بقلم: عيــسى قراقـــع

حــق العــودة فــي المنــاهج التعليميــة الاسرائيليـــة

مــأزق أخلاقــي فــي الثقافــة العبريــة 

عندما بدأت الحركة الصهيونية نشاطها في فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر وضعت مشروعاً ثقافياً الى جانب مشروع احتلال الارض واحتلال العمل في فلسطين. ولم تأت الحركة الصهيوينة لتقوم بنشاط في فلسطين الا مع مشروع ثقافي وهذا كان مصدر قوتها، وكان مصدر تأثيرها على الرأي العام العالمي أي توظيف الثقافة لبناء مشروع قومي توسيعي وكولونيالي في صلب اهدافه. 

إن أدبيات الحركة الصهيونية قد صورت فلسطين كبلاد مستنقعات وانها كانت صحراء قاحلة وخالية لا بشر فيها وان وجد البشر فهم بدائيون متخلفون وكان الهدف من ذلك اقناع الرأي العام العالمي والاوروبي بأهمية قيام الدولة اليهودية-الحضارية في فلسطين لتكون كما وصفها هرتسل "محطة للغرب المتمدن كي يصل الى الشرق المتخلف" وكذلك تسهيل عملية التغلغل اليهودي في فلسطين.

 

 

 

ولهذا فإن نكبة 1948 وتهجير الفلسطينيين من قراهم ومنازلهم لم تحدث الصدى اللازم في الرأي العام العالمي لأن الحركة الصهيونية قد نجحت في خلق تصور ان بلاد فلسطين كانت خالية وقفراء وأن سكانها الذين يعيشون فيها لا يستحقون الحياة. 

والدارسون للثقافة العبرية يستنتجون انه لا توجد سياسة ثقافية لإسرائيل. أي لا يوجد برنامج ثقافي سياسي لحكومة إسرائيل منذ العام 1948 حتى اليوم ولكن يوجد ثقافة مسيّسة أي ثقافة تخدم السياسة وهذا واضح في مناهج التعليم التي سنتطرق اليها. 

والثقافة الاسرائيلية تقوم منذ نشأتها حتى اليوم على ثلاث قيم أو ثلاث مركبات أساسية هي: اليهودية كدين وقومية والصهيونية كفكر وأيديولوجيا والثقافة الغربية (الاشكنازية) كحضارة. ولعل المتتبع لما كتبه الكتاب الاسرائيليون بعد النكبة وأحداثها يلفت نظره ان في كتابات عدد كبير منهم شيء من محاسبة النفس واحساس بالجريمة التي ارتكبت في عام 1948.. ولكن هذا الاحساس بما اقترف ضد العرب في العام 1948 لا يعني تماثلاً مع معاناة الفلسطينيين بل معاناة الاسرائيليين انفسهم اذ صورت الجرائم تجسيداً لسلوك فردي وليس لسياسة. 

وكثير من المؤرخين الإسرائيليين الذين يكتبون حول النكبة بمن فيهم المؤرخ "بيني موريس" الذي كتب الكثير عن النكبة وما ارتكبته القوات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني لم يكتب ان هذه كانت سياسة وانما كانت مجرد سلوك انحرافي لضباط هنا وهناك. ويتضح من لقاءات مع كتاب اسرائيليين انهم مستعدون للحديث عن كل مسألة الا المسألة الاخلاقية. ان مأزق الكاتب او المثقف الاسرائيلي هو ما حدث عام 1948، أي أنه أقام دولته وأقام وجوده وكيانه على أنقاض شعب آخر.. وكثير منهم يهربون مما حدث في كتاباتهم ويتعاملون مع هذا التاريخ كأنه لم يكن وبعضهم طالب بمواجهة الحقيقة ووضعها على الطاولة كونها ظلت ضاغطة بالضمير وبالوعي وبالوجدان الإسرائيلي. 

وبرزت اصوات تقول انه لا يمكن ان نتقدم أو نخلص من هذه الحالة النفسية الصعبة الا اذا اعترفنا بها ولهذا السبب في موضوع المسؤولية عما حدث عام 1948 والنكبة وكذلك عن حق العودة. 

مناهــج التعليــم الإسرائيلي: حــق العــودة لا زال خــارج المدرســة 

تنشئ كتب التدريس الإسرائيلية وخاصة في المرحلة الابتدائية تصوراً سلبياً لدى الطلبة اليهود عن العرب لمجرد أنهم عرب. ويترسخ الانسان العربي في أذهانهم في صورٍ شريرة ومشوهة. ومجرد مراجعة كتب التاريخ، والمدنيات والجغرافيا والأدب وحتى قصص الأطفال ووردت الكلمات التالية في الكتب الدراسية العبرية تصف الفلسطينيين خاصة والعرب عامة: الحاقدون، الخونة، الغرباء، البدو الرحل، العصابات، الارهابيون، قطاع الطرق، العنصريون، الحقيرون، المجرمون، السفلة، اللصوص، القتلة، المخربون، الانذال، المتخلفون وغيرها... 

وتعتبر التربية إحدى ركائز الصهيونية، غرست في عقول الطلبة اليهود المبادئ الصهيونية وجسدت هيمنة الرواية الصهيونية وخلقت اجيالاً يهودية متطرفة وعدائية ومتعصبة تجاه العرب والهدف من كل هذا التركيز على زرع بذور الدعائم التاريخية والايديولوجية لدولة اسرائيل الكبرى في برامج التربية الصهيونية هو تذكير الشبان الإسرائيليين بشعار بيغن القائل: "انتم الاسرائيليون لا ينبغي ان تشعروا بالشفقة حين تقتلون عدوكم لا عطف ولا رثاء حتى ننتهي من ابادة ما يسمى بالحضارة العربية التي سنبني على انقاضها حضارتنا".. لهذا فإن دمية العربي المشنوق التي تنتجها مصانع الالعاب في اسرائيل منتشرة في الحدائق والمدارس الابتدائية اضافة الى الكتب التي تصور العربي وكأنه من أكلة لحوم البشر ولد من أب عفريت وأم عفريتة.. له قرنان يطوف البيوت ليخطف الاولاد.

ان التمعن بالمناهج التدريسية يضعك امام الكثير من النماذج على نصوص تصوّر العرب بشكل سلبي.. وحتى في كتب الجغرافيا والخرائط.. حيث تتجاهل بصورة مطلقة القرى والبلدات الفلسطينية. هذا التجاهل يأتي لخدمة التوجه المؤدلج بالصهيونية الهادف الى اظهار أن فلسطين قبل هجرة اليهود اليها كانت قفراء ولا وجود لأي شعوب آخر فيها.

وعن ذلك يقول الكاتب الاسرائيلي "ايلي بوديه": "التاريخ في كتب التدريس العبرية كافة بلا استثناء تعرض لاعادة كتابة غائبة وفي خضم ذلك جرى اضفاء الشرعية على ما تقوم به اسرائيل من جميع الاعمال والممارسات وفي موازاة ذلك جرى اسقاط الشرعية عما يقوم به الاخر". وواضح ان فلسفة التربية والتعليم الاسرائيلية واهدافها الرسمية والحكومية كرست لتكون أداة في خدمة الايديولوجية الصهيونية. 

وصيغت أهداف التعليم الرسمية للحكومة الاسرائيلية وشرّعت عن طريق قانون التعليم (1952) وهذه الاهداف تجاهلت وجود العرب في هذه البلاد ووضعت لتخدم دولة اسرائيل فقط ولخدمة الهوية الجمعية لليهود وليس هناك أي ذكر للهوية القومية للعرب او حتى لوجودهم وليس هناك اية محاولة لتعريف اليهود على العرب. 

وحددت كتب التاريخ أهداف التعليم بزرع حب دولة اسرائيل في الطالب والحفاظ على كيانها وتجذير الاعتراف القومي في قلب الطالب وتعزيز الشعور لديه بالمصير المشترك. وصرحت وزيرة المعارف ليمور ليفنات بأنه من الضروري التربية على القيم اليهودية وتجذير الروح القومية لدى ابناء الشبيبة.

وبهذا نرى ان أهداف التعليم في اسرائيل كانت وما زالت امام تحدٍ متواصل للسيطرة على العرب ودمغهم في اتجاه العدمية القومية والحضارية من جهة ولغرس القيم الايديولوجية الصهيونية في نفوس الطلبة اليهود وحتى العرب على طريق أسرلتهم.

ولكتب التاريخ اهمية خاصة في هذا المضمار لأن الطالب يتقبل المؤرخين كأناس موضوعيين ينقلون الحقائق التاريخية ويتعامل مع مادة التاريخ كحقائق مطلقة.. لذلك جاءت كتب التدريس في المدارس الاسرائيلية بعيدة عن الوقائع والحقائق الاساسية واستعملت لخلق الولاء المنشود لدولة اسرائيل وللشعب اليهودي. 

وليس عجباً ان تكون باكورة اعمال وزيرة المعارف ليمور ليفنات الغاء احد كتب التاريخ من المنهاج التعليمي (عالم من التبدلات) للكاتب "داني يعقوبي" لانه حسب زعمها لا يتماشى مع الايديولوجية الصهيونية. 

وتوضح الأبحاث ان الكتب الرسمية شكلت أداة مركزية بأيدي المؤسسة الصهيونية في تكوين وتشكيل الذاكرة الجماعية للأمة اليهودية ومنح الشرعية للنظام القائم، وتشير الأبحاث الى وجود مغالطات وتجاهل بالنسبة لتدريس تاريخ العرب وحضارتهم. 

ويظهر الصحفي الاسرائيلي "توم سيفف" في كتابه (المليون السابع) ان الحكومة الاسرائيلية استعملت الكارثة اليهودية عمداً كوسيلة لتوحيد الهوية الاسرائيلية. 

وكان تزييف الحقائق في كتب التاريخ والجغرافيا والمدنيات اداة رئيسية استعملها الصهيونيون من اجل تشكيل الذاكرة الجماعية للشعب اليهودي ومن اجل اعطاء الشرعية لوجودهم وتشكيل حكاية تاريخية موحدة بالنسبة للصراع العربي- اليهودي فعممت هذه الرواية في جميع كتب التدريس. 

الصــراع علــى الحكايـــة 

الصراع ليس على الواقع وانما على الحكاية. فالرواية الصهيونية تستخدم التاريخ وتزيف الحقائق لتبرير وجودهم ومحو الوجود الفلسطيني ولتأكيد حقهم التاريخي على ارض فلسطين.. فهم شعب الله المختار وعليهم ان يتواجدوا في أرض الميعاد. 

وتمشياً مع اصرارهم على جعل المكان متجانساً مع روايتهم جاءت اسطورة الارض القاحلة التي استوطنها اليهود واستثمروها وجففوا مستنقعاتها وبنوا فيها البيوت الجميلة وهذا ما زال الطلاب يتعلمونه حتى اليوم. 

ويذكر الكاتب "ايلي فوده" في بحثه عن مناهج التدريس في المدارس العبرية ان الهدف الأساسي لكتب التدريس كان خلق الارتباط التاريخي بين المشروع الصهيوني والاستيطان اليهودي في أرض اسرائيل وإلغاء وجود الاستيطان العربي.. وتطورت أسطورة الارض الخاوية في العديد من كتب التدريس واتسم التعامل مع شخصية العربي الفلسطيني بالتجاهل والإنكار والتغييب وبهذا تعزيز لهدف وزارة المعارف بتثبيت حق اليهود على ارض اسرائيل ودحض الحق العربي. 

ولم تتطرق اطلاقاً كتب التدريس الى نكبة 1948 والمذابح التي ارتكبت حينها لا من بعيد ولا من قريب.. وجاء في أحد الكتب أن مقولة اللاجئين العرب انهم شعب جرى تشريده عن أرضه كاذبة والحقيقة ان العرب اختاروا ان يهاجروا من بلاد ذات أكثرية يهودية حتى يعيشوا بين الشعوب العربية. 

ولا احد يعتقد ان تغييراً جذرياً قد حدث على الرواية الصهيونية في كتب التعليم الاسرائيلية بعد اتفاقية أوسلو.. ففي بحث أجراه البروفوسور "داني بارطال" على كتب التعليم بعد سنوات أوسلو وجد أن غالبية الكتب تشدد على بطولة الشعب اليهودي وتبرزه بشكل فوقي فهو صاحب قضية عادلة يحارب من أجلها ضد عدو عربي يرفض الاعتراف بوجود الشعب اليهودي في اسرائيل.. وتذكر الكتب العربي بصاحب الأفكار السلبية والتعامل معه من خلال إلغاء شرعيته وإلغاء إنسانيته. 

هكذا نرى أنه في مسار بناء الأمة اليهودية كان لجهاز التربية والتعليم وظيفة أساسية لنشر صورة هذه الأمة وتراثها وذلك عن طريق إحياء، إعادة صياغة وإيجاد أسطورة تاريخية وذاكرة جماعية على حساب شعب آخر. 

لاجئــون بـلا وجــوه 

إن مصطلح الفلسطينيين غريب على أغلبية الكتب الدراسية الاسرائيلية تماماً مثل الخط الاخضر. اما اللاجئون فيظهرون من خلال صورة جوية لمخيم من دون ذكر إسمه ومن دون وجوه إنسانية، بينما يظهر اللاجئون اليهود مباشرة وهم جالسون على الحقائب كما أن النصوص تظهر العرب في صور وملابس بدائية وتقول أنهم يصرون على السكن في منازل أفقية ملتصقة بالأرض وعالية التكلفة. 

يتحدث الباحث "ميرون بنفستي" في جريدة "هآرتس" يوم 20 نيسان 2006، عن ذلك بقوله أن "اليهود قرروا استبدال تجاهلهم العاطفي للفلسطينيين بالطلاق وإزالتهم من الوعي". ويقول أنه "لأول مرة منذ ان بدأ الالتقاء المأساوي بين الطرفين يصدر اليهود امراً بالطلاق النهائي من العرب ويديرون ظهرهم لهم ويزيلونهم من وعيهم ويحبسونهم من خلف جدران صمّاء وينطوون طواعية في غيتو خاص بهم متمنين ان يجف البحر الميت او أن يشيد جسر يربطهم بالقارة الأوروبية مباشرة.. لأن نظرة الجمهور اليهودي للعرب كانت دائماً تتصف بالنكران والتجاهل". ويقول ايضاً: "العلاقة كانت تنطوي على الكثير من المشاعر: الخوف والرهبة والود والانجذاب، الفوقية والتمركز العرقي الاوروبي". 

إن ملايين اليهود المهاجرين حملوا معهم كراهية غير اليهود وأسقطوها على غير اليهود (المحليين) وجهاز التعليم بدوره يرعى تنفير العرب والتأكيد على انهم غرباء عن القيم الصهيونية. 

الخــلاصــة 

لقد كان العامل المرشد لوزارة المعارف الاسرائيلية هو التوجه السياسي القائم على تعميق رسائل وقيم الصهيونية والقومية والانزلاق الى التعصب القومي والتشويهات التاريخية التي تسعى الى تزيين المشروع الصهيوني منذ ظهوره وسط نبذ وإهمال الرواية الاخرى الفلسطينية، تنطوي على عناصر مقصودة لتعميق الاحتلال حتى داخل الخط الاخضر والنكبة الكولونيالية. 

فلا غرابة بعد كل ذلك أن يكون موقف الجمهور اليهودي من العرب متطرفاً وهو المؤشر الذي أظهره مركز مكافحة العنصرية في اسرائيل وكشف النقاب عن ان 63 % من الجمهور اليهودي يعتقدون بأن العرب في اسرائيل هم تهديد امني وديمغرافي على الدولة.

__________________

الكاتب عيسى قراقع هو عضو المجلس التشريعي الفلسطيني، ورئيس نادي الأسير الفلسطيني في الضفة الغربية. لقراقع مؤلفات أدبية وبحثية عديدة.