بزيادة حوالي ضعفين. 

- تتمثل إحدى ميزات العنصرية الشاطّة في الكنيست الجديد أيضًا في العودة التقليدية إلى استعمال مصطلح "الغالبية اليهودية"، المطلوبة لأية خطة منوطة بانسحاب من المناطق (الفلسطينية).

- لا ينبغي التقليل من النزعات اليمينية الكامنة داخل حزب ائتلافي مثل "شاس"، مع أنه بالمفهوم العام لا يمثّل خيارًا سياسيًا. فقد طرأت على حزب "شاس" تحوّلات عميقة في السنوات الأخيرة، بحيث تحوّل إلى حزب سياسي يميني بشكل واضح للعيان بعد أن تردّد سنوات طويلة وراوغ بين اليمين وبين اليسار الصهيوني.

عن "الإجماعات الوطنية" الإسرائيلية الراهنة 

شهدت انتخابات الكنيست الـ17 مجموعة من "الإجماعات الوطنية"، التي على ما يبدو ستتحكم في التطورات المقبلة. 

ونشير في هذا الشأن إلى ما يلي:

- مضت إسرائيل إلى هذه الانتخابات وهي أكثر تمسكًا بسياسة الضمّ والتوسّع والعدوان، التي لم تكفّ عنها يومًا. أما "الرؤيا" حول حلّ "دولتين للشعبين"، التي لا ينفك البعض يروّج لرسوخها في المسلكية السياسية الإسرائيلية العامة، فتبقى في هذه البرامج لا أكثر من "ضريبة كلامية" بينما هي في الممارسة مجرّد رؤيا غائمة مغلّفة بكل ما في مقدوره أن يفضي إلى المزيد من تمكين الدولة الإسرائيلية وتعزيز أمنها، في جهة وإلى استئصال كل ما من شأنه أن يجعل الدولة الفلسطينية العتيدة دولة قادرة على الحياة، وخصوصًا موردي الأرض والحيّز، في جهة أخرى موازية ومكمّلة.

الصحافي جدعون ليفي ("هآرتس") أشار، مثلاً، إلى ولادة "إجماع وطني" جديد في المجتمع الإسرائيلي في الآونة الأخيرة حول ما يعرف بـ"الكتل الاستيطانية". كما أشار إلى أنه في الوقت، الذي يشير فيه المحللون واستطلاعات الرأي إلى انزياح مزعوم نحو اليسار وإلى وجود أغلبية مؤيدة لإقامة دولة فلسطينية وإخلاء مستوطنات، تتزحزح الخارطة الحقيقية يمينًا وبصورة متطرفة. فإن برامج الأحزاب الكبرى الثلاثة كديما والعمل والليكود- يمين ووسط ويسار كما يبدو ظاهريًا- موحّدة تماما في إجماعها حول إبقاء المستوطنات الكبرى في يدي إسرائيل. وحتى برنامج جنيف، الذي يعتبر "متطرفًا" (من وجهة النظر الإسرائيلية الرسمية والشعبية)، يبقي معاليه أدوميم في داخل إسرائيل.

"فجأة- يقول ليفي- ينهض الإنسان في الصباح ويكتشف أن حوله إجماعًا جديدًا: ليس واضحًا تمامًا كيف تبلور الإجماع اليميني فجأة. ذات مرة كان هناك إجماع حول القدس والآن أصبح حول نصف الضفة، ومع ذلك يطلقون على هذا: زحزحة نحو اليسار". 

والحقيقة أنه قبل ليفي بوقت كثير كتب المعلق السياسي لصحيفة "هآرتس" ألوف بن، تحت العنوان "فرحة البلدوزر"، فيما يشبه النبوءة، يقول إن من يعتقد بأن أريئيل شارون تحوّل إلى يساري وبدأ الاهتمام بـ"حقوق الفلسطينيين" على خلفية "خطة الانفصال"، يكون كمن ارتكب خطأ جسيمًا. فشارون لا يزال يعتقد أن البلدوزرات والشقق السكنية هي التي تحسم الحدود، بتأييد ودعم من أميركا. وأضاف أن "سياسة الكتل الاستيطانية" التي اتبعها شارون تُصيب قلب الوسط السياسي في إسرائيل. فإن الجميع يحبون معاليه ادوميم وأريئيل، باستثناء حركة "سلام الآن" وبعض الزاعقين من اليسار (يقصد اليسار الراديكالي، لا الصهيوني). فإيهود باراك، الذي كان آنذاك يريد منافسة شارون، يلتف عليه من اليمين ويحذّر من فقدان "الكتل الاستيطانية" بسبب النهم المفرط. وشمعون بيريس تمتم محتجا على "توقيت" الإعلان عن خطة البناء في معاليه أدوميم، لكنه لم يعترض على المبدأ. والنتيجة المطلوب استخلاصها هي أن الانتخابات القادمة ستدور، إذًا، حول قضية من الذي سيحافظ على أريئيل وبيت آرييه أفضل من الآخر؟.

- إذا أضفنا إلى الإجماع الذي يقول به ليفي "إجماعًا وطنيًا" آخر لدى تلك الأحزاب حول وجوب الانفصال ديمغرافيًا عن الفلسطينيين دون الحاجة إلى تحقيق حل عادل ودائم، أي دون الحاجة إلى الانسحاب إلى حدود العام 1967 ودون حق العودة ودون القدس، فإن الكلام السالف يحيل، ضمن أشياء أخرى، إلى طمس الفوارق بين ما يسمى بـ"يمين" و"وسط" وحتى بين هؤلاء وبين ما يسمى بـ"يسار"، في الخريطة الحزبية الإسرائيلية، حتى في حمأة انتخابات اتفق الجميع على كونها مصيرية. بل إن واقع الحال والبرنامج الانتخابي يقتضيان السؤال فيما إذا كان حزب "ميرتس" نفسه ما زال في "اليسار" الذي اعتبر حتى وقت قريب أحد رموزه الدالة، في حين أن برنامجه الانتخابي لا يستأنف، حتى لا نقول يؤيّد، على هذا الضمّ، ويؤيّد "قانون العودة" العنصري ويعارض حقّ العودة المشروع، بحجة الخشية من أن يهدّد الأخير الطابع اليهودي لإسرائيل، الذي جاء الأول من أجل تدعيمه.

- ينضوي حزب "ميرتس"، وفق برنامجه المنشور، تحت كنف "إجماع وطني" آخر يقول بأن التفاوض مع أية حكومة فلسطينية لا ينبغي أن يتم قبل أن تتوفر فيها الشروط التالية: تعترف بإسرائيل، تتبرّأ من الإرهاب وتحترم الاتفاقيات التي تمّ توقيعها بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. ولا يلبث أن ينتقل منه ليرتمي في أحضان "إجماع وطني" ثالث حول الخطوات الأحادية الجانب، مع فارق أن تأييده لهذه الخطوات يأتي من باب مناداته بإنهاء الاحتلال، لأن ذلك ينطوي أيضًا على مصلحة إسرائيلية، ولا غضاضة في ذلك.

- أكثر مصطلح يخطف الأبصار في البرامج الانتخابية هو مصطلح "الخطوات الأحادية الجانب"، سواء ورد ذكره في البرامج التي تتبناه وتؤيده أو في البرامج المعترضة عليه، علمًا بأن المعترضين عليه لا يفعلون ذلك بدافع الحماس للوصول إلى تسوية من خلال الاتفاق مع الطرف الآخر. ومن هذا التناقض بين الفئتين يتولّد، للمفارقة، "إجماع وطني" مفاده أن إسرائيل وحدها هي التي يجب أن تمتلك مفاتيح الحلّ والربط، في كل ما يتعلق بصيرورة الصراع مع الفلسطينيين.

- من أكثر الأمور لفتًا للنظر أيضًا في البرامج الانتخابية أن التشديد على وجوب "يهودية إسرائيل" يأتي فوق أي اعتبار. وإن لهذا الأمر، ناهيك عمّا ذكر وأساسًا عن المواقف الرعناء من حق العودة، دلالات داخلية، بشكل خاص في المواقف المعبّر عنها من قبل بعض هذه البرامج حيال المواطنين العرب في الداخل، إلى ناحية إمعان إسرائيل في تعميق الكولونيالية الداخلية، وهو ما تجسّده، ليس على سبيل الحصر، المخططات الرسمية الأخيرة الرامية إلى ترحيل العرب من النقب والداعية إلى تطبيق ترانسفير ضد العرب في المثلث تحت شعار "تبادل مناطق"!. 

في السياسة الداخلية- الأقلية العربية 

لم يعد خافيًا أنه في المفترق التاريخي الحالي اختارت إسرائيل طريق تعميق الكولونيالية الداخلية.  صحيح أن السيطرة والتمييز تجاه الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل ليسا بالشيء الجديد كما هو معروف، لكنهما يسيران كما يبدو في منحى التعاظم والتفاقم في أعقاب الانسحاب من غزة وفي خضم التوقعات بحصول انسحابات أخرى. 

ولعل إيراد عدة أمثلة من الفترة الأخيرة كفيل بإثبات صحة ذلك: 

- بدايةً هُناك النقاش المستمر لـ"المشكلة الديمغرافية" والذي بات يوّلد سَيلاً من المبادرات الرامية إلى إقصاء العرب من الحياة الإسرائيلية.  وتشمل هذه المبادرات الاقتراحات الداعية إلى "تبادل سكاني" بين المستوطنات (في الضفة الغربية) ومنطقة المثلث (داخل الخط الأخضر) والتي سيتعين في نطاقها على عرب المثلث أن يدفعوا مكانتهم المدنية ثمناً لجريمة المستوطنات التي بنتها إسرائيل، هذا أولاً. 

- ثانياً هناك خطط مختلفة مطروحة للنقب- وخاصة مبادرة "مجلس الأمن القومي الإسرائيلي"- تساند وتدعو إلى إخلاء قسري لقرى البدو القائمة في معظمها على أراضي آبائهم وأجدادهم.

- ثالثاً، أنظمة حالات الطوارئ التي تحظر منذ عدة سنوات تجسيد أحد حقوق المواطن الأساسية جداً، وهو جمع شمل عائلات مواطنين عرب من إسرائيل مع فلسطينيين (زوجات وأزواج) من المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967. 

هذه المبادرات تسوّقها الدولة العبرية بغطاء مكشوف، من قبيل: (فرض) "القانون والنظام" في موضوع البدو، و"السلام" في موضوع نقل المثلث، أو "منع الإرهاب" في قضية جمع شمل العائلات.

لكن هذه الذرائع الواهية والكاذبة تخفي وراءها العنصرية العميقة للدولة الإثنوقراطية التي تعمل دون كلل، وبشكل لا ديمقراطي، على تعميق السيطرة اليهودية وسط إقصاء وحرمان السكان العرب في إسرائيل من موارد القوة والأراضي العامة. 

ومؤخرًا نشرت لجنة الدستور التابعة للكنيست مسودة الدستور العتيد للدولة.  هؤلاء السياسيون أنفسهم، الذين تلهج حناجرهم بأهمية الدستور الديمقراطي، يصممون ويصوغون في الوقت ذاته سياسة تحول إسرائيل إلى دولة أبرتهايد زاحف.

______________________

أنطوان شلحت هو كاتب وصحفي من مواليد عكا في العام 1956. شغل مناصب عدة منها رئيس تحرير صحيفة فصل المقال، وقائم بأعمال رئيس تحرير جريدة الاتحاد، كما يشغل السيد شلحت منصب المدير الفني لمسرح الكرمة في حيفا، وله العديد من الإصدارات الأدبية، النقدية والبحثية.