التاريخ الشفوي الفلسطيني: أداة مقاومة وصمود

بقلم:جنان عبده-مخول

لقد كان السهل الساحلي، خلال معظم فترات التاريخ البشري منطقة يعيش فيها سكان قلائل يسكنون في أماكن قليلة ".[i] "لنرجع الى بداية الطريق ولنرافق اليهود الذين عادوا إلى بلادهم. لقد وصلوا إلى البلاد وملء قلوبهم الإيمان والرغبة القوية في استيطان البلاد وشراء الأراضي. لقد كان السهل الساحلي محطتهم الأولى. وقد وجدوا فيه منطقة متروكة؛ معظم سكانها، القليلين بطبيعتهم، من العرب". [ii]

التاريخ كما يقول نوعام تشومسكي: هو "ملك الفائزين"،[iii] وتعكس كتب التاريخ وما يكتب ضمنها، صراع القوى ونجاح المجموعة التي تسيطر على عملية إنتاج المعرفة، في تسويقها وفرضها من خلال النص المكتوب والذي يُعرض على أنه الحقيقة الكاملة والوحيدة.

في العلاقة بين مستعِمر ومستعمَر، بين أكثرية حاكمة وأقلية محكومة، فان التاريخ الرسمي المكتوب والذي يتم تلقينه للأجيال ، هو تاريخ الاستعمار والاحتلال، تاريخ المجموعة الحاكمة. بينما تمحى بل وتمنع كل رواية بديلة، وتسيطر أجهزة الدولة الحاكمة والمحتلة على مضامين ومناهج تدريس التاريخ وعلى الرواية المكتوبة ضمنه. هنا تكمن أهمية الرواية الشفوية للمجموعات المقموعة كوسيلة مقاومة وبقاء، حيث تساعد على حفظ الذاكرة والهوية من الضياع، وتضمن نقلها للأجيال القادمة.

يركز التاريخ وحسب المفهوم القديم على "سرد تفاصيل الأحداث العامة، خاصة السياسية، وهو معني أساسا بحياة الشخصيات التي لعبت دورا في الحياة السياسية في حقبة زمنية معينة "[iv]. بالتالي فان التاريخ الرسمي في السياق الداخلي لكل أمة، يعكس عادة تاريخ النخبة. وعليه فان "القيام بدراسة القضايا التي تهم هذه النخبة والتي أنتجت السجل المكتوب، يختزل دور الجماهير العريضة والأفراد العاديين الذين لم يتركوا خلفهم سجلا مكتوبا، ويستثني المواضيع التي لا تقع في دائرة ضوء الوثائق المكتوبة"[v]؛ ضمن هذه المجموعة لا نجد تاريخ النساء والفلاحين فهذا التاريخ يضيع بموت الأشخاص الذين حملوه في ذاكرتهم.

في الحالة الأولى يأتي التاريخ الشفوي كفعل مقاومة من أجل التحرر من الاحتلال أو التهميش والتغييب المنهجي لمجموعات أو مجتمعات كاملة من قبل مستعمِريها. وقد "مثّل ظهور حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية..تحديا للنظريات والمفاهيم الأوروبية. فقد رفض مفكرو البلاد المستعمَرة الكثير من فرضيات المؤرخين الأوروبيين حول التاريخ وآليات تطور المجتمع البشري" [vi]. وقاوم أهل الشرق، الصورة الاستشراقية التي بناها لهم الغرب الذي ادعى فوقيته ودونيتهم، تقدمه وهمجيتهم، ليشرعن بالتالي احتلاله لأرضهم ونهب خيراتها بحجة التنوير واستحضار التقدم الحضاري.

في الحالة الثانية- الداخلية- يكتسب التاريخ الشفوي أهميته الخاصة، كما تقول الصدة، كمصدر رئيسي للمعلومات والأحداث والفئات التي لا يلتفت إليها المؤرخ الرسمي، الأمر الذي أدركه علماء التاريخ ونتيجة لذلك اتجهوا لدراسة مساحات أخرى من الحياة الإنسانية ومن ثم اكتشفوا مصادر أخرى للمعلومات[vii]. ويشكل التاريخ الشفوي بنوعه المعروف باسم تاريخ الحياة، كما يبين يحيى، مصدرا أوليا أساسيا؛ بمعنى أنه يعتمد على روايات شهود عيان معاصرين للحدث. حيث تشكل هنا رواياتهم مثلها مثل الوثائق المكتوبة مصدرا أوليا وتعتبر المادة الخام للمؤرخين والباحثين[viii]. كما ويمكن استخدامها لاختبار وتصحيح المصادر المكتوبة. "فعندما تختلف الروايات الشفوية مع المصادر المكتوبة فان الروايات الشفوية تصحح المكتوبة، أما العكس فهو نادر الحدوث" [ix].

يكتسب التاريخ الشفوي للفلسطينيين خاصية وأهمية في ظل غياب وتأخر وضياع المكتوب من التاريخ ذاته ومصادرته أو منعه. ويأتي هنا ليكمل الناقص ويصحح المكتوب. عن تجربته في جمع روايات شفوية حول أحداث ثورة 1936 في فلسطين يقول ثيودور سويدنبرغ: "إن الروايات الشفوية، خصوصا المنقولة عن أهالي القرى توفر معلومات، وتعبر عن وجهات نظر غير موجودة في المصادر الأرشيفية المختلفة " [x].

لقد كان التأخر أو حتى الامتناع عن كتابة التاريخ الفلسطيني عملية مقصودة،حيث "أن الفلسطينيين أحجموا في الماضي عن إنتاج أرشيفات خاصة بهم لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية؛ منها ظروف العمل السري التي أوجدت تحفظا على عمليات التوثيق والكتابة عبر فترات طويلة من تاريخنا" [xi]. وساعد  في ذلك ضياع أو سرقة ما هو موجود من أرشيفات بين الفترة والأخرى، الأمر الذي أكدته أيضا، عنبرة ألخالدي  في مذكراتها في قولها: "إن الكثير من أوراقي الخاصة أتلفتها عمدا حينما سيق والدي مرتين إلى الديوان العرفي الذي أقامه الأتراك لمحاكمة أحرار العرب، ثم فقد بعضها الآخر بعد ذلك حينما كان الجيش الفرنسي أيام الانتداب يداهم بيتنا ليفتش عن أوراق قد تدين والدي فيبعثر ويمزق ويأخذ ما يشاء، واتت هجرتنا من القدس بعد الحرب الإسرائيلية، سنة 1948 لتقضي على البقية مما كنت احتفظ به من أوراق شخصية " [xii]. تضاف إلى ذلك، أحداث النكبة وتبعاتها التي تسببت في أن تكون " القيادة الوطنية الفلسطينية بعد العام 1948 مشتتة ومبعثرة وعاجزة عن القيام بأي دور وطني بارز"  [xiii]وضمنه التوثيق التاريخي.

أهمية التاريخ الشفوي لفلسطيني ال 48


تكتسب الرواية التاريخية الشفوية لفلسطيني مناطق ال 48 أهمية خاصة، بل تكاد تحتل الدرجة الأولى، كون هذه المجموعة ما زالت واقعة مباشرة تحت سيطرة ومراقبة أجهزة الدولة العبرية، التي  ما فتأت منذ قيامها تسيطر على أهم جهاز لنقل المعلومات فيما يتعلق بالحفاظ على الهوية والذاكرة وتنمية الاعتزاز القومي لدى الأجيال الناشئة، ألا وهو مناهج التدريس. تفتقر هذه المجموعة من الفلسطينيين لإمكانية تبني الجهات الرسمية او الحكومية - قضية توثيق وأرشفة تاريخها، أو إقامة المتاحف والمكتبات الوطنية، بل تُقمع وتُمنع عنها هذه الإمكانية،  كون روايتها تعتبر بالنسبة لأجهزة الدولة - رواية عدوة. ورغم المحاولات الجزئية الجارية هنا وهناك للتوثيق، ما زالت هذه المجموعة تفتقر إلى مؤسسة وطنية متخصصة ترعى هذه العملية وتشرف عليها بشكل شمولي ومتفرغ.

تعكس وضعية جهاز التعليم العربي القائم في مناطق ال 48 وضمنه تعليم التاريخ، علاقات القوى القائمة بين أقلية فلسطينية أصلية مُسَيطر عليها، وبين أكثرية يهودية حاكمة. ولم تكن السياسية المتبعة تجاه الفلسطينيين في مجال التعليم تختلف عن السياسات الحكومية العامة تجاههم، والتي  تتعامل معهم على أنهم خطر قومي وتعمل على تفريغ التعليم العربي من أي مضمون قومي وتنمية الفئوية والطائفية.

إن الفلسطيني "حاضر غائب" ليس فقط في السياسات العامة والقوانين -كقانون "الحاضر الغائب"،  وإنما أيضا في السياسية التربوية والمناهج.  وتنعكس سياسة استيطان "المناطق القاحلة" الكولونيالية التي أعلن عنها الصهاينة الأوائل في فكرة أن فلسطين هي "ارض بلا شعب لشعب بلا ارض"، في كتب تدريس التاريخ والجغرافيا [xiv]. كما أن الفلسطينيين "العرب حاضرون كتلاميذ في النظام المدرسي وغائبون في المكان الذي تصاغ فيه التصورات التعليمة للدولة، كما تظهر أهداف قانون التعليم منذ العام1953 والذي يبغي "التربية على قيم الحضارة الإسرائيلية وعلى حب الوطن والإخلاص للدولة ولشعب إسرائيل"[xv]. وكل مواد التدريس التي جاءت لتخدم هذه الأهداف، تتحدث عن يهودية الدولة والوطن دونما التطرق إلى وجود حق قومي للشعب الفلسطيني في هذا الوطن [xvi]. بالمقابل تظهر النزعة واضحة في كتب التدريس بالعبرية لعرض العرب "كأقل ثقافة، وتربية من اليهود وكأصحاب شخصيات عنيفة" .[xvii]

وتنحصر الخصوصية التعليمة للطلاب العرب في برامج التعليم وموضوع الهوية على النواحي الفولوكلورية فحسب ويغيب الانتماء الوطني كبعد مركزي أساسي. ولم يأت التعديل في القانون لعام 2000 ليغير شيئا في الأهداف التعليمية الخاصة بالمدارس الرسمية.[xviii] حيث تتيح برامج التعليم التي تفرضها إسرائيل عمليا سيطرة اجتماعية وسياسية على الأجيال الجديدة،  وتهدف إلى خلق أقلية عربية خاضعة وموالية للدولة. هذا الأمر شغل زعماء الحركة الصهيونية دوما، حتى قبل إعلان قيام الدولة العبرية. فبالتزامن مع إعلان الأمم المتحدة عن قرار التقسيم، أقامت السلطات اليهودية في شهر نوفمبر 1947، لجنة مسؤولة عن تحضير برامج عملية لجهاز التربية للعرب في الدولة اليهودية القادمة، وتبعتها منذ ذلك الحين، بعدة إجراءات إدارية هدفت دائما تحقيق الهدف ذاته.

إضافة لكل ما قيل، فان العامل الزمني يعمل في غير صالح الفلسطينيين في هذه القضية. فكل تأخير في عملية التوثيق تؤدي لضياع الكثير من المصادر الأولية المهمة، مع وفاة من يحملون هذا التاريخ في ذاكرتهم ممن لا يملكون القدرة على الكتابة أو النشر، أو أولئك المنشغلين بالأحداث اليومية وغير المتفرغين للكتابة وممن واكبوا الأحداث وعاشوها.

تبقى النكبة الحدث المفصلي صاحب الأثر الأكبر في حياة الشعب الفلسطيني، وما زال بعض من عاشوهاعلى قيد الحياة، ويشكلون بالنسبة للمؤرخين والباحثين مصادرا أولية مباشرة لسماع الحدث وتوثيقه، يجب ألا يغفلوها أينما كانت. ولربما تكون مناطق ال 48 هي الأقل حظا في توثيق تجاربها للأسباب التي ذكرت سابقا؛ إلا انه عدا النكبة فان هناك مراحل أخرى في التاريخ الفلسطيني، لم تحظ بعد باهتمام الباحثين، وان كان، فهو طبعا ليس بالشكل الكافي. الأمر الذي  يجدر الاهتمام به والعمل على توثيقه، وهو همّ ومسؤولية جماعية لا تخص قطاع فلسطيني معين دون الآخر.

_____________________

جنان عبده هي ناشطة وباحثة فلسطينية تعنى بقضايا المرأة والتاريخ الشفوي، تسكن في حيفا.

 

 

هوامش


 

-[i] عن كتاب لتعليم الجغرافيا لصف السادس في المدراس العربية (1996)، تحت عنوان بين الماضي والحاضر. تبين القطعتان

الرواية الصهيوينة عن المكان، وتشرع فكرة الاستيطان اليهودي "لارض قاحلة بلا شعب" التي تُغَّيب الفلسطيني بشكل منهجي. للتنبيه ان الحديث يدور عن منطقة الساحل التي ازدهرت فيها كما نعرف يافا، المدينة الفلسطينية الساحلية المعروفة وغيرها من القرى الفلسطينية!!

 -[ii] المصدر السابق ص (25).

[iii]  انظر:

Saigh، R. Palestinians، From Peasants to Revolutionaries، Zed Books، London، (1988)، p.1.

[iv] - هدى، الصدة، أوراق ورشة  عمل حول التأريخ الشفوي السياسي للمراة الفلسطينية، السلطة الوطنية الفلسطينية(1999) ، ص 22.

[v] -  عادل يحيى، بين انتفاضتين: التاريخ الشفوي الفلسطيني. اصدار: المؤسسة الفلسطينية للتبادل الثقافي. البيرة-رام الله، ص 20.

[vi] - عادل يحيى، المصدر السابق، ص 28.

[vii]  الصدة هدى، كتابة الذات وسياسة المقاومة: قراءة في تاريخي بقلمي لنبوية موسى. داخل كتاب: جين المقدسي وأخريات. النساء العربيات في العشرينات لبنان، إصدار تجمع الباحثات اللبنانيات. بيروت-لبنان، 2001، ص 193-210.

[viii]  عادل يحيى، المرأة الفلسطينية والذاكرة - أوراق ورشة عمل حول التأريخ الشفوي السياسي للمرأة الفلسطينية. السلطة الوطنية الفلسطينية، (1999)، ص (20).

[ix]  انظر هيننج،1982، ص73، نقلا عن عادل يحيى، بين انتفاضتين: التاريخ الشفوي الفلسطيني، إصدار: المؤسسة الفلسطينية للتبادل الثقافي. البيرة-رام الله، 2002، ص 13.

[x]  سويدنبرغ، ثيودور، بعض قضايا التاريخ الشفوي: ثورة 1936 في فلسطين، نشرة ابحاث بير زيت 2، 1985-1986، ص 18-17.

[xi]  عادل يحيى، المرأة الفلسطينية والذاكرة - أوراق ورشة عمل حول التأريخ الشفوي السياسي للمرأة الفلسطينية. السلطة الوطنية الفلسطينية، (1999)، ص (25).

[xii]  عنبرة، سلام الخالدي. جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين. دار النهار للنشر. لبنان، . (1978)، ص 11.

[xiii]  علي، الخليلي، المراة الفلسطينية والثورة: دراسة اجتماعية ميدانية تحليلية، مركزالابحاث- بيروت-لبنان، (1977)، ص 87.

[xiv]  انظر إسماعيل، أبو سعد، مناهج التعليم في إسرائيل أداة لتجهيل الفلسطينيين العرب، كراسة المنتدى الفكري الثاني بعنوان : العرب في الأدب ومناهج التعليم الإسرائيلية. مركز الدراسات المعاصرة- أم الفحم، 2006، ص 42-11.

[xv]  اسماعيل ابو سعد، المصدر السابق ص 12-13.

[xvi]  انظر ماجد الحاج، التربية لدى العرب في اسرائيل: سيطرة وتغيير اجتماعي. إصدار دار النشر: ماجنس، الجامعة العبرية، القدس (بالعبرية)،(1996)، ص ؟؟

[xvii]  صحيفة الاتحاد، في بحث جديد: "معظم الكتب التدريسية بالعبرية تعرض العرب كقتلة وسارقين"، 18.11.1996

[xviii] مؤسسة عدالة، أبو سعد، 2003،ص. 13