للجيــل الذي ضيـّـع البــلاد !

حين كنا نضيق بثيابنا وبواقعنا "الأليم"، كان احتجاجنا يتم بطريقة غنائية، وبمفردات ثورية حالمة، مفردات تمردت على السأم، وتجرأت على اتهام الجيل الذي سبقنا بالتخاذل والتقصير ازاء الوطن الذي تسرب من بين ايديهم ، وتبعثر في زحام البحث عن النجاة والحياة في زمن تكالب الاقوياء  فيه على الضعفاء، في عقر دارهم.. كان الآباء والأجداد، يتفهمون نزقنا وضيقنا "الوجودي والثوري" في آن معا، فيقولون لنا، بصبر الآباء وحزن الانبياء: البركة فيكم. ثم يصمتون، فنهدأ نحن ونزهو بانتزاعنا اعترافهم العلني بالذنب! لكننا لم نكن نلتفت الى ما تبقى من اجابة الآباء والاجداد، كأن اعترافهم بضياع البلاد هو الموضوع ، اما استعادتها فمسألة اخرى، فيها نظر.

الآن، ونحن في ذكرى ضياع تلك الارض، أثر نكبة أو وعكة ألمت بنا وبأمتنا فطرحتنا وطرحتها ارضا، نكتشف ان ما كان يهمنا هو ان نزيح عبء القضية عن كواهلنا، وان نبحث عمن نحمّله مسؤولية نكبات الوطن ونكساته، ربما لاننا لم نستطع التمييز بين المؤمنين والمقامرين، بين الشهداء وقتلى الاشتباكات على مراكز نفوذ يقف على ساق واحدة، وربما لاننا اردنا ان نتفرغ للتغني بالقضية، والانشغال عنها بتفاصيل ثرثراتنا واستعراضاتنا السياسية والثقافية، وخلافاتنا حول الواقعية، واولويات النضال الملتبس، وكيفيات السير في المسارب الضيقة، دون الوقوع بين اشواك الحقيقة والغامها !.

نتذكر أيضا، أن الجيل "الذي ضيع البلاد" ظل يحيا على أمل الرجوع إليها، واتخذ من مواطن شتاته، محطات اقام عليها خياما مؤقتة لا يزيد عمرها الاستهلاكي عن شهور: كان يحلم بالإياب، وكانت أيامه تزخر بالأمل، لأنه آمن بأن فلسطين هي ببساطة: فلسطين التي يعرفها ليس غير! ولأنه أيضا، جيل لم يتعرف الى التقاليد الرسمية، والياقات المنشاة، والبروتوكولات، والمراسم، وآداب العلاقة مع المحتلين.

أما جيلنا، الذي يستحق بجدارة جوائز فنون التنصل، جيلنا الذي لا زال يتحدث باسترخاء مريب عن الوطن، في المهرجانات والندوات والصالونات، هذا الجيل تخلى عن الحلم "من زمان" واختفى في زحمة الشعارات والمراكز والبنايات والمطارات، مكتفيا بذكرى مكتوبة عن الارض، وبخريطة متغيرة غير  ثابتة للوطن الذي كان..

هكذا أصبحنا: لم نعد نحلم حتى اثناء نومنا! من يرصد لياليه الآن يستطيع التنبه إلى كارثة اختفاء الأحلام! ولربما اسعفته الذاكرة فرأى ما كان قد رأى قبل عقود، ولربما توصل بفطنته الواقعية الى انه لم يعد ثمة ما يبرر الحلم، اذ طالما اخترنا ان تعود فلسطين الينا برجليها حيثما نكون، وطالما آمنا بان التاريخ سيعيد نفسه، ويتدخل بأثر رجعي ليمنحنا ما نريد، فلماذا العناء؟ لماذا نهجس في احلامنا، ونزعج زوجاتنا وابنائنا بكوابيس وطن تناثرت دماؤه واشلاؤه في كل البقاع والاتجاهات؟! هي لعنة لاحقت جيلنا، منذ ان احيلت عطاءات القضية اليه بقوة الزمن، لعنة لاحقتنا منذ ان استبدلنا بأحلامنا، هلوساتنا السياسية، وعلاقاتنا الدولية المثيرة للشفقة وللجدل المبني على خرائط متحركة كالرمال..

ثمة تقصير، نقولها ونمضي، كأن التقصير لفظة بلا جذور، او مفردة بريئة تقرر رأياً في وجبة ينقصها الملح! كأنها ليست امتدادا لتثاؤب جيل تناسى طريق الوطن؟ وكأنما رياح المنافي لم تنبئه بعد، ان الزمان اذا تمادى، فان رماله  ستدفن معالم الطريق، وتخفي حتى الشواخص والسهوب والتلال التي لا زالت، ساجدة تنتظر..

_______________________

الكاتب جمال ناجي هو الرئيس السابق لرابطة الكتاب الأردنيين (2001 – 2003). شغل ناجي في السابق، منصب رئيس تحرير مجلة أوراق، ومدير عام مركز انتلجنسيا للدراسات. من مواليد مخيم عقبة جبر (أريحا) في العام 1954، وله عدد من الإصدارات الروائية والقصصية.