المنظــور العنصــري يعقـّــد الحلــول الممكنـــة

قلم:. تحسيــن يقيـــن

في سياق الحديث عن المبادرة العربية، يطرح الإسرائيليون حق العودة كقضية للإلغاء حتى يكون باستطاعتهم الجنوح للسلم، وذلك من باب أن حل قضية اللاجئين لا بد وان يكون بترحيلها ونفيها الى خارج سياق الحل. لم يكتف الغزاة بطرد اللاجئين وقتلهم وملاحقتهم في أماكن اللجوء في كل من الأردن وسوريا ولبنان لقتلهم وقتل أبنائهم وأحفادهم، بل إنهم بعد أن سببوا لهم كل هذه المعاناة على مدار ستة عقود يريدون الآن ليس التنصل من جرائمهم فحسب، بل يريدون مجازاة اللاجئين بحرمانهم من العودة أيضا!
في الذكرى التاسعة والخمسين للنكبة، هذه المناسبة التي تعمق لدينا العودة، إذ لا بديل عن الروح، سأقف عند ما كتبه كاتبان إسرائيليان، أولهما كاتب يساري، وثانيهما يميني ردّ عليه، لأعود بعدها إلى الوراء عاما واحدا (وليس 59 عاما) لأستعيد بعضا مما كتب عن النكبة، وأختم بالعودة الى قناعاتي ليس كلاجئ أو كفلسطيني، بل كإنسان عادي يقرأ الأمور كما هي لا كما يشتهيها الغزاة: السابقون منهم واللاحقون.
 

 
مع اليساري رامي لفني

يجيء حديث الكاتب رامي ليفني ضمن وجود قطاع صغير من الإسرائيليين يرى بوجود مسؤولية معينة تقع على دولة إسرائيل في هذه القضية. وقد يكون هنالك المزيد من المقتنعين بذلك، لكن ليس من السهل التعبير عن ذلك إما لمصالحهم كأفراد في عدم عودة اللاجئين أو خوفا من غضب السلطة الصهيونية الحاكمة التي لا يطربها مثل هذا الحديث.

ينتقد رامي لفني في مقاله الذي حمل عنوان "اللاجئون لب القضية الفلسطينية" والذي نشر في جريدة "معاريف" في الخامس والعشرين من آذار 2007، رفض إسرائيل التفاوض على أساس المبادرة العربية طالما تضمنت ذكر قضية اللاجئين. حيث يتهمها الكاتب بقصر النظر وعدم فهم جذور المشكلة  ويقول بصراحة: "قضية اللاجئين ليست ملحقا فرعيا بالمشكلة الفلسطينية يمكن إبقاؤه حتى النهاية، فاللاجئون هم لب القضية، ونواة القيم الوطنية الفلسطينية العليا..." ويتابع حديثه عنها من وجهة النظر الفلسطينية التي ترى أن إسرائيل نجحت في كنسها، ويرى، "أن إسرائيل تخشى من أن يكون اعترافها بمشكلة اللاجئين يشبه الاعتراف بعدم شرعية الصهيونية... الحل معقد بلا شك لكن هناك من يعتقد أن مجرد الاعتراف سيزيل قسما مهما من ترسبات القضية وقد يشق الطريق نحو تسويات إبداعية".

مع اليميني بن درور

يرفض الكاتب بن درور ذلك في اليوم نفسه وفي الصحيفة نفسها. وهو بالطبع يعبّر عن عدد أكبر من الإسرائيليين مما يمثلهم لفني، وينتقد بن درور كل من يفكر في هذا الاتجاه بمن فيهم الإسرائيليون. ويحمل العرب المسؤولية، لأن العرب أعلنوا عن عزمهم "تنفيذ مذبحة جماعية ضد اليهود من أجل منع إقامة الكيان اليهودي.. فالعدوانية العربية هي التي تسببت بالمشكلة..". بل ويتحدث بوقاحة عن وجود ملايين اللاجئين من غير الفلسطينيين الذين لم يعودوا الى ديارهم في قبرص ويوغوسلافيا، ويتهم لفني وأمثاله بتضخيم المشكلة، وهو ينصح بالتعامل مع الفلسطينيين كناضجين يتقبلون فكرة اللاعودة، ويقارن أعداد اليهود المهاجرين إلى فلسطين والفلسطينيين المهجرين منها، ويرى أن تطبيق حق العودة، "سيحول العالم إلى فوضى"!

بيــت القصيــد  

قبل عام، وفي صباح الخامس عشر من أيار تحديدا، كتب حسن البطل في عموده "أطراف النهار" في جريدة "الأيام" فكرة وقفت عندها، وهي "أن إقامة الدولة تربّط أي نجاح محتمل في تحقيق مبدأ حق العودة". والحقيقة، ثمة سؤال ملح يدور في خاطري منذ العام 1993 عشية اتفاقية أوسلو التي تبنت "حل الدولتين" طريقا لحل الصراع، إذا كنا قد اتفقنا من حيث المبدأ على دولتين لشعبين، أليست مطالبة الشعب الفلسطيني وقيادته الموقعة على اتفاقية أوسلو بتنفيذ حق عودة اللاجئين الى فلسطين المحتلة عام 1948 (حيز دولة إسرائيل) مناقضا لما اتفقنا عليه؟ فالعودة تجعل الغالبية في دولة إسرائيل للعرب، مما يعني إيجاد دولتين للفلسطينيين لا دولة واحدة!؟ لا بد إذن أن يكون هنالك تفاهما ما يقود الى عودة جزئية للاجئين الى قراهم ومدنهم في "إسرائيل" وعودة جزئية للاجئين والنازحين الى "فلسطين" (أي، الضفة الغربية وغزة).

إن تفحص القرار الدولي 194 يوضح أمرا مهما، وهو أن عودة اللاجئين هي حق لكن ليس على حساب مكتسبات دولة إسرائيل السياسية والدولية. فرغم أن الأمم المتحدة اشتطرت في قبولها إسرائيل عضوا في الاعتراف بحقوق اللاجئين وتنفيذ حق العودة والتعويض، فإن التناقض ما بين الأدبيات الدولية وبين ما تقرر على أرض الواقع هو ظاهر. لأنه من ناحية عملية يصعب تحقيقه من منظور إسرائيلي يقوم أصلا على العنصرية. لذلك فإنني أحس حينما يذكر القرار 194 بأنه يدغدغ المشاعر أكثر منه دغدغة للواقع، حيث لا ينتظر من إسرائيل أن تغير لونها في المنظورين القريب والمتوسط. لقد فسر المفكر منير شفيق في مقاله المنشور في جريدة "الأيام" في 21 أيار 2006 بعنوان "في ذكرى النكبة: تفكير بأثر رجعي" هذا التناقض وذلك بأن النصوص لم توضع للتطبيق أصلا! وقد جاء تفسير شفيق في سياق رده على افتراض أنه لو قبل الفلسطينيون والعرب بقرار التقسيم لما حدثت النكبة، ويقول شفيق في هذا السياق، "لم يصدر قرار التقسيم إلا لإعطاء الشرعية لإعلان إقامة "دولة إسرائيل" ولم يقصد منه التطبيق أو الحل اللذين يتناقضان مع قيام تلك الدولة التي يراد لها أن تكون يهودية... حيث لا أرض ولا مكان إذا لم تصادر اسرائيل الأرض وتخلى المدن وتهدم القرى".

يعتبر الرئيس محمود عباس (أبو مازن) سياسيا عقلانيا. وقد ذكر في خطاب النكبة في 15 أيار 2006: "سأكون صريحا وواضحا معكم كما كنت دائما، فالمسؤولية تقتضي مصارحة الشعب بالحقيقة دون أوهام أو وعود زائفة"، ورغم أنه أشار الى القرار 194، إلا أنه قرنه بعبارة "حل قضية اللاجئين الفلسطينيين حلا عادلا ومتفقا عليه على أساس قرار الأمم المتحدة 194". مما يجعلني على ضوء ما أقرأه بين السطور أميل الى الاعتقاد بأن الحديث عن حق العودة في الأدبيات الفلسطينية هو حديث مشاعر وليس حديثا سياسيا تفاوضيا. فالقبول بدولتين واحدة للعرب وأخرى لليهود يقتضي غير ذلك من مواقف، كما أن كل مشاريع التسوية ترتكز الى القرارين الدوليين  242  و338 (رغم أن إسرائيل قزمتهما الى درجة مسخهما بعد إقامة المستوطنات اليهودية وجدار الفصل العنصري على الأرض المحتلة عام 1967)، أما ذكر القرار 194 فهو على سبيل إيجاد "حل عادل لقضية اللاجئين" ومعروف ضمنا ما هو الحل، أي التعويض والتوطين وعودة جزئية الى ارض1967 وعودة جزئية محدودة جدا الى أرض 1948!

نظــرة مكانيــة

في مقاله بعنوان "اليهودية والإسرائيلية على ضوء تصريحات يهوشواع، "اقتبس الكاتب حلمي موسى في ملحق "المشهد الإسرائيلي" في 16 أيار 2006 "اعتقاد الفيلسوف مناحيم برينكر بأن عرب أم الفحم واللد هم جزء من أمته أكثر من يهود مانهاتن أو شيكاغو، وصلته بهم من ميراث الماضي".

وقد قلت مرة لإسرائيلي: "أنت فلسطيني بحكم ولادتك على أرض فلسطين، ولا تنطبق عليك صفة الغازي، لأنك ولدت هنا على غير إرادتك، أما الكبار من اليهود الآباء والأجداد فقد ماتوا أو في طريقهم الى الرحيل ليس عن فلسطين فقط بل عن الدنيا، ولذلك فكلنا هنا فلسطينيون بسبب ولادتنا في هذا المكان، أستثني المهاجرين اليهود الى فلسطين. فهناك ما يجمعنا: المكان أليس كذلك؟ هل تنكر انك ترتبط معنا هنا أكثر من يهود نيويورك؟ وبإمكانك تحقيق انتمائك للمكان إذا تخليت عن الفكرة الصهيونية التي تقول أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وسيكون اليهود هنا جماعة قومية كبيرة تتحول الى جماعة وطنية فلسطينية وعربية وسيكون أفضل لهم أن يتفلسطنوا ويتعربوا ويحصلوا على الأمان، وهذا أفضل من الركض الصهيوني وراء أوهام دولة نقية لليهود تكون في حالة حرب دائمة مع أصحاب المكان الأصليين ومن يدعمهم قوميا ودينيا من العرب والمسلمين".

سيكون من أفضل الحلول وقف الهجرات اليهودية، بحيث لا يهاجر الى هنا إلا ما ينطبق عليه القانون الفلسطيني في دولة ثنائية القومية مثلا. وبالمقابل يسمح بعودة اللاجئين الفلسطينيين بالتدريج، بحيث لا تحدث مشاكل سكانية كبيرة، ويتم المحافظة على جزء من الممتلكات لليهود، وتصبح أراضي الدولة للكل يعود من خلالها اللاجئون ويسعتيدوا ممتلكاتهم، ويتكون عقد اجتماعي وسياسي يضمن السلم الداخلي بحيث لا يسطو أحد على آخر.

انظروا ما اقتبسته الكاتبة الإسرائيلية تمار غوجانسكي النائبة السابقة والمحاضرة في جامعة بن غوريون في النقب كما عرفها ناشر "المشهد الإسرائيلي" (16 أيار 2006) من حديث للصهيوني إسحق ابشتاين في أيلول1907 في مجلة"هشيلواح": "إننا نولي الاهتمام لكل شؤون بلادنا، ونبحث كل شيء، ونتناقش في كل الأمور، ونمجد كل شيء ونفتديه، ولكننا نسينا شيئا واحدا، وهو أنه يوجد في البلاد شعب كامل يتمسك فيها منذ مئات السنين ولم يفكر بتركها أبدا". وقد وظفت الكاتبة غوجانسكي كلمات أبشتاين لتنتقد النظرة العنصرية المعتدية تجاه فلسطينيي الداخل والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. ثم اقتبست قوله، "في كل مرة يمس فيها المعروف القومي الوهمي بالعدل الإنساني، سيكون ذلك المعروف بمثابة خطيئة قومية فظة، ومعاذ الله لنا أن نتسبب بأي سوء لأي شعب خاصة لشعب كبير كرهنا له خطير لنا جدا". نعم، حين يكون حلنا للأمور من منظور عنصري غير إنساني فإن الأمور البسيطة تتعقد، وحين يكون منطلقنا في الحل إنسانيا وعقلانيا فإن الأمور المعقدة تنحل وتبسط. فالقضية لا تنحصر باللاجئين خارج فلسطين فحسب، بل داخلها أيضا؛ فالذين بقوا هنا رغم اقتلاعهم من قراهم ما زالوا معرضين لنكبة جديدة تقصيهم عن أرضهم.

__________________

تحسين يقين هو كاتب وناقد من القدس. حاصل على شهادة الليسانس في الآداب من جامعة طنطا في مصر. يكتب المقالة في عدد من الصحف والمجلات الفلسطينية والعربية. يقين من مواليد عام 1967، وهو عضو إتحاد الكتاب الفلسطينيين، ويعمل أيضا في وزارة التربية والتعليم.