من تجربة الحركات الاجتماعية: المقاومة الشعبية والتنظيم الشعبي

بقلم: وسام رفيدي*

لم يبلغ الاجتهاد النظري حد الاتفاق على تعريف محدد للحركة الاجتماعية كحركة ذات طابع شعبي. منها مَنْ يحيل تعريفها لمحددات تقنية من حيث قدرتها على تعبئة الموارد والعمل المنظم وتحديد أهداف ممكنة. ومنها ما يربطها بالهوية في ظل التسلط والهيمنة الرقابية للنظام الرأسمالي المعاصر، وغيرها يركز على محتواها الطبقي كحركة تعبر عن الفئات الوسطى أساساً في سعيها لتأكيد ( ذاتها الطبقية) في ظل انسحاقها، خاصة في دول الجنوب.

بالإضافة إلى الكثير الكثير من التعريفات ذات الطابع الأكاديمي التي تعكس في كثير من الاحيان انعزال الباحث، كذات، عن ميدان بحثه، كموضوع، في إعادة انتاج ما حذر منه المفكر الاجتماعي بورديو من هتك العلاقة بين الذات والموضوع، أو في تأكيد جديد لما سبق ان تقدم به غرامشي حول العلاقة بين المثقف والممارسة. لذلك تظل المساهمات النظرية المنعزلة عن الممارسة الاجتماعية عاجزة نظرياً، وبالحد الأدنى لا تقدم إجابات ملموسة عن قضايا ومشكلات الواقع الاجتماعي.

وما يقال عن الحركات الاجتماعية، كحركات شعبية بهذا المستوى أو ذاك، تبعاً لاتساعها والتفاف الجماهير العريضة حولها، يقال عن مفهوم حركات المقاومة الشعبية التي يمكن في لحظة، كما سنرى، اعتبارها حركة اجتماعية. فمتى تكون المقاومة شعبية ومتى لا تكون؟ هل المسألة مثلا حصراً بحجم المشاركين بها، أم بحجم المنخرطين بها، ولو كانوا أقلية، ولكن يتمتعون بدعم شعبي؟ وهل لأشكال النضال المعتمدة صلة بتقييمها كمقاومة شعبية؟ مثلاً إن لجأت للسلاح هل تفتقد طابعها الشعبي، وبالتالي يجب ان تنحصر في نضالات غير مسلحة حتى ينطبق عليها التوصيف؟

المقاومة الشعبية في الخطاب الفلسطيني
إن رغبنا في تحديد أكثر المصطلحات التي تتردد في الخطاب الفلسطيني الفصائلي فيمكن اعتبار مصطلح المقاومة الشعبية واحدة منها. لقد احتل مكانه إلى جانب العديد من المصطلحات التي غدت (موضة خطابية دارجة) في ذلك الخطاب منذ سنوات كمصطلحات (الدولة الفلسطينية المستقلة، حق تقرير المصير، حق العودة)، علماً أن شيوع تلك المصطلحات يعكس تلك التغيرات التي أصابت الخطاب الوطني الفلسطيني منذ العام 1967،[1] عام انطلاق الثورة المعاصرة.  واسترسالاً فإن شيوع مصطلح (المقاومة الشعبية) لم يكن أيضاً بمعزل عن التغيرات التي طالت الخطاب أي بمعنى آخر ينبغي فحص الظرف السياسي الذي أوجد ذلك المصطلح علماً أن مفردات الخطاب، أي خطاب وأي مفردة، لا يمكن التعامل معها كسابحة بلا جذور في فضاء العمل السياسي/ الاجتماعي بالمفهوم الواسع، بل وضمن هذا الفضاء وبتأثير متغيراته.

منذ بضعة سنوات وفي نطاق الرفض الصريح لممارسة المقاومة المسلحة، عبّر أكثر من خطاب للرئيس أبو مازن عن مفهوم المقاومة الشعبية، ثم تم تبني المصطلح حتى غدا، كما قلنا، مصطلحاً دارجاً في الخطاب الفلسطيني، علماً أن البعض مثلا لا يُلحق بالمصطلح تعبير (السلمية) كما يفعل أبو مازن بتأكيدات ملحوظة. إن الدعوة والحال هذا للمقاومة الشعبية بدا وكأنه بديلاً للمقاومة المسلحة، إذ ترافق ترويج المصطلح مع ما ذهبنا إليه من الرفض الصريح للمقاومة المسلحة، ولا يمكن والحال هذا تجاهل ارتباط هذا الرفض وذاك الترويج بالتزامات اتفاقية أوسلو والدور الأمني الوظيفي المنوط بسلطة أوسلو بملاحقة النشاط المقاوم المسلح.
وعليه، بدا وكأن نهج المقاومة المسلحة على النقيض من المقاومة الشعبية ما يوحي مثلاً بانعزالية الأول وانفضاض الناس عنه طالما لا يتمتع بصفة الشعبية وفق نهج خطاب أوسلو. وللحق لم يقف هذا النهج الأوسلوي عند قيادة حركة فتح وسلطتها بل تعداه للعديد من الكتاب الصحفيين المحسوبين على ذات الموقف كما مجموعة فصائل تعيد إنتاج نفس الخطاب وإن أعلنت رفضها لأوسلو.

اختلط الحابل بالنابل إذن! فهل حقيقة أن مفهوم المقاومة الشعبية على النقيض من مفهوم المقاومة المسلحة؟ إن أية مقاومة إذا اكتسبت طابعاً شعبياً عبر الالتفاف والانخراط والتأييد والدعم هي مقاومة شعبية بامتياز، تمييزاً لها عن المقاومة ذات الطابع الفردي الفاقدة للانخراط الشعبي، حتى لو حصل ذلك الجهد الفردي المقاوم على الدعم المعنوي والتفهم الجماهيري.

وعليه، فالثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة هي مقاومة شعبية بكل المقاييس، مقاومة حشدت عشرات آلاف المقاتلين الفلسطينيين والعرب وحتى الأجانب، وانخرطت فيها المخيمات في الشتات بقوة أكسبتها ذلك الطابع الشعبي/ الطبقي العريض، وحازت على ثقة والتفاف شعبي فلسطيني وعربي واسع. والانتفاضة الشعبية في العام 1987 كفعل شعبي عريض وشامل وحاشد استخدمت فيه الفعاليات الشعبية على نطاق واسع مع تطعيمها بفعاليات مسلحة إلى هذا الحد أو ذاك، اكتسبت أيضا طابعاً شعبياً، وأخيراً فإن مسيرات العودة المنطلقة في نيسان في قطاع غزة وبمشاركة الآلاف المؤلفة هي مقاومة شعبية بامتياز.

في النموذج الأول، الثورة، كان السلاح المظهر الأبرز لأشكال المقاومة، اما الثاني، الانتفاضة، فكانت الحجارة والزجاجات الحارقة نموذجها مع محدودية السلاح فيها، فيما في النموذج الثالث فإطارات الكاوتشوك والمقاليع والبالونات الحارقة هي مظهرها الوحيد. ما الذي إذن يجمع بين كل تلك النماذج؟ شعبيتها وحشودها والتأييد الجماهيري الواسع لها، لا شكل النضال الأساس الذي اعتمدته، وعليه تسقط مقولة الربط الأوسلوية بين المقاومة الشعبية كما يروج لها ورفض المقاومة المسلحة، فتغدو مقولة (المقاومة الشعبية) كما في خطاب أوسلو هدفها الوحيد ان تشكل بديلاً لنهج المقاومة المسلحة خاصة عندما ينفضح هدف ذلك الاستخدام بالحاق كلمة (السلمية) بها.

في التنظيم الشعبي للحركات الاجتماعية
إنني من الذين لا يروق لهم كثيراً تلك التعريفات الأكاديمية للحركات الاجتماعية، خاصة عندما يتم تفريغها من محتواها السياسي والطبقي. لذلك فالانتفاضة وفق قناعتي هي حركة اجتماعية ذات محتوى وطني ثوري صريح، وكذا مسيرات العودة، كما الحال مثلاً في حركة النضال من أجل الضمان الاجتماعي كحركة اجتماعية ذات طابع طبقي صريح، وقبلها حركة ارفعوا العقوبات كحركة اجتماعية ذات محتوى سياسي صريح.

ضمن هذا الفهم يمكن نقاش قضايا التنظيم الشعبي كأداة لنضال الحركة الاجتماعية ذات الطابع الشعبي. بداية ينبغي التنويه ان الحركة الاجتماعية لا تسقط أشكال بناها التنظيمية من السماء جاهزة على نشطائها، ولنا في تجربة الانتفاضة الشعبية مثال على ذلك. كل الأشكال التنظيمية التي تشكلت في الانتفاضة كانت في معظمها بمبادرات شعبية، علماً ان تلك المبادرات كان يقف خلفها نشطاء ميدانيون يتوزعون بين نشطاء تنظيميون في فصائلهم ونشطاء غير منتمين، وباستثناء تشكيل القيادة الوطنية الموحدة من مندوبي الفصائل الأربع، فتح وشعبية وديموقراطية وشيوعيون، وتفرعاتها على مستوى المناطق، فكل اللجان التنظيمية الميدانية للانتفاضة تشكلت إما بمبادرات شعبية أو استجابة لدعوات قيادة الانتفاضة، التي كانت تستجيب بدورها للحاجة التنظيمية لبناء لجان محددة، تطبيقاً للقاعدة اللينينية الذهبية: جهاز لخدمة سياسة لا سياسة لخدمة جهاز.

نفس الشيء ينطبق على مسيرات العودة، فاختراع لجان محددة بأسماء (وحدات – وحدة الكاوتشوك، وحدة الإرباك الليلي، ووحدة الأسلاك) كانت أيضاً بنى تنظيمية شعبية بمبادرة الشباب المشتبك عند الحد الفاصل مع الأرض المحتلة عام 1948. وقس على ذلك البنى التنظيمية التي تتشكل لقيادة حركات اجتماعية مثل ارفعوا العقوبات وحركة الضمان الاجتماعي، فالحاجة لتنفيذ المهام الميدانية هي التي تقف خلف تشكيل البنى وليس تصورات تنظيمية جاهزة.

في كل تجارب البنى التنظيمية للحركات الاجتماعية بطابعيها السياسي والطبقي يمكن تلمس حقيقة أن طابع البنى طابعاً شعبياً مفتوحاً وليس ضيقاً، استند لمبادرات تأسيسية وفق الحاجة وليس بناءً على صيغ جاهزة، فمحددات طبيعة التنظيم الشعبي هنا تنبت من طابع المبادرة الشعبية نفسها. ولكن اللافت في الحركات ما بعد الألفية الثانية أن شبكات التواصل الاجتماعي باتت تلعب دوراً تنظيمياً كآليات للتواصل التنظيمي بين مكونات الحركة داخلياً من جهة وبين الحركة وجماهيرها من جهة ثانية.

لقد برز هذا التطور أكثر ما برز في تجربة ميدان التحرير في شباط 2011 في مصر حيث لعبت صفحة خالد سعيد على الفيس بوك الدورين المنوطين بها من حيث توفيرها آلية تواصل داخلية وأخرى خارجية. هذا ما حصل في فلسطين أيضاً في أعوام 2011-2013 بانطلاق الحركات الاجتماعية الشبابية وأبرزها (إنهاء الانقسام) و(مخطط برافر لن يمر)، ولاحقاً حركتي ارفعوا العقوبات والضمان الاجتماعي، فقد استخدمت شبكات التواصل، وتحديداً الفيس بوك، على نطاق واسع في حل المسألة التنظيمية لنشاط الحركة وصلاتها بجماهيرها ونشطائها.

إضافة لذلك، فإن أبرز ما يميز البنى التنظيمية للتنظيم الشعبي للحركات هو مرونتها العالية، فنحن لسنا أمام حزب ثوري سري يميزه انضباط شبه عسكري حسب التوصيف اللينيني، ومرة أخرى، نحن أمام بنى فضفاضة، واسعة، مرنة، جاهزة لاستيعاب طاقات جديدة دونما عناء، وكذلك لاستيعاب آليات ولجان جديدة باستمرار. ذلك كما يبدو من أهم ما يميز التنظيم الشعبي لبنى الحركات الاجتماعية.

لقد ثبت من تجارب الحركات الاجتماعية ذات الطابع الشعبي، والتي تناولنا نماذجها أعلاه، أنها تتفارق، كتجارب للبناء التنظيمي، مع تلك العقلية (الثقافية) التي تعتقد أن حركة الجماهير وآليات نضالها وتنظيمها الشعبي يمكن ان تُوضع مسبقاً كمخطط جاهز كما لو كانت عملية تقنية أشبه بمخطط يتم وضعه كمبيوترياً! يحضرني هنا ذلك المقطع من مسرحية نزل السرور للمبدع زياد الرحباني، عندما اقتحم عاملان ثوريان نزلاً وزرعوا الألغام فيه مهددين النزلاء بإعلان الثورة وإلا سينسفون النزل!!! كان (المثقف الثوري) المرعوب من تمرد العمال يحاجج العاملين بأن الثورة لا تصنع هكذا بل (السورة لا تُصنع ارتجالاً، السورة حزب، فجريدة حزب، فتعبئة، فثورة) وكأن الثورة مخطط أشبه برسم هندسي يمكن رسمه وتنفيذه حرفياً كما رُسم، فما كان من العامل إلا أن رد عليه (فسد بوزك).

----------------------------------------------

[1] - ليس هنا مجال الاسهاب في توضيح ما أصاب ذلك الخطاب، ولكن لمن رغب بالاستزادة مراجعة مقال سابق في (حق العودة) العدد ٦٨ حول التحولات على الخطاب للكاتب نفسه..
 
* وسام رفيدي: محاضر في قسم علم الاجتماع في جامعة بيت لحم.