بقلم: د. أحمد سعدي و د. ليلى أبو لغد

كتاب "النكبة: فلسطين 1948 وادعاءات الذاكرة" حول ما عنته سنة 1948 للفلسطينيين، كما انعكس في ذاكرتهم الفردية والجماعية، استعادها الجمهور عبر انتزاعها بواسطة الباحثين والأحفاد، والتطوع الخلاق، أو تم تقديمه من ممارسة التذكر بهدف المحافظة، ومن خلال المقالات من قبل مجموعة الدارسين الصاعدين، وجميعهم يجرون بحوث على الذاكرة الفلسطينية، تساهم بمادة هامة في إعادة بناء التاريخ المستمر لأحداث 1947 و 1948، وتستكمل أعمال التاريخ الشفوي التي تجري بعناية من قبل مراكز البحث الفلسطينية.
ولكن ذلك ليس الغرض الرئيس من هذا الكتاب؛ فاهتمامنا أقل حول ما تخبرنا به هذه الذكريات، حول ما حدث في الماضي مقارنة باهتمامنا بما تفعله هذه الذكريات، وما باستطاعتها فعله في الحاضر، وذلك من خلال أهمية العمل الذي تقوم به الذاكرة لتأكيد الهوية وإدارة الصدمة والألم، وكيف تصنع المطالب السياسية والأخلاقية، ننظر بشكل خاص إلى كيف تنتج هذه الذكريات، متى يكون الناس صامتين؟ ومتى تنتشر الذاكرة الجماعية؟ وما الذي يشكل الذكريات الفلسطينية عن الأحداث الكارثية لعام 1948؟ ونحن معترفين بأنه لا توجد ذاكرة نقية أو تلقائية.
 

 
يجادل الكثير من الناس بأن القصص، الوثائق وأرشيفات المنتصرين، بالإضافة إلى الحقائق التي فرضوها على أرض الواقع، ما هي في التحليل النهائي؟ إنها تعتبر حقيقة تاريخية. وبرغم ذلك، فإن الأقوياء لا يستطيعون فرض إرادتهم بشكل كامل في تعريف الأحداث التاريخية، أو في تقرير القراءات المختلفة للحقيقة. والذاكرة من الأسلحة القليلة المتوفرة لأولئك الذين دارت أحداث التاريخ ضدهم؛ ويمكنها أن تنزلق بإتجاه هز جدار التاريخ، وهكذا، فإن الذاكرة الفلسطينية، من خلال حفظها وإنتاجها في ظل شروط الإسكات بواسطة الرواية الصهيونية الهادرة، التاريخ المعارض، ذكريات الفلسطينيين عن النكبة يمكن أن تقال لانتقاد الحاضر باسم الصدمة المنسية من قبل العالم.

هذا الكتاب، بمقالاته عن هذه العناوين المختلفة، مثل النوع الاجتماعي في ذاكرة النكبة، التراكمية والنوعية المتكررة للقصص عن المصادرة المستمرة للأملاك، المعنى العميق للمكان مثل يافا، وللقرى المدمرة مثل "قولا" أو "ديربان"، والتي يتم إعادة ذاكرتها في كتب تكتب من قبل ساكنيها السابقين، وكذلك أعمال الحداد في الأفلام مثل أفلام نزار حسن، ليس مجرد تجميع لشهادات فردية فقط، أو انعكاسات شخصية. وبدلا من ذلك، هي امتحان دائم للطبيعة، الأشكال، مقررات للذاكرة الفلسطينية الجماعية اجتماعيا وثقافيا. نحن نحلل الصيغ ومجريات السياسة الفلسطينية الخاصة بالنكبة، وهو من ذكريات الفلسطينيين العاديين التي أصبحت معلنة في تنوع السياقات التي نتوصل من خلالها إلى استنتاجاتنا حول الأهمية الأوسع للنكبة. الذي يظهر من المقالات في هذا الكتاب حول كيف يتذكر الفلسطينيون النكبة هو الإحساس القوي بالإدعاءات التي تصنعها الذاكرة الجماعية حول ما حدث في الماضي، وحول ماذا يجب أن يعمل في الحاضر.

كانت النكبة العديد من الأشياء دفعة واحدة: اقتلاع الناس من وطنهم، تدمير النسيج الاجتماعي الذي ربطهم لمدة طويلة، إحباط التطلعات الوطنية. أيضا، النكبة هي زعزعة ذاكرة مضادة: رسالة تذكير ثابتة للسقوط والظلم، إنها تحدي للمبادئ الأخلاقية للمشروع الصهيوني، تذكير بفشل القيادة والشعوب العربية، وسؤال دائم للعالم حول رؤيته لنظام إنساني عادل وأخلاقي.

بالنسبة للفلسطينيين؛ كانت النكبة غالبا حول الخوف، العجز، الاقتلاع العنيف، الإذلال، إنها موجهة لأجل دمار غير متوقع ولا يمكن وقفه، والذي ترك الفلسطينيين في حالة من الفوضى سياسيا، اقتصاديا ونفسيا. وقد عنت النكبة الدمار بواسطة ضربة واحدة لكل العوالم التي كان الفلسطينيين يعيشون فيها. فبالنسبة للكثيرين، كان لهم مجتمع مزدهر معد للمستقبل، مستقبل واعد وله ديناميكيته. والنكبة أسست لحقبة جديدة يسيطر عليها الجفاء، وغالبا الفقر، لا شيء في تاريخهم أو في تاريخ الدول المجاورة أعد الفلسطينيين لتخيل مثل هذه الكارثة، والحقيقة أن النكبة حدثت خلال فترة قصيرة، عدة شهور، مما جعلها عسيرة على الفهم، كان هناك وقت قصير لإدراكها.

برغم ذلك؛ لم تكن هذه التجربة المرعبة، حتى وقت قريب، موضوعا للدراسة من قبل الفلسطينيين، كما لم تجد تعاطفا أو تعريفا واسعا بها. كم من الناس في الولايات المتحدة يعرف لماذا يشعر الفلسطينيون بمثل هذه العواطف المختلفة عن الإسرائيليين في "يوم استقلالهم" في 15 أيار؟ لماذا يواصلون الكفاح، وأحيانا بشكل عنيف؟ حتى لماذا هم هناك؟ في المدن الإسرائيلية وعلى حدود إسرائيل المتحركة، وما زالوا يحرضون على "الترانسفير"؟ ويرون في التواجد الفلسطيني على انه العلامة الغريبة في إطار الصورة الإسرائيلية المتجانسة عن أنفسهم كشعب يهودي عاش المعاناة، تم تعويضه بوطنه الجديد، وأنه يحتفل بيوم استقلال وطني طبيعي!.

وقد ينتقد البعض الفلسطينيين لأنهم بطريقة ما ظلوا صامتين، أو لأنهم لم يقدموا سردا لروايتهم بشكل كاف، والبعض من هؤلاء لم يسمع عن الموضوع من قبل. وكجزء من مادة هذا الكتاب، قام أحد المؤلفين بمقابلة امرأة فلسطينية مسنة في الجليل، وكان قد سمع بقصة نكبتها سابقا؛ لقد كانت في بداية سنواتها العشرين عندما حدثت النكبة، وفي إحدى المناسبات، تذكرت "كنا [هي وأمها] نقطع طريق صفوريا – شفا عمرو، وقد كشفتنا عربة مدرعة فتحت علينا النار، مرت الطلقات قريبا جدا من وجهي ورأسي، كنت مرعوبة جدا، لذا غطيت نفسي كليا بالقش". بعد ذلك أضاعت أمها، ولم تستطع إيجادها أو تجد باقي أفراد أسرتها لمدة عشرين يوما، ثم تحدثت عن تجربة مقلقة أخرى، صادفتها عندما ركضت عبر مجموعة من الرجال المقتولين، إثنين منهم كانا يوما جارا لأسرتها، كل منهم تلقى طلقة واحدة في جبهة رأسه، وعندما تم سؤالها لماذا لم تخبر أبدا قصصها عن النكبة علانية، وخاصة أن القليل عما حدث في تلك الفترة معروف للعالم، بدت متعجبة من السؤال وردت "كيف يمكن لهذه بدون شفاه أن تصفر؟"

ماذا يعني القول أن الفلسطينيين ليس لهم شفاه يصفرون بها؟ ماذا يمنعهم من إخبار قصصهم؟ الدارسون للذاكرة الجماعية والمؤرخون يعون جيدا أن الناس الذين يمرون بأحداث مؤلمة وصدمات ينتجون ذكريات متأخرة، وقد يستغرق الأمر عقد أو أكثر من قبل الضحايا حتى يكونوا قادرين على استيعاب تجربتهم ومن ثم إعطائها معنى وشكل، ويعتقد البعض الآخر بوجود حاجة إلى مسافة لكي يكون المرء قادرا على التذكر. ورغم ذلك لا تتوفر مسافة للفلسطينيين؛ لأنهم لا زالوا يعيشون عملية انتزاع أملاكهم؛ الصدمة مستمرة، وبعد تسعة وخمسين عاما، النكبة لم تنتهي، وأي حالة من الوضع الطبيعي لم تنجز من قبل الفلسطينيين أو الإسرائيليين، ومع ذلك فإن السبب الرئيسي لعدم إخبار الرواية الفلسطينية هو لأنها أسكتت، القصة الفلسطينية للنكبة لا زالت تكافح في ظلال لقصة دولية أكثر بأسا وقوة – هي القصة الصهيونية.

بالرغم من أن تأكيدنا في هذا الكتاب على طريقة رواية وعرض الذكريات الفلسطينية، والتأثير المتراكم للذكريات التي جمعناها وقمنا بتحليلها في هذا الكتاب، هو للتأكيد على أن شيئا فظيعا حدث للفلسطينيين، وذلك نتيجة مباشرة للإرادة العسكرية والسياسية لخلق دولة إسرائيل. وإذا كان جزء فقط من الذي يرويه الناس في هذه الصفحات قد حدث حقيقة، فإن قصصهم يجب أن تنفذ من خلال الثقوب في جدار القصة المهيمنة عن سنة 1948، وأنها ستفتح استجوابا، حقيقيا وأخلاقيا. مثل الجدار الذي بالرغم من إعلان المحكمة الدولية أنه غير شرعي، يجري بناءه الآن لإبقاء الفلسطينيين خارج إسرائيل، وفي إطار ذلك تجري مصادرة أراضي إضافية، وجعل حياة الفلسطينيين على أرض الواقع أكثر صعوبة. يتوجب تفكيك الرواية الإسرائيلية، وذكريات الفلسطينيين عن نكبة عام 1948 تقدم طريق للبدء – بداية يمكن إن تقود، من خلال عرض ما حدث، إلى مستقبل أفضل، من ذلك النوع الذي لا  يستند إلى العرقية المتزمتة، أو إلى إسكات الفلسطينيين والعنف المستمر.

___________________

د. أحمد سعدي هو أستاذ العلوم السياسية في جامعة بن غوريون في بئر السبع، و د. ليلى أبو اللغد هي أستاذة الأنتروبولوجيا في جامعا كولومبيا. هذا المقال هو من مقدمة كتاب بعنوان "النكبة: فلسطين، 1948 وإدّعاءات الذاكرةِ"  صدر في نيسانِ 2007 عن جامعة كولومبيا، الولايات المتحدة الأمريكية (باللغة الانجليزية).