التاريخ الشفوي على الصعيد الفلسطيني: واقع و آفاق

بقلم:د. نايــف جــراد

للتاريخ الشفوي على الصعيد الفلسطيني أهمية ومكانة مميزتين تفوق ما له بالنسبة لشعوب أخرى. ويعود السبب في ذلك إلى غياب الكثير من الوثائق والسجلات المرتبطة بكثير من الأحداث التي مر بها الشعب الفلسطيني وخاصة تلك التي وقعت قبل وأثناء نكبته الكبرى عام 1948. إن ما نتج عن النكبة من تجزئة وشتات طال الأرض والشعب والحقوق والقضية الوطنية، يكاد يبدد الذاكرة الوطنية الجماعية، في وقت أصبح فيه الشعب بأمس الحاجة لوجودها، ودورها في بلورة الهوية الوطنية، والحفاظ على وحدته وتماسكه في مواجهة محاولات الطمس والإلحاق والتبديد.

لقد جاءت الرواية الصهيونية المغرقة بأضاليلها وتشويهاتها وتحريفها للأحداث وكتابتها للتاريخ من وجهة نظر أيديولوجية عنصرية منحازة، لتزيد هذه الأهمية والمكانة المفترضتين للتاريخ الشفوي فلسطينيا. ان حفظ الذاكرة الجماعية يشكل اهم وسيلة نضالية بيد الشعب الفلسطيني وذلك لتمكينه من تصحيح الروايات الرائجة والسائدة عموما، الموجودة في التاريخ المكتوب، وخاصة رواية "الآخر ".

مراحل العمل بالتاريخ الشفوي على الصعيد الفلسطيني:


بالنظر إلى محتوى التاريخ الشفوي وتقسيمه كتراث شفوي وكتاريخ حياة، يمكننا القول أن العمل به على الصعيد الفلسطيني قد بدأ منذ عشرينيات القرن الماضي. لم يكن العاملون على هذا الصعيد من المختصين بالتاريخ الشفوي، بل باحثين في التراث والفلكلور حيث تم تناوله كمبحث منبثق عن علم الإنسان "الانثروبولوجيا "، والذي انبثق وتطور في أوروبا منذ أواسط القرن التاسع عشر وارتبط بالاستعمار من أجل معرفة شعوب المستعمرات وعاداتها وتقاليدها، وبالتالي تمكين الدول الاستعمارية من السيطرة عليها والتحكم بها. وبرز على هذا الصعيد، كل من توفيق كنعان واسطفان وحداد وعمر صالح ألبرغوثي، الذين نشروا دراساتهم وأبحاثهم في مجلة جمعية الدراسات الشرقية الفلسطينية JPOS (Journal of Palestine Oriental Studies )، والتي –كما يؤكد الدكتور شريف كناعنه- "شكلت الذراع الأكاديمي للانتداب البريطاني ". وعلى الرغم من تأثرهم بالمنهج الأستشراقي الذي اعتمد رواية التوراة، وارجع عادات وتقاليد الفلسطينيين وحياتهم الشعبية إجمالا إلى تلك التي يصفها العهد القديم؛ فقد لعب هؤلاء الباحثون، وخاصة توفيق كنعان، دور المؤسسين للحركة الفلكلورية الفلسطينية التي رافقت تطور الحركة الوطنية، ولعبت دورا كبيرا في إحياء التراث الشفهي الفلسطيني، وبلورة الرموز الوطنية الضرورية. لقد اسهم ذلك في الحفاظ على الهوية الوطنية الجماعية والشعور بالتميز والوحدة.

وقد شهدت هذه الحركة تطورا ملحوظا في الخمسينيات والستينيات بعد ظهور المؤسسات والدوريات التي تعنى بهذا المجال مثل جمعية إنعاش الأسرة، وكذلك ظهور باحثين متميزين أمثال الدكتور عبد اللطيف ألبرغوثي وآخرين غيره.

أما في مجال التاريخ والتوثيق، فقد برز مصطفى مراد الدباغ وعارف العارف وإبراهيم سكيك ومحمد علي الطاهر ومحمد عزة دروزة وغيرهم. واختلط في كتاباتهم التاريخ المكتوب بالتاريخ الشفوي. وأما العمل الفعلي بالتاريخ الشفوي كتاريخ و كمنهج بحث، فيلاحظ بروزه في السبعينيات في  لبنان، كما يشير إلى ذلك الدكتور عادل يحيى، وهو نشاط ارتبط  بالحصول على شهادات أكاديمية  للباحثين، وإن دل على اهتماماتهم أصلا . ولعل نشأة وتطور الحركة الوطنية وانتشارها وتمركزها في الشتات قد ساعد على ذلك؛ حيث نلاحظ أن هذه الظاهرة تواجدت في الأردن أيضا، وإن كانت أحيانا تأخذ منحى آخر، وخاصة لجهة إبراز وحدة الضفتين والتركيز على مسائل المقاومة كالشهادة والتجربة النضالية. ومن الملاحظ، كما يذكر د.عادل يحيى، هو أن همّ الباحثين آنذاك كان الوصول للمعلومة، دون إعارة منهجيات البحث وتقنياته والأرشفة، الأهمية التي تستحقها.

وشهدت الثمانينيات، كما يشير د.يحيى، انطلاقة أوسع للتاريخ الشفوي الفلسطيني لأسباب سياسية وأكاديمية رغم ضعف الإمكانيات. فصدر للصايغ كتاب " الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة "، وصدرت دراسة للصايغ ود. بيتيت عن اللاجئين في لبنان و د.نيد سويدنبرغ ود.  سونيا نمر عن ثورة 1936، ود.نمر سرحان سلسلة من الدراسات والأبحاث عن التراث الشعبي وسيرة أبطال شعبيين والانتفاضة و الثقافة، وتتالت بعدهم الابحاث وتنوعت مواضيعها وتعدد الكتاب والباحثون المتميزون حيث لا سبيل الى ذكرهم هنا.

ومن الملاحظ أن ظهور المؤسسات البحثية والإعلامية في الخارج، وخاصة في لبنان، حيث مركز المقاومة الفلسطينية، قد لعب دورا في تسجيل وحفظ الكثير من التجارب والأحداث. ونستطيع اليوم أن نجد الكثير من الشهادات والوثائق الهامة في "الوثائق الفلسطينية العربية " و"اليوميات الفلسطينية "، و "الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية "، وفي ما تبقى من مركز الأبحاث الفلسطيني التابع ل "م. ت.ف."، وفي مجلات: "شؤون فلسطينية "،  و "الهدف "، و"الحرية " ، و " فلسطين الثورة "، و"إلى الأمام "،  و"الطلائع "، و"نضال الشعب " وغيرها.

أما النقلة النوعية للعمل في التاريخ الشفوي على الصعيد الفلسطيني، كما يؤكد د.يحيى، فنلحظها مع نشوء مؤسسات التعليم العالي في فلسطين كجامعة بير زيت ، التي ضمت نخبة من الباحثين المهتمين بهذا المضمار : د.وليد ألخالدي، د. علي الجرباوي، د.صالح عبد الجواد، د.سليمان ألربضي، د.بكر أبو كشك، د.شريف كناعنه،د.منير فاشه، د.توماس ر يكس ويزيد صايغ وفيحاء عبد الهادي ود. عادل سمارة وغيرهم.

وإضافة إلى الدراسات والأبحاث في التراث، عمل الباحثون على تسجيل التاريخ الشفوي للعديد من القرى المدمرة، وكيفية اللجوء عام ،1948 وظروف الانتفاضة. ويلاحظ اهتمام الباحثين بحفظ المواد المسجلة في أرشيفات فردية، ناهيك عن الأرشيفات التي أنشأتها جامعة بير زيت وبعض المؤسسات كجمعية إنعاش الأسرة.

ومن الواضح أن العمل على هذا الصعيد داخل الوطن قد أخذ منهجا علميا من خلال الاهتمام بالتقنيات والأرشفة وحفظ المواد المسجلة باعتبار ذلك هو صلب التأريخ الشفوي. ولا يسع الكاتب إلا أن يشيد بالكتاب الذي أصدره د.عادل يحيى ود.محمود إبراهيم " من يصنع التاريخ الشفوي –دليل للباحثين والمعلمين والطلبة "، والذي أعتمد على ورشات عمل نظمتها مؤسسة تامر بالتعاون مع الكاتبين وتضمنت تدريبا للطلاب وعملا ميدانيا لتطبيق منهج التأريخ الشفوي. ولا زال هذا الكتاب يشكل مرجعا هاما إلى اليوم . وإجمالا يمكن القول أن العمل في التاريخ الشفوي بعد هذه الفترة أخذ أبعادا أوسع وجرى الاهتمام في المراحل اللاحقة بتقنيات البحث والحفظ والأرشفة وخاصة مع انتشار أجهزة التسجيل ولاحقا أجهزة التصوير و الفيديو. ويعتقد الكاتب أن مناسبة الذكرى الخمسين للنكبة عام 1998 قد شكلت محطة هامة على صعيد إيلاء التاريخ الشفوي الأهمية التي يستحقها على الصعيد الفلسطيني؛ حيث جرى التنبه لضرورة استكمال العمل بشكل جدي لكتابة الرواية الفلسطينية عن اللجوء والنكبة المستمرة منذ عام 1948 وأهمية حفظ ذلك وغيره من المقتنيات التراثية في متحف حديث للذاكرة تعهدت مؤسسة التعاون الدولي مشكورة بتمويله.

الواقع الراهن: خبرة واسعة وجهود مشتتة

 


لخص المؤتمر الدولي التاسع الذي نظمه معهد أبو لغد للدراسات التابع لجامعة بير زيت عام 2003 الوضع الراهن لمجمل التاريخ الاجتماعي الفلسطيني بعبارة: "غابة الأرشيف و أشجار الحكايات ". وينطبق هذا كليا على التاريخ الشفوي. فاليوم لدينا كم هائل من التاريخ الشفوي المسجل وآلاف الروايات في مواضيع مختلفة وخاصة في النكبة واللجوء والمجازر والقرى المدمرة والتراث الشفوي وغيرها. ويعمل على هذا الصعيد عدد كبير من الباحثين والكثير من المؤسسات وخاصة الجامعات الفلسطينية، وكذلك اللجان والجمعيات والمنظمات غير الحكومية العاملة في مجال اللاجئين  ( شمل ،بديل ،هيئة أرض فلسطين ، مركز العودة ،إتحاد مراكز الشباب ، جمعية الدفاع عن المهجرين في إسرائيل وغيرها)، وتلك العاملة في مجال التراث والثقافة (مركز الفن الشعبي ،جمعية إنعاش الأسرة،المؤسسة الفلسطينية للتبادل الثقافي، مؤسسة تامر ،بانو راما ومعهد إميل توما  واللجنة الوطنية لإحياء ذكرى ثورة 1936-1939 وغيرها ) وكذلك بعض المؤسسات الرسمية (دائرة شؤون اللاجئين في م.ت.ف، وزارة الثقافة، وزارة شؤون المراة، الهيئة العامة للاستعلامات، هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطيني ).

أمام هذا الواقع، وحرصا على "خلق تفاعل بين المنهاجية العلمية التقليدية وبين الفهم الصحيح القائم على الروايات الشفوية الصادقة القائمة على الحقائق "، أخذت أصوات الباحثين والمختصين تعلو في الآونة الأخيرة من أجل وضع حد للتشتت والتبعثر القائم وضرورة إيلاء علم التاريخ الشفوي الأهمية التي يستحقها فعلا على الصعيد الفلسطيني وبالتالي ضرورة خلق جسم موحد أو شبكة أو رابطة أو مركز وطني، يعنى بهذا الشأن الهام. فبادرت هيئة أرض فلسطين التي يترأسها الدكتور سلمان أبو ستة بدعوة المختصين والمهتمين للتنادي لإنشاء شبكة التاريخ الشفوي الفلسطيني. وفي ذات السياق قام مركز اللاجئين والشتات "شمل " بتنظيم أجتماع للعاملين والمهتمين والباحثين في رام الله في نيسان 2005، كما قام بالتعاون مع الهيئة بتنظيم ورشة عمل في عمان في أيار 2005، أتبعها بورشات عمل أخرى في رام الله. وفي نفس الفترة نظمت الجامعة الإسلامية في غزة "مؤتمر التاريخ الشفوي" بالتزامن مع الذكرى الثامنة والخمسين للنكبة.

من الواضح تبعا لهذا الاهتمام أن التاريخ الشفوي تتنامى مصداقيته، ويتنامى معها الحرص على الارتقاء بالعمل على الصعيد الفلسطيني ليصل إلى المستوى المطلوب الذي يضاهي ما له من مكانة على الصعيد العلمي في الغرب ولدى الإسرائيليين الذين دخلوا معتركه مبكرا. لكن من الواضح أيضا أن النجاح على هذا الصعيد بحاجة إلى تجاوز الواقع القائم الذي يحفل بالكثير من النواقص والمعضلات، والتي يستطيع الكاتب أن يلخصها بالآتي:

- تبعثر وتعدد الجهات العاملة في مجال التاريخ الشفوي،

- تشتت الأرشيفات وتفاوت مستوياتها،

- تفاوت نوعية و جودة حفظ المادة المسجلة وتعرض جزء كبير منها لخطر الفقدان والتبديد،

- موسمية العمل وخاصة في ذكرى النكبة،

- ضعف المستوى العلمي لكثير من الأعمال والمواد المسجلة،

- تدني مستوى الفائدة من المعلومات المجموعة،

- عدم إتاحة المجال للباحثين للوصول إلى كثير من الأرشيفات،

- ضعف التقنيات المستخدمة،

- عدم وجود منهج موحد للبحث،

- انعدام التراكم في العمل،

- الاعتماد على ذات المصادر وعدم البحث عن مصادر جديدة،

- تكرار البحث في ذات المواضيع المبحوثة سابقا،

- ضعف في تدريب الباحثين،

- عدم إيلاء الحقوق والمسائل الأخلاقية والقانونية للرواة الأهمية اللازمة،

- خطورة تآكل الذاكرة وغياب الرواة.


الآفاق المرجوة –نحو عمل مؤسسي ممنهج وشامل

أنجز العمل في التاريخ الشفوي الفلسطيني الشيء الكثير على صعيد الحفاظ على الذاكرة الوطنية حية ومتقدة، ودحضت المعلومات المستقاة منه رواية الصهاينة عن النكبة وأظهرت الكثير من الحقائق الهامة في التاريخ الفلسطيني الحي وأسهمت في إحياء التراث، وبلورة الهوية الوطنية، واستعادة وخلق رموزها. وثمة اليوم اهتمام واسع بهذا التاريخ، ورغم ذلك، فانه لا يزال بحاجة إلى مزيد من الاهتمام والتطوير.

إن الارتقاء بالتاريخ الشفوي على الصعيد الفلسطيني يحتاج بداهة إلى تجاوز النواقص، وحل المعضلات آنفة الذكر. ولعل حث الخطى باتجاه عمل مؤسسي ممنهج وشامل هو السبيل لذلك، من خلال إطار تنسيقي مركزي،  أو لجنة وطنية تشمل الداخل والشتات تعمل على أساس خطة وطنية موحدة وشاملة تستهدف حصر الأرشيفات المتوفرة، واعتماد التقنيات الحديثة في حفظها، وتوحيد منهجيات البحث وأولوياته ومواضيعه، واعتماد ضوابط علمية في تسجيل الرواية الشفوية ومصداقيتها وكيفية التحقق منها ونقد المناهج والأساليب والأرشيفات القديمة، والبحث عن مصادر جديدة للبحث والمعلومة، وتنفيذ برنامج تدريبي موحد يقوم به المختصون والخبراء، وإصدار مجلة أو نشرة دورية تعنى بالتاريخ الشفوي، والتعاون والتنسيق مع الأطر والمؤسسات  العربية والدولية ذات الاختصاص .

أن عامل الزمن مهم، وهو بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين " من دم "؛ ولذا علينا استثماره بشكل جدي ومسؤول حتى نستنطق صدور الناس ونلتقط المعلومة الهامة المتناثرة في كل أرجاء الكون، ونستفيد منها استفادة قصوي لنستكمل صياغة روايتنا التاريخية ولتعزيز وحدتنا وصون هويتنا الوطنية، ولإبراز الحقيقة الفلسطينية واستخدامها كوسيلة قانونية في الدفاع عن الحقوق الوطنية، وتفنيد رواية "الآخر "، ولإبراز الحالة الفلسطينية كحالة إنسانية لها مكانتها في العالم المناهض للاحتلال والعنصرية والفصل العنصري والظلم.

________________

د. نايف جراد هو باحث في شؤون اللاجئين والتاريخ الشفوي ، وعضو لجنة الرقابة في بديل/ المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين. د. جراد هو ناشط في ميدان الدفاع عن حق العودة.