حــق العــودة: بيــن يهوديــة الدولــة و صهينـة المكــان

هنالك من يتعاطى مع حق العودة باستحياء وبشيء من الحرج وكأنه يتخبط في حقل ألغام. وهناك من يتطوع حتى بدون تفاوض رسمي فلسطيني إسرائيلي، لوضع حلول "اجتهادية" لموضوع اللاجئين ويخفض-من حيث قصد إن لم يقصد– سقف أي تفاوض مستقبلي حول حق العودة. 

لا شك أن حق العودة يشكل الملف الأكثر استعصاءً في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ولكن التطوع المبتذل والنطنطة الزائدة المذكورين لا يجعلا هذا الملف أقل صعوبة بالنسبة للاجئين أنفسهم من ناحية، ولا يجعل التداول في حق العودة أكثر قبولا عند الإسرائيليين من ناحية أخرى. 

لا شك أيضا في السياقات الدولية والإقليمية أن مساحة إمكانية التقدم في موضوع العودة في موضوع الدولة والاستقلال أكبر من مساحة امكانية التقدم في موضوع العودة. وهذا بذاته يتطلب التقدم بموضوع الدولة، ولكن قطعاً ليس بثمن إغلاق ملف العودة. إن حق العودة يتعرض لمحاولة اغتيال وشطب من أجندة الصراع.

 

أكثر من ذلك، فإن هناك برامج تفصيلية قيد التنفيذ وضعتها حكومة إسرائيل بالتوافق مع الإدارة الأمريكية مدعومتين بتسليم عربي مريب، وأهم هذه البرامج صياغة وفرض مرجعيات جديدة ومنقوصة من خلال القفز عن مرجعيات حل الصراع الفلسطيني على أسس الشرعية الدولية ممثله بقرارات الأمم المتحدة وعلى أسس الاتفاقات الموقعة بين الجانبين وأهمها التفاوض على مواضيع الحل الدائم بما في ذلك حل قضية اللاجئين. 

وتنعكس هذه المرجعيات المنقوصة والخطيرة بشكل أساسي في الضمانات الأمريكية لإسرائيل وأنما جاءت في رسالة بوش لشارون في الرابع عشر من نيسان من العام 2004، حيث جرى عملياً شطب  كل مواضيع التفاوض على الحل الدائم. فقضية اللاجئين حسب كتاب الضمانات يجب حلها بالتوطين أو في المساحة المتاحة التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية وفق البرنامج الأمريكي الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 1967. 

وجاءت خطة الفصل التي أطلقها ونفذها شارون وخطة التجميع التي أطلقها أولمرت وتزامن ذلك مع بناء الجدار العنصري في الضفة الغربية لتشكيل مرحليات جديدة وخطيرة للتداول حولها إقليميا ودولياً. بمعنى أن المشروع الأمريكي الإسرائيلي أخذ قشرة أقامة الدولة الفلسطينية وألقى بالعودة كقشرة يابسة في سلة مهملاتهم.

إن حكومة إسرائيل تروج في العالم أحد أكثر الأطروحات عنصرية في العصر الحديث وهو المحافظة على يهودية إسرائيل لدحض وشطب حق العودة لأهل البلد الأصليين. وتعني يهودية الدولة شرعنه دولة المهاجرين والطعن في شرعية مواطنة السكان الأصلين "والمطلوب" أن نتعاطى مع هذا الموضوع كمبرر للتلوي والحرج في التعاطي مع حق العودة. فهل يعقل أن يفرض علينا أن نرى في ولادة كل طفل فلسطيني مشكلة.. لا.. إن ولادته تمثل مستقبلنا.. وهل يعقل أن نرى في عودة أي لاجئ فلسطيني إلى وطنة تهديداً.. لا.. إن عودته تمثل حقنا. 

قبل أيام احتفلت إسرائيل باستقلالها وفق التقويم العبري.. من جهتنا نحن الفلسطينيون أخذنا في ذلك اليوم أن نعلنها مرة أخرى بعد أن أعلناها في العام 2000 "يوم استقلالكم هو يوم نكبتنا" وقمنا بزيارة قرانا المهجرة. 

والعودة هي مشروعان مختلفان ولكن متناغمان: عودة اللاجئين في وطنهم وعودة اللاجئين الذين قذفوا خارج وطنهم. عودة اللاجئين في وطنهم تحمل – حق تحقيقها- معانٍ ومهمات أخرى: من المحافظة على مسميات المكان في وجه تهجير اللغة ومصادرة المعاني إلى ترميم مقابر هذا الشاهد –الأكثر حياةً- على هوية المكان. 

فالسلطات الإسرائيلية لم تهجّر الإنسان وتصادر الأرض فحسب، وإنما تدأب على انتحال هوية المكان: صفورية أصبحت تسيبوري ولوبيا أصبحت لابي والبصة أصبحت بيصت وقس على ذلك. ووصل الأمر في السنوات الأخيرة أن تكتب أسماء المدن بالعربية وبالتهجأة العبرية على لافتات الشوارع: فصفد أصبحت تصفاد وعكا أصبحت عكو والخضيرة أصبحت حديرا وبئر السبع أصبحت بيرشيفع ويافا أصبحت يافو وغيرها. 

لذلك، فإن مشروع العودة يتضمن بالضرورة التحيز لمسميات المكان التي هي أصله وهويته في وجه التغريب. فلو أن الصراع مع الصهيونية اختصر على يهودية الدولة أو التوازن الديمغرافي لما كانت أي مشكلة في عودة المهجرين في الداخل أو اللاجئين في وطنهم الى قراهم وبيتهم، فهذا لن يقود الى أي إخلال في التوازن الديمغرافي.. ولكن القضية الصهيوينة ليست الهوية اليهودية للإنسان، إنما الهوية الصهيونية للمكان. 

الآن هناك تيار قوي في السياسة الإسرائيلية وفي المجتمع الإسرائيلي يسعى إلى تجاوز الحرج بين يهودية الإنسان ويهودية المكان بإطلاق دعوات فاشية وعنصرية لتهجير الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم في المساحة التي قامت عليها إسرائيل. هذا التيار تمثّله عدة أحزاب حصلت مجتمعة في الانتخابات الأخيرة للكنيست الإسرائيلي على أصوات تشكّل ثلث الكنيست.

لقد أصبح حزب الفاشي ليبرمان، الحزب الرابع في إسرائيل بعد كديما والعمل والليكود، وهو يسعى بعد الانتخابات كما قبلها إلى فرض أجندته على السياسة الإسرائيلية، هذه الأجندة تتألف من نقطة واحدة هي تهجير الفلسطينيين من إسرائيل، تارةً بالترانسفير وتارةً بالتبادل السكاني وتارةً ثالثة بالتحريض العنصري. وليبرمان يعلم أن هذه الشعارات التي تدغدغ القاسم المشترك الصهيوني الأدنى والأكثر تخلفاً، وستجلب له رواجاً سياسياً يوصله إلى زعامة اليمين الإسرائيلي الذي ينحدر في السنوات الأخيرة إلى تبنّي الخطاب العرقي الفاشي التقليدي الذي كان اليهود ضحيته في القرن المنصرم. 

وإذا نظرنا إلى الاستطلاع الذي قام به المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في الأيام الأخيرة، نجد أن 62 % من اليهود في إسرائيل يؤيدون تشجيع العرب على الهجرة، فإننا سنكتشف أن طريق ليبرمان ليست طويلة على زعامة اليمين وربما إلى زعامة إسرائيل. ولذلك فإن قضية العودة تحمل أيضاً التصدّي لهذه التداعيات العكسية التي تسعى إلى تعميق حالة اللجوء والتهجير ضد الإنسان الفلسطيني. 

وبذلك، فقد دعونا إلى أن لا تكون المعركة ضد الفاشية في إسرائيل هي معركة العربي الفلسطيني فيها، إنما أن تكون معركة تلك الأجزاء في المجتمع الإسرائيلي التي وإن اختلفنا معها في الكثير من القضايا، إلا أنها متحيّزة بهذا القدر أو ذاك إلى قضية الديمقراطية، وبمدى نجاحنا في استقطاب مثل هذه القوى بمدى ما نمنع استفراد العنصريين والفاشيين بأبناء شعبنا في إسرائيل. لكن إلى جانب ذلك، فإن التصدّي للتغريب.. وللعدمية القومية التي تحاول بثّها وترويجها الأوساط الحاكمة في إسرائيل..هي مهمّة أساسية. 

ونحن لسنا بحاجة لاستكتاب روايتنا، لأننا نحن الرواية، ولسنا بحاجة لابتكار مبررات وجودنا وكياننا في وطننا، بل علينا أن نعمم ونعلّم ونتمسّك بحقيقة التناغم بيننا وبين المكان وبين مسمياته وتاريخه. في المنازلة الحضارية بيننا وبين المقولة الصهيونية الأساسية، لسنا الطرف الأضعف.. وهذا هو ذخرنا.

_____________________

النائب محمد بركة هو رئيس مجلس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ورئيس كتلة الجبهة البرلمانية في الكنيست.