ضرورة الرهان على الإرادة الفلسطينية ووهم الرهان على اليسار الصهيوني

بقلم:أمير مخول

في الخطاب السياسي العربي ونتيجة لتوازن القوى الاستراتيجي لصالح اسرائيل وفي غير صالح العالم العربي والشعب الفلسطيني، فقد انعكس الأمر في تضخيم وفائض اعتبار للرأي العام الإسرائيلي، لدرجة الركون الى هذا الرأي العام الإسرائيلي أكثر منه إلى مخطط عربي إقليمي أو فلسطيني. ولدرجة اعتبار الرأي العام الإسرائيلي مصدر الفرج المنتظر. 

فائض الاعتبار للرأي العام الإسرائيلي لا ينحصر في السلوك الرسمي للعالم العربي وإلى حد كبير لسلوك النخب العربية بشكلٍ عام، بل أصبح سلوكاً عالمياً. ولذلك يمنح المستوى الاوروبي الرسمي مثلاً الرأي العام الإسرائيلي وكل صوت إسرائيلي مؤيد لتسوية، يمنحه وزناً أكبر بكثير من وزنه الفعلي حتى إسرائيلياً. وهذا التضخيم هو تعبير عن عجز في التأثير وقرار جوهري بعدم اتخاذ إجراءات عقابية ضد إسرائيل بل اتباع "استراتيجية التفاوض" التي لم تثبت ذاتها بتاتاً. وقد تجلى الموقف الأوروبي الرسمي مثلاً في الدعم المالي والسياسي شبه المطلق لمبادرة جنيف ووثيقة جنيف التي قادها يوسي بيلين وياسر عبد ربه.

 

كما انعكس عربياً رسمياً أيضاً في اعتماد الأنظمة العربية الرأي العام الإسرائيلي أكثر من اعتمادها الرأي العام العربي الإقليمي أو الرأي العام في بلادها والذي تقمعه وتسعى باستمرار لإخماد صوته، وبعضها يخمده، بالذات إذا كان مناهضاً لإسرائيل أو ضد التطبيع. الرأي العام العربي غائب أو غير مستغل أيضاً بسبب ضعف بنية الحركة السياسية المنظمة والناظمة للشعوب العربية. 

أكثر من أجاد التأثير على الرأي العام الإسرائيلي، دون مخاطبته بل بفعل فرض واقع، هو حزب الله ضمن قيادته المقاومة الوطنية اللبنانية في معركة تحرير الجنوب اللبناني. ومعادلة التأثير على الرأي العام الإسرائيلي أساسها ليس الإقناع وانتظار التغيير الإسرائيلي، بل خلق واقع يفرض على الرأي العام الإسرائيلي أو يجعل المجتمع الإسرائيلي والدولة الإسرائيلية غير قادرين على تحمل تبعاته المختلفة. فتأثير حركة أربع أمهات التي سبقت الانسحاب الاسرائيلي الاضطراري من جنوب لبنان لم يكن ليحظى بسعة لولا توافقه مع حسابات الأمن القومي الإسرائيلية، ولولا نجاح حزب الله في خلق توازن استراتيجي معين، لا حاجة به أن يعادل قوة إسرائيل العسكرية بل يكفي أن يجعل إسرائيل تدفع ثمناً لا تستطيع المضي به. والذي كانت إحدى تجلياته مثلاً أنه في كل مرة قبل الانسحاب قصفت فيه اسرائيل مواقع لحزب الله واعتدت على لبنان هجر سكان الحدود الشمالية الاسرائيليون تلقائياً بلداتهم باتجاه مركز البلاد وتل ابيب.  والمؤشر الآخر لهذا الوضع هو الدرس كما استوعبته إسرائيل خلال خطة فك الارتباط والانسحاب من داخل قطاع غزة، حيث مثل أمام مركز اتخاذ القرار الإسرائيلي الداخلي منع تكرار درس جنوب لبنان وعدم إتاحة المجال للمقاومة الفلسطينية للاستفادة من قصف بلدات الجنوب بصواريخ القسام التي فاق فعلها السياسي أضعاف فعلها التفجيري.  

في غياب استراتيجية عربية واستراتيجية فلسطينية ومقومات مشروع سياسي مبني على رؤية متكاملة وشاملة، فان الاعتماد سوف يتركز على الرأي العام الإسرائيلي، بشكلٍ شبه غيبي كما لو كان المخلص لذاته وللشعب الفلسطيني وللأنظمة العربية. والاستراتيجية التي يسميها رئيس السلطة الفلسطينية استراتيجية التفاوض مع إسرائيل، هي نهج قد تكون له إسقاطات مأساوية على القضية الفلسطينية وبالذات على الحق الفلسطيني. التفاوض قد يكون نتاج استراتيجية أو مركباً ضمنها لكن ليس بحد ذاته، خاصة أن التفاوض يعتمد صميمياً على توازن القوى بين أطراف الصراع المتفاوضين ويحيّد إلى مدى كبير المركب الأخلاقي ومفهوم الحق، لأنه يجعل كل أمر وكل حق خاضعاً لآلية التفاوض وتوازن القوى وخاضعاً لمفهوم المساومة أو البدائل، بالذات في قضايا لا يريد صاحب الحق فيها بدائل مثل تقرير المصير وحق العودة للاجئين إل ديارهم وممتلكاتهم وإنهاء المشروع الاستيطاني. وفي حال الاستراتيجية الفلسطينية، التفاوض، عملياً يصبح التفاوت بين التيارات الإسرائيلية المختلفة هو حول الأداء في التفاوض ضمن معادلة الإجماع الإسرائيلي المتبلور "الأمن والتفاوض" ومع "غياب" الشريك الفلسطيني يبقى الأمن بمفهومه المباشر وبمفهوم الأمن القومي المحور الأهم لصنع السياسة الإسرائيلية ولمحاولة تطبيق الإستراتيجية الإسرائيلية التي عبر عنها شارون والآن حزب "كديما" وهي مخترقة للمعسكرات الصهيونية التقليدية ألا وهي فرض الحل الدائم من طرف واحد.  

إن هذا تعبير عن الضعف الفلسطيني والضعف العربي. وكلما ضعف الفعل الفلسطيني والعربي ازداد وزن كل صوت إسرائيلي يساري داعم للحق الفلسطيني والعربي ولو جزئياً. لكن هذا الوزن يزداد ضمن اعتبارات فلسطينية وعربية وليس ضمن الاعتبارات الاسرائيلية بل يزداد هامشية على الساحة الاسرائيلية. فهو لا يؤثر إسرائيلياً داخلياً ولا يعمق الأزمة الإسرائيلية البنيوية الداخلية، لأن مقومات الأزمة الإسرائيلية بدل أن تتفاعل داخلياً تجد لها المخرج العربي والفلسطيني، وهذا المخرج هو الفرج العربي لاسرائيل الناتج عن الضعف العربي. 

في المقابل هناك دروس هامة بالاتجاه المعاكس، وهي تؤكد أنه كلما ازداد الفعل الفلسطيني والعربي المقاوم والهادف، كلما عمق ذلك الأزمة الإسرائيلية الداخلية وكلما أثر على الرأي العام الإسرائيلي وزاد وزن قوى السلام الإسرائيلية إسرائيليا وليس فلسطينيا وعربيا. 

ما أود تأكيده هنا أن "أسطورة" الرأي العام الإسرائيلي هي متغير، تأثيره عربياً مرتبط بالضعف العربي وتأثيره إسرائيلياً مرتبط بزيادة قوة الفعل العربي أو الفلسطيني. باستثناء قضايا تعتبر ثوابت إسرائيلية أو عليها إجماع قومي صهيوني، لأن الحديث هنا – إسرائيلياً وفلسطينياً رسمياً - يدور بالأساس حول إدارة الصراع وليس حله. 

وفي هذه المعادلة يندرج موضوع حق العود للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم. وحق العودة للاجئين هو أكثر القضايا رفضاً ضمن الإجماع القومي الصهيوني بكل تيارته بدون استثناء ولا خلاف صهيوني تجاه رفضه. 

حق العودة يختلف عن الاعتراف بالنكبة والأمران ليسا سيّان. وحق العودة يختلف أيضا عن الاعتراف بالمسؤولية الإسرائيلية عن خلق مشكلة اللاجئين، ونحن نتحدث عن حق العودة وحل مشكلة اللاجئين بالعودة وليس "حلولاً عادلة"، أو "حلولاً متفق عليها" ولا حتى "حلاً متفق عليه"، لأن كل هذه الصيغ تخضع حق العودة للمفاوضات المستندة إلى توازن القوى لصالح المعتدي وفي غير صالح صاحب الحق – الشعب الفلسطيني. 

الموقف الإسرائيلي بكل تياراته الصهيونية واضح ومناهض لحق العودة للاجئين، سواء من هم في المنافي أم داخل الوطن. وكذلك فإن الدولة وأجهزتها والمؤسسات القومية اليهودية صممت بشكل يمنع بنيوياً حق العودة وكل تراجع سياسي افتراضي بشأنه سوف يصطدم بقوة الدولة ومؤسساتها وارتباطاتها مع يهود العالم وكذلك مع قوانينها، بالذات قانون العودة وقانون المواطنة وقوانين الاراضي والتملك وأنظمتها وإجراءاتها. 

اليسار الصهيوني وكذلك قوى السلام أو القوى المناهضة للاحتلال لم يتطرقوا يوماً إلى قانون العودة وقانون المواطنة إلا من باب النقاش اليهودي العالمي والإسرائيلي الداخلي حول: "من هو اليهودي؟" أي الصراع بين التعريف المتدين الإصلاحي أم المتزمت. لكن اليسار لم يناقش قانون المواطنة أو العودة من باب حق اللاجيء الفلسطيني ولا حتى من باب حقوق الإنسان كون القانونين عنصريين.

أوساط معينة ضمن الاكاديميا الاسرائيلية وبالذات تيارات "ما بعد الهصيونية" POST ZIONIZM لا تدعو لتطبيق حق العودة، بل إنها أخذت تنشر حول الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل والتطهير العرقي عام 1948 ومسؤولية إسرائيل. لكن هذا ليس بالضرورة موقفاً أخلاقياً، وخير مثال على ذلك هو تصريحات بيني موريس، الذي عرف عنه كشف الكثير من جرائم إسرائيل، لكنه في العام الفائت، ولأول مرة، يعبر عن موقفه الشخصي، عملياً دعم ممارسات التطهير العرقي التي نفذها بن غوريون كاستراتيجية وشرط لقيام دولة اليهود عام 1948. الطرف الوحيد الذي تعامل مع موريس وأبحاثه التاريخية كما لو أنها مرجعية أخلاقية كان الطرف الفلسطيني. لكن الطرف الفلسطيني والعربي أيضا تعامل مع بيني موريس كحالة أخلاقية واعتمد "الحقيقة" التي أتى بها موريس أكثر مما اعتمد الحقيقة التي أتى بها مؤرخ فلسطيني أو عربي حتى وإن كانت الحقيقة (المجزرة) هي ذاتها. 

الرهان على اليسار الصهيوني كما لو كان مؤهل للاعتراف بحق العودة وتطبيقه هو وهم كبير. اليسار الصهيوني وحركة العمل التاريخية هي المسؤولة عن نكبة وتهجير الشعب الفلسطيني وسلب الوطن عام 1948. وهي التي قادت احتلال الوطن الفلسطيني وتدميره وتشتيت أهله. وهي المسئولة عن محاولة إخفاء كل آثار جريمتها تاريخياً، وهي المسئولة عن احتلال العام 1967 أي ما تبقى من فلسطين التاريخية. وهي صاحبة الاستراتيجية الدمغرافية بتداعياتها منذ نكبة العام 1948 ولغاية خطة "تطوير النقب والجليل" العنصرية الاستيطانية العام 2006. فهل اليسار مستعد للتنازل عن الامتيازات المادية والمعنوية والسياسية التي حصل عليها كونه يهودياً ووفرتها له دولة اليهود التي قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني الذي تم تهجيره ونهب خيراته ومصادرتها لخدمة اليهود ودولة اليهود؟!

المراهنة على اليسار الإسرائيلي هي وهم في سياق حق العودة. والاستراتيجية الفلسطينية يجب أن تنطلق في مرجعيتها من القانون الدولي والشرعية الدولية وحق تقرير المصير، هذا من جهة، وفي المقابل من قدرة وحق الشعب الفلسطيني أن يقول "لا" لأي بديل عن حق العودة أو أية تسوية تتجاهله ولا تضمن حقوقه. اليسار الصهيوني ليس الحليف في هذا الشأن والموضوع ليس سوء تفاهم وبحاجة إلى تفاهم أو إقناع. الموضوع هو لب الصراع القومي في فلسطين.

كما أن المسألة مع الرأي العام الإسرائيلي ليست كيفية أداء المفاوض الفلسطيني بل مضمون أداء الشعب الفلسطيني وتحديد طبيعة المرحلة وطبيعة حق العودة. فإن طبيعة حق العودة والمعركة لإحقاقه لا تندرج ضمن عملية بناء الدولة على أساس حل الدولتين بل ضمن عملية التحرر الوطني الفلسطيني وإعادة بناء الشعب الفلسطيني. 

 وعليه فالنضال من أجل حق العودة هو بالأساس رسالة فلسطينية داخلية ورسالة للعالم وتحميله المسؤولية ورسالة للعالم العربي ورسالة إلى إسرائيل أن لا تراجع عن حق العودة ولا إنهاء للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وحل الدولتين لا يوفر الضمانة لمركب الصراع الجوهري – حق العودة. 

الاستثمار في الرأي العام العالمي منبعه انه ليس في مصلحة الفلسطينيين حصر الصراع أو أي مركب منه بما فيه اللاجئين وفلسطينيي48 ضمن الدائرة المحلية الاسرائيلية الفلسطينية، وعدم القبول بتجزيء القضية الفلسطينية كما لو كانت قضايا غير متصلة، وهذا يرفضه اليسار الصهيوني بذات القدر مثل اليمين. 

الرهان الأساسي هو على الشعب الفلسطيني بكل أجزائه، وفقط قوة الشعب الفلسطيني ونضاله التحرري مدعوماً عربياً وعالمياً هي التي توفر إمكانية زحزحة الموقف الإسرائيلي والرأي العام المحلي ضمنه. ودون تبني رؤية فلسطينية متكاملة واستراتيجيات تضمن التقدم لتحقيقها فإن الرأي العام الإسرائيلي وموقف اليسار ضمنه سيكون أسطورياً بالعين العربية في حين سيكون عقيماً على أرض الواقع إسرائيلياً. فالرهان الفعلي ليس على إقناع الرأي العام الإسرائيلي بل من خلال فرض أمر واقع معتمد على إرادة الشعب الفلسطيني ومحولاً حق العودة إلى مركب جوهري في صلب المشروع التحرري الفلسطيني الذي لا بد من إعادة صياغته على أساس الحق الفلسطيني المسلوب. 

_______________________

أمير مخول هو المدير العام لاتحاد الجمعيات الأهلية العربية (اتجاه) – حيفا/ فلسطين