بقلم:زهيرة صبّاغ

سنوات طويلة مضت بعد النكبة، وأنا في طفولتي المبكرة ألتقط أحاديث الأهل عن أحداث النكبة، أجمع خيوطها وأخزنها في الذاكرة. كانت الحكايا قاتمة ومهولة، تلك التي تتحدث عن فظاعة المذابح في دير ياسين والطنطورة، في عيلبون وعيلوط وعين الزيتون، وعن تهجير اللاجئين من القرى الفلسطينية وتدميرها، فقد نزح الى مدينة الناصرة بين ليلة وضحاها آلاف اللاجئين. الذين طردوا قسراً من صفورية، المجيدل، معلول، الشجرة، لوبية، صفد، حيفا، بيسان وطبريا وتتراكم هذه الحكايا المغلفة بالأحزان لتستقر بالذاكرة، وأنا بعد لا أدرك أبعاد ذاك الحزن إذ أن المصيبة كانت أكبر من أن تتحملها سنوات عمري.

 

كان الحكم العسكري، ولسنوات طويلة، مفروض على ما تبقى من المدن والقرى الفلسطينية، وكان يفرض منع التجوال الليلي، والنهاري أحياناً ومنع التنقل خارج القرى والمدن إلا بتصريح من الحاكم العسكري. وبطبيعة الحال كان محظوراً علينا الخروج من الناصرة أو زيارة القرى المهجرة حولها اذ أنها كانت كلها مناطق عسكرية مغلقة. 

بعد انتهاء فترة الحكم العسكري، الذي دام أكثر من سبعة عشر عاماً، أصبح التنقل من الناصرة وخارجها أسهل قليلاً لكن ظل الحظر موجوداً على بعض المناطق الحدودية. أتيح لي أن أزور صفورية المدمرة القريبة من الناصرة، ولأول مرة، في أواخر السبعينات، وعادت أحاديث النكبة تحفر في الذاكرة تلملم خيوطها لتبقى  جرحا فلسطينيا لا يندمل في قلبي وروحي. أول فكرة خطرت ببالي حين رأيت ركام البيوت المغطاة بالاعشاب البرية وأحجار الرحى المطمورة جزئيا بالتراب وعتبات البيوت والقبور المحطمة أجزاؤها.. آه لو كان لدي كاميرا. أذكر في حينه اني سألت مصوراً فوتوغرافياً: لما لا تسجل بعدستك هذه التفاصيل؟ "الخوف" أجاب.. "الخوف من المستوطنين المسلحين ومن الجيش". إذ أن معظم هذه المناطق مغلقة لأنها مناطق عسكرية، وقد جرت بعض حوادث إطلاق نار على من تجرأ واقترب منها. إذن هم يخشون المعالم الباقية والشواهد على ما اقترفوا من جرائم عام 1948. لم يكن الخوف هو ما ردعني عن القيام بهذا العمل، بل عدم امتلاكي لآلة تصوير وجهلي باستعمال الكاميرا كان هو العائق. 

مضت سنوات قليلة، وحصلت بعدها على كاميرا بسيطة روسية الصنع، أحسست حينها أنني أمتلك العصا السحرية، ومن يومها تملكّني عشق كبير لهذه الآلة وأصبحت صديقتي. وتشاء الصدف في أواسط الثمانينيات أن تقام دورة لتعليم التصوير الفوتوغرافي لمجموعة من الأشخاص في الناصرة، وهكذا تعلمت التصوير. من خلال الدورة تعرفت على مجموعة من الشبان والصبايا الذين كانوا يجتنبونني ويتمازحون فيما بينهم – لا تقتربوا منها إنها تعمل بالسياسة، تشترك في المظاهرات وتدخل بمواجهات مع الجيش والشرطة وهي خطرة، ستورطنا معها... وكنت أبتسم. 

نعم كان في رأسي ما يزال يختبيء السر العظيم عن تصوير ما تبقى من معالم القرى المدمرة والبيوت العربية في وادي الصليب في حيفا وفي صفد وفي طبريا وغيرها. بعد انتهاء الدورة قررت المجموعة أن تستمر في العمل سوية. جاؤوا إلي لأنهم كانوا يدركون أن باستطاعتي إدارة النشاط،  وهكذا كان. لكن كيف يمكن أن يتجند هؤلاء الشباب لمثل هذا المشروع؟ اقترحت عليهم أولاً العمل على معرض عن مدينة الناصرة. ونجح المعرض وتوطدت الثقة والألفة بيننا، مما حدا بي إلى التدرج لموضوع معرض عن قرية صفورية المدمرة القريبة من الناصرة. استجابت المجموعة للاقتراح وبدأنا العمل، ولم يكن ذلك العمل سهلاً. 

كنا نتسلل من ثغرات في السياج المحيط بالبيوت المهدمة والمحرشة بشجر الصنوبر والسرو، وكانت تحدث أحياناً مواجهات مع حراس الموقع، وأحياناً أخرى مواجهات مع المستوطنين. استمر العمل لأشهر عديدة، وكانت النتيجة معرضاً عن صفورية تحت عنوان "صفورية- الصبار"، رافقه شريط تسجيلي عن صفورية حيث كنت قد أجريت بعض المقابلات مع أهالي صفورية بمساعدة بعض نشطاء القرية وأفراد من مجموعة التصوير. 

نجح المعرض نجاحاً عظيماً وعرض شريط الفيديو الذي  أثار مشاعر كل من شاهده، كثيرون من أهالي القرية حضروا، وانهمرت دموع أثارت الشجن في الأرواح والقلوب، لكنها أعطت  بريقاً من الأمل، قال لي أحد كبار السن من صفورية دامعاً "لقد أرجعتني الى نصف طريق العودة المؤدية الى صفورية". كانت محطة عظيمة، والفكرة كانت رائدة، لأول مرة يجري مثل هذا الحدث، لأول مرة منذ النكبة، يجري عرض صور لقرى فلسطينية دمرت بعد أن هجر أهلها قسراً عام 1948. وتدب الحياة في الصور وفي قاعة العرض وفي القرية حيث نظمنا جولات للذين شاهدوا المعرض من أهل صفورية ومن غيرها، ليتعرفوا من جديد على المواقع التي التقطت فيها الصور، من أجل أن تخزنها الذاكرة الجماعية. 

أذن، لقد وضعت رجلي على أول الطريق الصحيح، وكانت صفورية هي البداية، والنموذج لعملنا القادم. اقترحت على المجموعة الاستمرار في تصوير أماكن أخرى. وهكذا أكملنا الطريق الى صفد وبرعم وأقرث وعين الزيتون  وحيفا وعكا والسجرة وغيرها. وانتقلت المعارض من الناصرة إلى القدس، رام الله وبير زيت، إلى حيفا وإلى كل صالة استقبلت عرضها. بعد سنوات، جاء إلى الناصرة مخرج سينمائي سويسري الجنسية، ليصور فيلماً وثائقياً عن حياة الدكتور برنات، المعروف جيداً في الناصرة والقضاء لخدماته الجليلة كطبيب في مستشفى الناصرة، والذي قدم من حياته وحياة عائلته، خمسين عاماً من العطاء اللا متناهي، وبالصدفة المجردة تعرف هذا المخرج على عملي مع مجموعة التصوير عن طريق صديقة لي من المجموعة. 

جاء الي قبل سفره بساعات ليتفرج على مجموعة الصور التي أمتلكها عن القرى المدمرة، وتحدثنا طويلاً عن موضوع اللاجئين وحق العودة. انبهر كثيراً بالعمل وطلب مني التعاون معه من أجل انجاز فيلم سينمائي طويل، حيث جرى التنسيق فيما بيننا حول محاور الفيلم.  وبقيت الاتصالات بيننا بعد رجوعه الى سويسرا، وجاءت النتيجة وبعد عمل مضن، فيلم "الصبار" والذي جسدت فيه أنا الشخصية الرئيسية كأول فيلم وثائقي عالمي ينقل قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة، من التداول المحلي والعربي إلى الجمهور العالمي، وذلك من خلال صالات العرض ومن خلال المهرجانات السينمائية العربية في تونس ودمشق وبيروت والقاهرة ودبي ورام الله،  والمهرجانات العالمية في نيويورك وباريس ولندن وكان وجينيف وقرطاج وغيرها من المدن والعواصم الغربية. 

وهكذا حمل الفيلم ومعارض الصور الرسالة التي هدفت الى تحفيز الذاكرة الفلسطينية على حفظ وتخزين المرئي " الصور" وتدوينها في عمق أعماقهم حتى لا ينسى أحد، خاصة الأجيال الشابة. وتوثيق تفصيلي لما تبقى من البيوت المهدمة والأماكن المدمرة في القرى والمدن الفلسطينية، وابقاء قضية اللاجئين وحق العودة حاضرة أمام المجتمع الدولي،  تلك القضية التي بقيت مغيبة لسنوات طويلة عن البوح والتداول بها وكأنها أغلقت عليها الأبواب والأقفال. حث الدارسين على جمع الشهادات من اللاجئين أينما وجدوا. ووضع هذه القضية دون كلل أو ملل على طريق الإعلام الفلسطيني، العربي والعالمي. وكانت الرسالة أننا شعب حي ويحب الحياة ونتوارث هذا الحب جيلاً بعد جيل. المشروع ما زال قائما، وجاهز أن يستوعب كل من يريد الانضمام إليه، فالطريق شاق وطويل لكن عزائمنا هي الأقوى.  

______________________
زهيرة صباغ هي شاعرة وفنانة تشكيلية ومصورة فوتوغرافية من مدينة الناصرة وهي صاحبة صالون "الفينيق" الأدبي. أقامت صباغ مجموعة من المعارض في عدد من البلدان، ونشر لها عدة دواوين شعرية. وهي  من رائدات الحركة النسوية في فلسطين.