بقلم:آمنــة بــدران

عندما يتم طرح قضية المقاطعة على مجموعات "السلام" الإسرائيلية تسارع الأخيرة إلى نشر قائمتها الطويلة من الطروحات والتحفظات والتعليقات والتساؤلات غير المتناهية. وعادةً ما تطرح هذه التساؤلات والتحفظات على أنها من أجل تسهيل مهمة اليسار في الشارع الإسرائيلي وعدم تأليب الشارع ضده. أي وكأن القضية هي قضية تكتيك فقط وليس متعلقة في الأيدولوجيا مطلقاً، ولكن من يتفحص هذه الادعاءات بدقة – وهذا ما سنفعله فيما يلي – يجد أنها تعبير عن غايات أخرى يحاول الطرف الإسرائيلي تمريرها.

إن أشهر الأجوبة والتعليقات التي تطلق بشكل فوري بعد كل ذكرٍ للمقاطعة يمكن إجمالها بالتالي: "نريد حوار واتصال من أجل المصالحة وليس المقاطعة"؛ "لمقاطعة ستضر بالدولة وإذا دعمناها نفقد مصداقيتنا وقدرتنا على التغيير"؛ "المقاطعة ستضر بشكل أساسي بالفقراء وكمنظمات ومجموعات تطالب بالعدالة الاجتماعية لا يمكننا معالجة خطأ بخطأ"؛ "لم تنعدم الوسائل بعد وهناك تغيرات جارية على الساحة السياسية الاسرائيلية قد تؤدي لحل مبني على مساومة معقولة"؛ "سنتهم بأننا ضد انفسنا وباللاسامية، لا يمكننا دعم المقاطعة آخذين بعين الاعتبار تاريخ الشعب اليهودي"؛ "حتى لا نتهم باللاسامية يجب على الجهات الداعية للمقاطعة أن تعترف بدولة اسرائيل بحدود الرابع من حزيران أولاً"؛ "حتى ندعم المقاطعة، لا بد من الفصل بين اسرائيل والاحتلال ومهاجمة الاحتلال وليس الدولة"؛ "يجب دراسة أشكال المقاطعة بتمعنٍ وحذر والنظر إلى تجارب أخرى ومن ثم تحديد ما يمكن دعمه، ومن المفضل أن يتم ذلك بشكلٍ مشترك فلسطيني – اسرائيلي  بحيث يستطيع الطرفان تبنيه وتسويقه"؛ "الأفضل محاورة الإسرائيليين لتغيير مواقفهم لا معاقبتهم لأن ذلك سيكون له ردود فعل عكسية وسيؤدي للتشدد وتقوية اليمين"؛ "قضية جنوب أفريقيا ونظام الفصل العنصري مختلفة عن الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي ومقارنه من هذا النوع سلبية وغير مقبولة"؛ "عملنا لسنوات في مجال الحوار وبناء الشراكات والتعاون من أجل بناء علاقات أفضل" و "المطالبة بالمقاطعة تعبير عن طرح جديد ليس مبنياً على حل وسط وعلى التجربه السابقه".

من الجدير بالذكر في هذا السياق، إلى أنه توجد منظمات صهيونية تدعم أنواع محددة من المقاطعة تتعلق أساسا بمقاطعة بضائع المستوطنات وسحب الاستثمارات من شركات عاملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. كما يوجد عدد ضئيل من الأفراد / المجموعات الصغيرة اليسارية الراديكالية التي تدعم مقاطعة شامله حتى تمتثل إسرائيل للقانون الدولي، وهم بالطبع غير صهاينة.

تعبر المطالبة بمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، عن مبادرة فلسطينيه لا تعتمد على ما عرف بسياسات المساومة أو الحلول الوسط التي توصف عادةً "بأن الطرفين يستطيعان العيش معها". الطرف الاسرائيلي الصهيوني المعروف باليساري هو في الحقيقه ليبرالي من حيث انتماءه السياسي، لم يعتد على مثل هذا النوع من الشراكة السياسية مقارنةً بتلك الشائعة والتي تتعلق بحقوق الانسان والحوار والتعاون الاقتصادي. لقد عملت منظمات فلسطينية عديدة منذ انطلاقة الانتفاضة الأولى على بناء مشاريع ونشاطات مشتركة إيماناً منها أن المنظمات الاسرائيلية قادرة على التأثير والتغيير في المجتمع الاسرائيلي. فيما أصبحت الحلول الوسط الإطار الذي يعمل به الطرفان بناءاً على نجاح  "اليسار" الليبرالي الاسرائيلي في بلورة إطار (Framing) الصراع ومحددات الحل الممكنة، والتي تعاطت معها جهات نخبوية، آمنت بما يسمى بالواقعية السياسيه وسياسة فن الممكن. مع مرور الزمن وعدم بناء القدرة الفلسطينيه المؤثرة على موازين القوى أصبح طرح الواقعية ذات الحل الوسط غير المضمونة نتائجه، السمة الشائعة للعمل السياسي الفلسطيني.

بالمقابل، فإن الطرح الليبرالي الاسرائيلي اكتسب قوة ودعم دولي وفلسطيني بالرغم من ضعفه على الصعيد الاسرائيلي الداخلي وتراجعه بشكل كبير خلال سنوات الانتفاضة الثانية. ولم يتمثل الضعف على الصعيد الاسرائيلي الداخلي فقط في عدم القدرة على تجنيد عدد أكبر من الداعمين لسياسات "اليسار" ولكن كذلك في عدم خلق حوار سياسي داخلي يتحدى الفكر العنصرى التمييزي للمجتمع والسياسة الاسرائيلية الصهيونية. لقد عملت المنظمات الليبرالية/"اليساريه" في إطار الفكر الصهيوني والنظام السياسي الموجود كمعارضة مخلصة للدولة ولم تتحول لأداة تغيير تتحدى أسس الصهيونيه  المبنية على الإقصاء والتمييز ضد كل ما هو غير يهودي، وعليه عندما تطالب بالتغيير والحلول الوسط فإنها تقوم بذلك على أساس المصلحة الاسرائيلية وليس على أساس تحدي ومسائلة قيم المجتمع وأسس النظام السياسي فيما يخص المساواة والعدل والعداله الاجتماعية.

يعبر هذا الطرح القيمي عن موقف يساري رديكالي لم يكن يوماً جزءاً من الفكر الليبرالي. المشكلة التي واجهها عدد ليس بقليل من الفلسطينيين هي عدم الدراية الكافية بالليبرالية الاسرائيلية التي وصفت نفسها باليسارية والتي لا يمكنها أن تتخلى عن جذورها الطبيعية من حيث الولاء للمصلحة القومية (في إطار الفكر الصهيوني) والسياسات المبنية على التدرج والبراغماتية. وعليه، فإن طبيعة الليبرالية الاسرائيلية تتفق تماماً وطروحات منظمات "السلام" الاسرائيلية الصهيونية، ورجوعاً على النقاط التي ذكرت في بداية المقال نقرأ ما يلي:

إن الحوار أداة للتواصل مع الآخر وبناء شراكات ومصالح مشتركة وليس أداة لتغيير راديكالي في النظام الموجود، وبالتالي لا يمكن إحداث تغيير جدي في موازين القوى وعلاقة السيطرة بين المحتل والمحتلين (الخاضعين للأول). لا تشكل هذه الاستراتيجية أي خطر بل لها منافع كبيرة للطرف القوي. من ناحية أخرى، لا يمكن لليبرالية دعم عقوبات اقتصادية بسبب فكرها الاقتصادي، وكذلك ولاء الأفراد للدولة القومية وعضوية الفرد في القوم أو "القبيلة". فالعضوية ليست مبنية على المواطنة ولكن على يهودية الفرد. كذلك دورها كحاملة للثقافه السياسية الصهيونية لا يمكّنها أن تضع بالتساوي العدالة الاجتماعية للشعب المحتل والمحتلين (الخاضعين له).

كما أن عمل " اليسار" الصهيوني طالما عمل على نشر آمال واهية بأن الأمور تتجه نحو التغيير بناءاً على تحليلات منقوصة ومغلوطة وقع الطرف الفلسطيني فريسةً لها لعدم استثماره في جمع المعلومة وتحليلها ومراكمة الخبرات ولأسبابٍ أخرى ليس الان وقت نقاشها. أما بخصوص من يطرح قبول مطلب المقاطعة شريطة الإعتراف بدولة اسرائيل ضمن حدود الرابع من حزيران من العام 1967، فإن فيه خطورة كبيرة شبيهة بتلك التي مارستها المؤسسة السياسية الاسرائيلية على منظمة التحرير الفلسطينية كشرطٍ للتفاوض معها. إن الاعتراف بدون ضمانات على مستوى المجتمع المدني هو إضعاف لحرية المجتمع في تطوير خطاب مقاوم جديد في المستقبل.

أما المطالبون بالفصل بين الاحتلال واسرائيل فهم يتغابون حقيقة وصراحة. لا أعرف كيف يمكن الفصل بين الامرين. من المسؤول عن الاحتلال، من يموّله ومن يعززه من خلال المستوطنات والإغلاقات ومصادرة الأراضي. فالاحتلال ليس حالة خارج السياسة الإسرائيلية وإنما في صلبها، إنه جزء أساسي من الفكر التوسعي والإقصائي للآخر عبر سياسات القوة. كذلك أعتقد أن مقاطعة تتعلق بالاحتلال من حيث بضائع المستوطنات أو شركات تعمل بالمستوطنات يمكن أن تلتف عليها الجهات الاسرائيلية بسهولة ولن تعطي نتائج ملموسة ومؤثرة.

نعم من الضروري دراسة موضوع المقاطعة والتعلم من تجارب الغير ولكن يجب أن يكون القرار فلسطينيا وفق الرؤيا والشروط الفلسطينية ذات المرجعية القانونية والأخلاقية الواضحة ومن المحبذ أن يدعمه الجانب الإسرائيلي. وهنا يجب التوضيح أن المقاطعة ليست ضد اليهود او اليهودية. أما فيما يخص من يطالب باستكمال الحوار لإقناع الجانب الاسرائيلي. أعتقد أن الحوار لا يتعارض مع المطالبة بمقاطعة إسرائيل، كما أن التجربة أثبتت أن الحوار في ظل الثقافة السياسية السائدة في إسرائيل لن يحدث أي تغيير نوعي بل إن المجتمع والحياة السياسية الاسرائيلية تتشدد وتتجه لليمين. وبدون ضغط خارجي اقتصادي وسياسي ومقاومة على الأرض تعتمد على المشاركة الشعبية المنظمة وذات النفسٍ الطويل، لن يحدث تغيير نوعي يؤثر على موازين القوى ويفضي إلى سلام حقيقي.

فيما يتعلق بقضية جنوب أفريقيا فهي ليست مختلفة عن الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، خصوصا وأن جوهر الاثنين واحد: الاستعمار والإقصاء والتمييز. لعب الليبراليون البيض دوراً مشابهاً لذلك الذي تلعبه الليبرالية الاسرائيلية: الاعتراض والحوار مع الآخر وبناء علاقات على مستوى القاعدة والنخب. لكن عندما يتم الحديث عن العوامل الأساسيه لسقوط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا فهناك إجماع على نقطتين: أولا: إستراتيجية المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) في جعل الدولة غير مستقره ولا يمكن السيطرة عليها وثانيا العقوبات على نظام الابارتاهيد الاقتصادية والسياسية.

إن المطالبة بالمقاطعة مطلب فلسطيني جديد بشكله المنظم. وللأسف فقد جاء متأخراً ولكن من الضروري المضي به قدماً. هنالك ردود فعلٍ إيجابية مساندة من كل أنحاء العالم ومن الضروري الاستثمار بالمقاطعة كاستراتيجية مقاومة. دعم اليسار الراديكالي الاسرائيلي مهم والاختلاف مع "اليسار" الصهيوني قد يشكل بداية لحقبة مختلفة من العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية المبنية على الندّية والاستقلاليه.

__________________

آمنة بدران هي المديرة السابقة لمركز القدس للنساء، وتعد حاليا أطروحة الدكتوراه في جامعة إكسيتير في بريطانيا.