الخط الأحمر: الأكاديميون الإسرائيليون وحق العودة

بقلم:إيلان بابيه

في عقد الثمانينيات من القرن الماضي عرضت مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين المختصين على الأوساط الأكاديمية المحلية رواية أخرى لأحداث العام 1948، نقضت الكثير من المركبات الأساسية للرواية الصهيونية عن أحداث هذا العام. وفي الحقيقة، فإن البحث الجديد الذي خرجوا به قد رسم صورة تاريخية حيّة تبنت الكثير من الادعاءات الفلسطينية الأساسية المتعلقة بالنكبة. 

إن ظهور ما أصبح يعرف بـ "التاريخ الجديد" بدا في حينه تطورا هاما جدا في الصراع على الذاكرة وإعادة عرض ما دار في فلسطين. وبعد سنوات عومل المؤرخين الفلسطينيين خلالها سواء أكانوا محترفين أم مبتدئين على أنهم مجموعة من الدعاة السياسيين وذلك بناء على وصفهم لأحداث عام 1948، باعتبارها أحداث تطهير عرقي كارثية، وقد اضيفت الشرعية على روايتهم في نهاية الأمر لأنها حظيت بقبول العديد من المؤرخين الإسرائيليين كذلك. ولا بد للمرء أن يقول أنه حتى قبل ظهور التاريخ الإسرائيلي الجديد بدأ التغير يأخذ مكانه في ميدان التصوير الأكاديمي للصراع وذلك نتيجة لأمهات الأعمال الفكرية ككتاب الاستشراق لإدوارد سعيد وآخرين ممن نهجوا منهجه. إن التحليل النقدي الذي قدمه إدوارد سعيد عن التصوير الغربي التقليدي للعالم العربي بشكل عام قد قوّض مصداقية تفسير الأبحاث الصهيونية للماضي وعرض الوقائع المتعلقة بفلسطين.

 

إن بروز الأبحاث التاريخية المهنية والتي توثق بأرشيفات إسرائيلية الطرد الجماعي والمقصود للفلسطينيين في العام 1948، قد ترك أثره لبرهة من الزمن على المجتمع اليهودي في إسرائيل بشكل عام. فقد عكست الأفلام الوثائقية والمناهج المدرسية في عقد التسعينيات من القرن الماضي هذا التأثير. ولكن النخبة السياسية بدت وكأنها محصنة وفي غفلة عن مثل تلك التطورات. كانت أوساط اليسار الصهيوني بشكل خاص هي التي أنكرت عمليات الطرد التي تمت في العام 1948، ولا عجب في أن الحركة العمالية هي التي بادرت الى تلك الجريمة ونفذتها. لقد أدى نكران النكبة أيضا إلى رفض الأحزاب اليسارية المطلق لحق الفلسطينيين في العودة. إن المؤرخين الإسرائيليين الذين كتبوا بمنهجية أكثر نقدية عن أحداث 1948، كانوا قلة قليلة بحيث لا يتمكن الإنسان من الحديث عن موقفهم. وأنا باعتباري واحدا منهم فقد أكدت على أن ما حدث عام 1948، كان عملية تطهير عرقي وبذلك فإن حق اللاجئين في العودة هو الطريقة الوحيدة المنطقية لتعويضهم عما تعرضوا له. أما النصف الثاني للمعسكر أمثال بيني موريس قد رفضوا حق الفلسطينيين في العودة منذ اللحظة الأولى. ومما يثير الغرابة أن مجموعة كبيرة من الأكاديميين وحتى التسعينيات من القرن الماضي تبنوا هذه المواقف رغم أنهم كتبوا عن الصهيونية بمنحى نقدي في الماضي وفي الحاضر. ولا يسعني إلا أن أصف تلك المجموعة بمصطلح مفكري "ما بعد الصهيونية". لقد وفروا غطاء لكافة السياسات الصهيونية والإسرائيلية التمييزية منذ العام 1882 حتى يومنا هذا. ومن الصعب بمكان أن نعرف كيف شعروا كأفراد تجاه حق العودة في ضوء أبحاثهم. أما الحقيقة التي لا يمكنهم إنكارها فهي أنهم لم يبذلوا أي جهد للتعبير عن رأي واضح حول هذا الموضوع على الإطلاق. وقد كان عالم الأنثروبولوجيا "علم الإنسان" دان روبينوفيتش واحدا من القلائل الذين كتبوا بشكل مباشر عن الموضوع يقترح عودة أقارب المنفيين من الدرجة الأولى ولكنه سريعا ما عزف عن تلك الطريق وبطريقة ذكية. قد يكون غياب المؤتمرات الخاصة بحق العودة من الساحة الإسرائيلية مؤشرا على موقف يتسم بالجبن وقد لا يكون الأمر كذلك. 

ويمكن للمرء أن يفترض أن كثيرين منهم سينضمون إلى موقف منظمة زوخروت الذي يقبل بحق العودة بشكل مبدئي ولكنه يتوقع صعوبات هائلة أثناء تطبيقه ويتمنى الفصل بين القضيتين. لقد طرأ تغيرا هاما على اتجاه كلا الفريقين الأكاديميين، "المؤرخين الجدد" و"مؤرخي ما بعد الصهيونية"  بعد اندلاع الانتفاضة الثانية. فقد تنحت الأصوات المنتقدة جانبا ويمكن القول أنها اختفت من الساحات الاسرائيلية. وقد انضمت تلك الأصوات الى زملائها المنخرطين في التيار الأكاديمي الرئيسي والذين يعرضون على المؤسسة السياسية خدماتهم بكل وفاء، حيث بدت أي نزعة للنقد أو التفكير وكأنها تتلاشى بينما قبلت الأوساط الأكاديمية في إسرائيل والولايات المتحدة وبكل سرور إصرار الحكومة على أن إسرائيل كانت تخوض حربا حيث أن النقد في ذلك الوقت لا يسعه إلا خدمة العدو. لكن حق العودة قد بقي قضية أساسية أكثر من ذي قبل. فالرواية المقبولة في الأوساط الأكاديمية الأسرائيلية حول قمة كامب ديفيد المنقوصة التي عقدت  عام 2000، أن قضية اللاجئين كانت محور فشل تلك القمة في استحضار حلّ سلميّ. يبدو أن القلق الذي يتميز به النظام السياسي قد انتقل الى الأوساط الأكاديمية حول إمكانية أن تبقى قضية حق العودة على طاولة المفاوضات في ظروف مختلفة. وهنالك قطاعات واسعة من أوساط المجتمع الدولي ما زالت تحترم حقوق الفلسطينيين بما في ذلك حق العودة كما نصت عليها قرارات الأمم المتحدة. وقد استطاعت بعض الأحداث مثل 11 سبتمبر والتفجيرات الانتحارية وتمثيليات شارون الغامضة التي تسمى مبادرات السلام من تحييد القضية جانبا عن اهتمام الجمهور لفترة ما ولكنها تبقى هنالك في الخلفية. ولهذا فقد أقرت الكنيست الإسرائيلية قانونا يمنع أي حكومة مستقبلية من التفاوض على حق العودة وهو السبب الكامن وراء تبني الأوساط الأكاديمية الاسرائيلية المفاجئ لاهتمامات جديدة أثناء جهدهم البحثي لنكران حق العودة. 

تجزأ الحملة الأكاديمية الإسرائيلية الى ثلاث مستويات: المستوى التاريخي والمستوى القانوني والمستوى الأخلاقي .  يشن الحملة الأولى المؤرخين الذين يمارسون عملهم في الأوساط الأكاديمية. فقد نشر الجيش  الاسرائيلي في العام 2001، وثيقة جديدة حول العام 1948، تكشف بوضوح أكثر من أي وقت مضى الطرد المقصود وجرائم الحرب المرتكبة في العام 1948. المعلومات المكتشفة حديثا تجعل التنكر للحقائق المكتشفة على أيدي المؤرخين الجدد أمرا مستحيلا. ولذلك فإن الممثلين الجدد للمدرسة الفكرية الصهيونية القديمة يكتبون حول عملية الطرد بشكل أكثر انفتاحا بعد سنوات استمر خلالها إنكار تلك العمليات. لقد استبدل الإنكار بالتبريرات والتلاعب بالكلمات والتي تصف كل عدوان تقريبا على أنه عملية بطولية للدفاع عن النفس. لقد بشّر المؤرخ الجديد "بيني موريس" بطرق عدة التناقض العجيب بين الاعتراف بتلك الاعتداءات وبين محاولات تبريرها وقد بدا في عمله المعدل حول أصل اللاجئين الفلسطينيين مقتنعا أكثر من أي وقت مضى أن عملية تطهير عرقي قد حدثت في العام 1948. ولكنه الآن يبررها لدرجة أنه يقبل بها ثم يحاول تسويغ إمكانية أن تحدث ثانية في المستقبل. وبنفس الطريقة كتبت أنيتا شابيرا والتي هاجمت في الماضي ادعاء موريس بأن الفلسطينيين قد طردوا، فقد كتبت مؤخرا سيرة حياة "إيغال آلون" تمثلت في أغنية مديح تخلوا من الإحساس بالعار وتتضمن تصويره وكأنه النافي العظيم أثناء حرب 1948. لا حاجة لي بالقول أن أولئك الذين يحللون عملية التطهير العرقي التي حدثت في العام 1948 يرفضون وبشكل فوري حق العودة . لكن موقف الأوساط الاكاديمية الإسرائيلية منذ العام 2000 لا يستند الى تفسير التاريخ فقط. وبما أن رواية الأحداث لم تعد قابلة للمساءلة فإن صراعهم ضد حق العودة يتركز على مرتكزين إضافيين: الأول هو عدم قانونية ممارسة الفلسطينيين لحق العودة وإضفاء الصبغة الأخلاقية على الممارسات الصهيونية ضد الفلسطينيين في الماضي وفي الحاضر. إحدى أهم المفكرين القانونيين في الأوساط الأكاديمية المحلية هي : البروفيسورة روث جيبسون من الجامعة العبرية والتي تم تجنيدها لأداء المهمة الأولى فهي تجول العالم وتكتب أوراق العمل التي تنكر قانونيا حق الفلسطينيين في العودة. وقد ألهمت جيبسون المستشار القانوني لوزارة الخارجية الاسرائيلية للخروج برأي علمي آخر وزع في كافة أرجاء العالم حول عدم قانونية ممارسة الفلسطينيين لحقهم في العودة (25 أيار 2003). ويبدو أن المبادرات تشير إلى إدراك الأوساط الأكاديمية والسياسية أن حق العودة قد تحول الى مركز اهتمام العديد من المنظمات غير الحكومية العاملة في أوساط المجتمع المدني الغربي. 

أما النقاش الأخلاقي فقد انطلق من ثلاث زوايا مختلفة. كان الأول منها الأخلاقيات الفلسفية الخالصة، جند بعض الحكماء اليهود القياديين في تأييدهم للصهيونية أمثال ميشيل وولتزر لتوفير المبررات الأخلاقية للممارسات الإسرائيلية في الماضي ورفضها للإعتراف بمسؤوليتها عن أفعالها أثناء حرب 1948، في الوقت الحاضر. أسهم وولتزر بكتابة مجموعة محددة مكرسة للدفاع عن الرواية الصهيونية لأحداث 1948. وقد حررتها أنيتا شابيرا حيث ربطت الاستيطان الصهيوني بمشروع التنوير الأوروبي مضمونها أن سياسات التطهير العرقي الصهيونية في العام 1948، هي جزء من مهمة حضارية اتخذتها الحركة على عاتقها في منطقة "قاحلة" و "بدائية" أي أرض فلسطين. أما الفيلسوف السابق والسياسية البارزة في حزب العمل حاليا يولي تامير فقد جندت أيضا لشرح أن جوهر الإجماع الصهيوني من يمينه الى يساره يحمل رفضا أخلاقيا شاملا لحق العودة. 

أما النوع الثاني من الحجج التي تسود الأوساط الأخلاقية فهي حكم أطلقه علماء السياسة وخبراء الأيديولوجيات السياسية حول طبيعة ذلك المطلب الفلسطيني. يربط علماء السياسة البارزين مثل أفرام ديسكن وشلومو أفنيري من الجامعة العبرية بين ضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين وبين أيديولوجيات الإبادة: فهم يوضحون أن تنفيذ حق العودة هو أداة لتدمير دولة إسرائيل. 

أما الحجة الأخلاقية الثالثة فتنحدر من أوساط المستشرقين وهم مجموعة خبراء في شؤون العالم العربي. ولذا فإن مردخاي كيدار أحد أبرز المستشرقين الذين يعلقون على المشهد الفلسطيني فقد حاول إقناع الاسرائيليين أن القطاعات الكبرى من الفلسطينيين يرغبون في نسيان قضية العودة بشكل كامل بينما يتمنون إستراتيجية إسرائيلية من شأنها وضع مسألة حق العودة داخل قارورة مقفلة بشكل نهائي حيث كانت قبل العام 2000، (محاضرة في جامعة بار إيلان بتاريخ 23 أيار 2004). 

لا بد وأن يكون النضال ضد هذه الجهود الأكاديمية الإسرائيلية نضالا محترفا: لا بد من بذل المحاولات لتحدي الافتراضات القانونية والأخلاقية الكامنة وراء الحجج الصهيونية. لكن يجب أن لا تنتج هذه المواقف  الانعكاسية جوا من التشاؤم أو تفهم على أنها انعكاسا  لإمكانيات التغيير العامة في داخل المجتمع الإسرائيلي. فبينما تتراجع الأوساط الأكاديمية الاسرائيلية عن مواقفها التقدمية نسبيا والتي تبنتها في التسعينات من القرن الماضي تستعد أوساط واسعة من المجتمع المدني اليهودي لإرضاء حاجتها في قبول حق الفلسطينيين في العودة ولو بشكل مبدئي على الأقل. والأفضل من ذلك هو المئات من اليهود الذين يحضرون أيام تذكار النكبة ويحضرون المؤتمرات التي تساند حق العودة بشكل غير مشروط.

هذا الإقرار الجديد لحق العودة  تعتبره الحكومة معادلا لدمار الدولة وهو في الحقيقة نتيجة لأزمة عميقة شرخت معسكر  السلام الاسرائيلي منذ العام 2000. إن اندلاع الانتفاضة الثانية وامتدادها الى داخل المناطق الإسرائيلية قد أربكت وأذهلت معسكر السلام الإسرائيلي. وقد كان التشوش أكثر وضوحا فور بروز خطة سلام شارون وبوش والتي تبنت ظاهريا حل الدولتين. لقد حللت الروابط الركيكة التي كانت تجمع بين الصهاينة وأعداء الصهيونية معا. وقد برزت حاجة طارئة لتبيان ما هي المقومات الحقيقية  للالتزام بالسلام والمصالحة. وقد برز حق العودة باعتباره موقفا واضحا يمثل إحدى الأوراق الأساسية. أما الوجه الآخر للعملة فقد حكم معسكر السلام الصهيوني على تأييد ذلك الحق بأنه تجاوز خطر لإحدى الخطوط الحمراء التي تعادل الخيانة للدولة وللأمة. 

لكن بعض المنظمات غير الحكومية أمثال صوت آخر في الجليل أو مجموعة "حوار"، والائتلاف النسوي من أجل السلام وكثيرون آخرون قد أعادوا تحديد هويتهم عن طريق المشاركة في مؤتمرات حق العودة (2005-2006) وقد منحوا تأييدهم المتواضع لحق اللاجئين في العودة غير المشروطة. ويبدو أن قضية اللاجئين المهجرين في داخل إسرائيل هو السبب المباشر في تنظيم التعاون اليهودي العربي على أرض الواقع لصالح اللاجئين والذي كان مقتصرا حتى وقت قريب على الأراضي الفلسطينية المحتلة. إن المواقف الخاصة بكل طرف حول حق العودة قد أوضح حدود معسكر اليسار الصهيوني الذي يقوده تحالف "ميريتس- ياحاد" وحركة "السلام الآن". ففي الفاتح من كانون أول من العام 2003، مهد لهم عرّابهم يوسي سريد الطريق وذلك برفضه التام لحق العودة في مقال نشر في صحيفة يديعوت أحرنوت. وقد أعلن عامي أيالون، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن العام الشاباك، والمرشح في حزب العمل، مواقفا مماثلة أثناء اتصالاته مع سري نسيبة، رئيس جامعة القدس والتي أسفرت عن عددا من الخطط الخاصة باليسار الصهيوني، عارضت انسحابا اسرائيليا جزئيا من المستوطنات إذا ما استعد الفلسطينيون للتفاوض على حق العودة لقاء ذلك. وعكس أحد علماء الرياضيات في معهد وايزمن هذا الموقف عندما اقترح في مقالة نشرت في العام 2002، في صحيفة "هآرتس" باسم اليمين الإسرائيلي إخلاء بعض المستوطنات مقابل تنازل الفلسطينيين عن حقهم في العودة. وبنفس القدر، ساعد الموقف من حق العودة على ايضاح الموقف المرتبك لليهود الشرقيين من التزامهم بالسلام. لقد ناقشت أكثر حركاتهم السياسية تقدمية "القوس الشرقي" القضية لبرهة قصيرة ثم خرجت من النقاش ملتزمة بشكل كامل بوجهة النظر الصهيونية وبفهم خاطئ كليا عن العلاقة بين تهجير الفلسطينيين والتمييز بين العرب واليهود. وأعلن المتحدث باسم الحركة موتي كريفِ أن حركته لا تمتلك موقفا رسميا من حق العودة ولكن معظم أعضائها يرفضونه بشكل فوري، (هآرتس 3 شباط 2002). 

وبينما يصبح حق العودة قضية تدور حولها نشاطات معسكر السلام وبهذا فقد اكتسبت تأييدا أكثر من أي وقت مضى فإن المعارضين الـ "ما بعد الصهيونيين" وعارضوا حتى تبني موقفا ضعيفا من هذه القضية. إذ لم يأتوا للدفاع عن أحد طلاب الماجستير في جامعة حيفا والذي منع من مواصلة بحثه الخاص بمذبحة الطنطورة سنة 1948، كما كانوا صامتين عندما عانيت شخصيا من الملاحقة جراء أسلوبي في التدريس والبحث فيما يتعلق بالنكبة. إن التغيير المستقبلي إذا لا يكمن في أوساط الأكاديميين بل في أوساط القوى التقدمية العاملة في أوساط المجتمع المدني. فما زالت مهمة هذه القوى غاية في الأهمية. فالغالبية العظمى من الإسرائيليين ( 96% في العام 2001، و 90% في العام 2006) يرفضون حق العودة. فأمنيتهم المتمثلة في المحافظة على دولة ذات أغلبية عرقية حصرية هو السبب الرئيسي الذي يبررون به هذا الرفض. وتتطلب معارضته جهدا بحثيا وتعليميا موسعا في مواقع بديلة قادرة على مواجهة نظام البحث والتعليم الاسرائيلي الرسمي. إن البراعم المبكرة لمثل هذه المساعي موجودة وقد بدأت بإحداث التغيير مما يفسر قسوة ردة فعل  المؤسسة السياسية الإسرائيلية. قد لا يكتب لمثل هذه الجهود النجاح والسبب في ذلك ليس انعدام العمل الناجع في أوساط المجتمع اليهودي فقط ولكن قد يكون السبب أيضا هو سماع أصوات غير واضحة من الجانب الفلسطيني. لهذا السبب أرغب في توضيح أمر يتعلق بالمجتمع الفلسطيني أيضا وليس فقط بالمجتمع الاسرائيلي. لا بد من الترحيب بالنقاشات المفتوحة في الأوساط البحثية الفلسطينية المرتبطة بحق العودة، ولكن يجب أن لا تختبئ المواقف خلف الكلمات غير الواضحة. فالأكاديميون الإسرائيليون ينظرون الى الاستعداد للدخول معهم في مفاوضات حول حق العودة  كتنازل مسبق عن تطبيق ذلك الحق في أي جزء من فلسطين يعتبر الآن إسرائيليا. وقد أصدر جوزيف ألبير وخليل الشقاقي في العام 1988، ورقة عمل مشتركة حول قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة عارضت "تسوية" بين المواقف الفلسطينية والاسرائيلية "التقدمية". سأقتبس جزءا طويلا من تلك الورقة بهدف إبراز أن ذلك سيكون النتيجة النهائية لأي مبادرة مثل تفاهمات جنيف أو أي مفاوضات مستقبلية مع أي طرف إسرائيلي سوف يبقى مخلصا للمثل الصهيوني المتمسك بدولة عرقية عنصرية في معظم أجزاء فلسطين. 

"إن الحل التسووي الذي أيده الأعضاء الفلسطينيون لمجموعات العمل المشتركة سيؤكد على أن إسرائيل تعترف بمسؤوليتها عن خلق مشكلة اللاجئين وكذلك تعترف بالحق الفردي الأخلاقي للاجئين الفلسطينيين في العودة. ولكنها تعترف بذلك في ضوء الأوضاع المتغيرة للاجئين عبر الخمسين سنة الماضية، وكذلك فإنها تأخذ بعين الاعتبار القيود  المفروضة على إسرائيل وأنه سيكون ممكنا عودة عدد محدود من اللاجئين فقط. ستقوم إسرائيل بدفع التعويضات الجماعية والفردية. إن مطالبة الفلسطينيين بانسحاب إسرائيلي لحدود 1967، ستكتسب المزيد من القوة كنتيجة لاستعدادهم لاستيعاب اللاجئين في الدولة الفلسطينية. وعلى ضوء الحل التسووي المقترح من قبل أعضاء مجموعات العمل المشتركة الإسرائيليين فإن إسرائيل ستعترف أنها تتقاسم مع الأطراف الأخرى التي شاركت في حرب 1948، المسؤوليات العملية وليس الأخلاقية عن معاناة اللاجئين وأن تصحيح المأزق الذي يعيشونه يمثل هدفا مركزيا لعملية السلام. سوف تقبل إسرائيل بعودة عشرات الألاف من اللاجئين في إطار برنامجها لجمع شمل الأسر المشتتة. وستدفع إسرائيل تعويضات جماعية للدولة الفلسطينية موازية للتعويضات التي ستدفعها الدول العربية للاجئين اليهود سنة 1948. وأثناء محاولات  التوصل إلى قدر أكبر من التصالح يمثل هذين الحلين التسووين معيارا هائلا للاتفاق بين الفلسطينيين والاسرائيليين: أن للإسرائيليين دورا تاريخيا في الأحداث التي أوجدت قضية اللاجئين وأن الممارسة الجماعية لحق العودة أصبحا غير ممكنا وأن العودة / جمع شمل العائلات سيكون محدودا، حيث أن عددا كبيرا من الفلسطينيين سوف "يعودون" الى الدولة الفلسطينية وأن بعضهم سيوطن في الدول المضيفة وبشكل أساسي الأردن وأن إسرائيل سوف تدفع شيئا من التعويضات وأن إغلاق ملف قضية اللاجئين سيعني حل كل من المنظمات الدولية التي اعتنت بمخيمات اللاجئين كالأونروا ....الخ".

يختلف الطرفان على المسؤولية الأخلاقية على الأقل الأمر الذي يعتبر في صالح المشاركين الفلسطينيين في مثل هذه المغامرة والذين قد يختلفون أيضا على حصة الإسرائيليين في التعويضات . أما بخصوص القضية الوحيدة التي تتبوأ المكانة الأهم فيتفق الطرفان. إن صلاحية خارطة العودة الى دولة فلسطينية مستقبلية (فإذا ما تناولنا فهم اللجنة الرباعية لخارطة فلسطين كنموذج محتمل فإن ذلك سيعني العودة الى سجن غزة أو إلى كانتونات الضفة الغربية) سيعني ذلك إنهاء حق الفلسطينيين في العودة وهو موقف ما زال غير مقبول لدى الغالبية المطلقة من الفلسطينيين في الوطن وفي الشتات. الأمر الأهم من ذلك أن مثل هذا الموقف إذا ما تم تبنيه من قبل الفلسطينيين فإن ذلك يعني بالنسبة لأولئك الذين طهروا فلسطين عرقيا في العام 1948، أنهم معفيون من أي واجبات أو مسؤوليات. فإذا ما أجيزت أفعالهم في 80% من الأرض سنة 1948 فما الذي سيمنعهم من مواصلة  السياسات ذاتها في الـ 20 % المتبقية من الأرض في المستقبلين القريب والبعيد. 

______________________

د. إيلان بابيه هو محاضر كبير في كلية العلوم السياسية في جامعة حيفا، ورئيس مجلس إدارة معهد إميل توما للأبحاث الاسرائيلية والفلسطينية. يعتبر بابيه أحد أبرز المؤرخين الجدد وله مؤلفات عديدة حول النكبة واللاجئين الفلسطينيين.