بقلم: د. توفيق حدّاد*

بالرغم من أهمية السعي إلى وضع النظريات حول الأبعاد العملية التي ينطوي عليها إنفاذ حق العودة، باعتباره وسيلة للنهوض بهذه القضية والارتقاء بها من شعار إلى واقع، إلا أنه من المستحيل إماطة اللثام عن معظم هذه الأبعاد، بما فيها البعد الاقتصادي، دون الخروج بفهم واضح للسيناريو القانوني والسياسي المحدد الذي يعود اللاجئون بموجبه.
 

فلا يمكن فصل السياسة والاقتصاد عن بعضهما البعض. في المقابل، تحدد طبيعة السيناريو الذي يعود الفلسطينيون إلى ديارهم بموجبه، نطاق الحقوق والمزايا التي يقدمها. كما يحدد رعاة هذا السيناريو والخاسرين بسببه، من الناحيتين السياسية والاقتصادية.

وفضلًا عن ذلك، ينبغي التنويه بأن علماء الاقتصاد لا يجترحون المعجزات، ويجب نزع الخرافة التي تَسِمُهم بهذه السمة. وبعبارة أخرى، يجب توجيه علماء الاقتصاد نحو حل المشاكل ضمن محددات واضحة يقررها الممثلون السياسيون. ويمكن إنجار عملهم في سياق مجموعة ممتدة من السيناريوهات السياسية -بما فيها حالات انعدام السيادة في هذه الأيام، وحالات السيادة المحتملة في المستقبل.

وفي هذا الخصوص، ينبغي لنا أن نقرر المحددات والنوايا السياسية التي توجه النشاط الاقتصادي بموجب سيناريوهات العودة، بحيث نعترف بها بصورة صريحة ونوظفها على هذا الوجه في أي سيناريو حالي ومستقبلي على السواء. ويمكن إعداد السيناريوهات الاقتصادية وإنزالها على جميع السيناريوهات السياسية، وعلى مختلف الأطراف المحتملة التي ترعاها، وهو ما يعني في الواقع العملي أن السؤال الحقيقي الذين يكمن وراء اقتصاديات العودة يتعلق بالسؤال: من تريد أن يستفيد من السيناريوهات الاقتصادية وكيف؟

ومن المؤكد أنه ليس هناك من ضمانة تكفل نجاح أي سيناريو من السيناريوهات الاقتصادية، وذلك بالنظر إلى أنه يجب دائماً وضع مجموعة من العوامل والاشتراطات الأخرى في عين الاعتبار. ولكن يجدر ألا يغيب عن أذهاننا أن الاقتصاد لا يُعَدّ علما، وإنما طريقة لتنظيم النشاط الاقتصادي والرابحين والخاسرين في نظام اجتماعي-سياسي، من ناحية مبدئية على الأقل.

وبناءً على ذلك، تقتضي الضرورة الاعتراف بهذا الواقع، وإمعان التفكير في هوية الحركات التي ترغب في الإجابة عن هذه الأسئلة والطريقة التي تعتمدها في الإجابة عليها، ضمن القيود الموجودة والفرص المتاحة.

وينبغي ألا يغيب عن بالنا، بالطبع، أن قضية حق العودة للفلسطينيين تُمثل مسألة لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم أو القانون الدولي بالنظر إلى أنها تُعَدّ أحد الشواغل المتصلة بالحقوق. وبعبارة أخرى، يشكّل انتزاع ملكية الفلسطينيين وتجريدهم أراضيهم وممتلكاتهم نتاجًا لأفعال إجرامية اقترفها أشخاص معروفون يعملون تحت أمرة النظام. وهذا يعني أنه من حقنا المطالبة بأن يتكفل مقترفو هذه الأفعال الإجرامية، والذين يمكن تحديد أسمائهم ومؤسساتهم وحساباتهم المصرفية، بتسديد الجزء الأكبر من التبعات المالية المترتبة على العودة.

وهنا، لا ينبغي أن تنحصر قضيتنا في إخضاع مؤسسات الدولة الإسرائيلية والأفراد الإسرائيليين للمساءلة، بل إن المسؤولية تقع وبلا مواربة على كاهل الأطراف الحكومية والأطراف الفاعلة غير الحكومية التي يسرت لإسرائيل اقتراف تلك الجرائم. ويجب أن يشمل هذا الإجراء المملكة المتحدة وألمانيا والولايات المتحدة، التي ينبغي النظر إليها على أنها تتحمل المسؤولية الرئيسية، على الرغم من انعدام أي سبب يقضي بحماية أي قوة عالمية أخرى أو تبرئتها من هذا الجرم حيثما استوجب الأمر ذلك.

ويُعَدّ هذا البعد أحد الجوانب التعويضية المهمة المتصلة بالعودة، وهو يرتبط بأوجُه العدالة وبإثبات إدانة مقترفي الجرائم الذين يجب إجبارهم على تسديد التكلفة المالية المترتبة على جرائمهم. ولكن هذا البعد لا ينبس ببنت شفة عن أشكال العدالة الأخرى، التي ينبغي البحث عنها من أجل التعامل مع الأبعاد المعنوية والسياسية التي تنطوي تلك الجرائم عليها.

ومع ذلك، فسرعان ما تتكشف المعضلة التي تلفّ مسألة التنفيذ. فلا يمكن تصور السيناريوهات الكبرى بشأن العودة واقتصادياتها دون أن يتبوأ الفلسطينيون موقعاً ييسر لهم القدرة على وضع هذا القرار موضع التنفيذ. وفي الوقت الذي تتّسم فيه القضية الفلسطينية بعدالتها، وبما تشمله من حق الفلسطينيين في العودة واستعادة الممتلكات والتعويض، فإن ميزان القوى الحالي يجعل الاعتراف بهذه الحقوق وإنفاذها أمراً بعيد المنال دون أن يطرأ تحول راديكالي على ديناميات تلك القوى. ومع أننا تحدثنا عن الضرورة التي تقتضي بناء هذه القوة، فنحن لم نذكر سوى النظر اليسير عن الطريقة التي يمكن من خلالها توليد هذه القوة وإخراجها إلى النور.

وفي هذا المضمار، فمن الأهمية بمكان أن نشدد على أن العودة لن تهبط من السماء. فإذا ما كان لحق العودة أن يحظى بالاعتراف وأن يجري إنفاذه على أرض الواقع، فينبغي تجسيد هذا الحق باعتباره نتاجاً لحركة هائلة من النضال، الذي يشمل بكل تأكيد أبعاداً سياسية واقتصادية ومؤسسية تتغلب على المساعي الراهنة التي بذلها الشعب الفلسطيني وحلفائه في هذه الميادين حتى يومنا هذا وتتخطاها، ناهيك عن المساعي التي بذلوها في الميدان العسكري، تاريخيًا وربما في المستقبل في آن معًا.

فالانتصار لن يتحقق من بناء القصور في الهواء، بل ينبغي أن يتمخض عن مجموعة من التكتيكات والإستراتيجية، وتثقيف الأفراد والمجتمعات وحشدها على المستويين المحلي والدولي، واعتماد خطاب سياسي واضح، وإنشاء المؤسسات، وتمويل المنظمات والنشاطات، وتنظيم الحلفاء وتوظيف جميع هذه العوامل في مواجهة عدو له إستراتيجيته وتكتيكاته وتركيبته الاجتماعية والسياسية وحلفاؤه وقواعده العسكرية والاقتصادية التي تقع تحت تصرفه.

وفي هذا المقام، يجدر بحركتنا أن تفكر على نحو إستراتيجي في أصولنا وغاياتنا، وأن تتفهم الوقائع الرئيسية التي ترفد قوة إسرائيل ونجاحها. فنجاح إسرائيل يتأتى من قوتين محركتين رئيسيتين، هما: الآليات الداخلية ضمن منظومة الاستيطان الكولونيالي -وهي بالتحديد القوى المحركة الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تؤلف الصهيونية-، والمحافظة على بيئة سياسية وأيديولوجية واقتصادية دولية تكفل للقوة المحركة الأولى أن تؤدي عملها وتفعل فعلها.

وينبغي تركيز الطاقات الفلسطينية على كلا الجبهتين، مع إيلاء انتباه خاص إلى استهداف البعد الثاني على نحو إستراتيجي بالنظر إلى أنه يشكل الرئة التي يتنفس المشروع الصهيوني منها. وعلى وجه الخصوص، ينبغي للفلسطينيين أن يركزوا على زعزعة البيئة العامة التي خلقتها الدول الغربية لغايات تمكين إسرائيل، حيث أن هذه القوى المحركة هي ما يضطلع بدور محوري في تغذية المشروع الصهيوني ورفده على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.

ويتمثل الادعاء المركزي الذي يجب علينا أن ندفع به في أنه ليس في مصلحة المواطنين الأوروبيين أو الأمريكيين العاديين الذين يدفعون الضرائب أن تذهب أموالهم إلى دعم نظام الفصل العنصري الإسرائيلي.

وعلى ذات القدر من الأهمية، ينبغي أن يتمحور التحدي على المستوى المحلي حول الهدف الذي يرمي إلى تعزيز وجود الفلسطينيين، وصمودهم ومقاومتهم على الصعيد المحلي، وعلى ما تتضمنه الجوانب الاقتصادية التي يستتبعها ذلك.

ولذلك، ينبغي الإجابة عن السؤال الذي يتناول اقتصاديات العودة، في المقام الأول، في سياق فهم ماهية الاقتصاديات التي توردها الإستراتيجية الفلسطينية الحالية بالفعل، وفهم كل جبهة من الجبهات المحددة التي تعمل عليها (الداخلية والخارجية).

وتظهر مجموعة جديدة من الأفهام عندما ننظر إلى المسألة من هذه الزاوية. فعلى المستوى الدولي، يجب أن تعمل الإستراتيجية التي تركّز على استهداف البيئة التي تعزز الكولونيالية الصهيونية بصبر، لكي تسهم في إعادة بناء الحركات الاجتماعية والسياسية وجماعات الضغط الغربية، حتى تتمكن من التحول إلى أطراف فاعلة في سياق أعمّ يدفع الإصلاحات التقدمية في بلدانها، والتي يمكن تضمين القضية الفلسطينية فيها بحيث تصبح مكونًا عضويًا فيها.

وليس في وسعنا أن نغض الطرف عن الفرصة السياسية المهمة التي برزت لصالح قضيتنا في ضوء الأزمة الاقتصادية التي شهدها العام 2007/2008، والأزمة السياسية التي ظهرت في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية منذ ذلك الحين. وعلى وجه الخصوص، بدأت الأنظمة السياسية الراسخة في الديمقراطيات الرأسمالية الغربية والأحزاب الرئيسية التي هيمنت على الساحة السياسية فيها منذ الحرب العالمية الثانية -الأحزاب بشقيها الديمقراطية الاجتماعية / الليبرالية- والأحزاب التي تتسم بنزعة محافِظة أكبر - وهي الأحزاب التي دأبت على دعم إسرائيل منذ الحرب العالمية الثانية، تفقد جاذبيتها التقليدية على المستوى الشعبي.

فقد ظهرت مجموعة من المنافسين الذين ينتمون لتيارات اليسار واليمين، حيث باتوا يدلون بدلوهم في الإجابة عن الاضطرابات التي شهدها العالم الذي أصابه الانهيار بعد العام 2007. وهذا يخلق بيئة جديدة يمكن فيها النظر إلى الأطراف السياسية الفلسطينية على أنها تعيد بناء منظومة سياسية جديدة وتضيفها إلى النظام القائم.

وفي الواقع، فلن تفضي إعادة البناء على الإطار الذي يتضمنه النظام السياسي القديم، إلا إلى تعزيزه وتوطيد أركانه. ومع ذلك، فإذا عملنا على بناء منظومة سياسية جديدة تثير التساؤلات حول الترتيب الرأسمالي الغربي السابق، فسوف تسنح فرصة أمام الحركة الفلسطينية لكي تبني تحالفات جديدة باعتبارها جزءاً من الحركات الاجتماعية-السياسية الناشئة التي تجد موطئ قدم لها مستقبلاً في هذه الدول.

وتتسم اقتصاديات هذه الحركة بقدر كبير من التعقيد الذي لا يتيح التعبير عنها، وذلك بالنظر إلى أن بيئة كل دولة على حدة تختلف عن الأخرى. ومع ذلك، لطالما كانت الحركة الفلسطينية في حاجة إلى توجه أكثر تطوراً لفهم طبيعة التحالفات الصهيونية-الغربية والشبكة التي تجمع المؤسسات على المستويات الحكومية وغير الحكومية والاقتصادية والإعلامية، على تعزيز الدعم الغربي لإسرائيل في كل دولة. وليس في وسعنا أن نوجه المال والطاقات نحو كشف هذه المساعي، وبما يفضي بنا إلى عزلها وتقويضها، إلا حينما نملك فهمًا أوضح للشبكات المحددة التي تناصر الصهيونية وتميط اللثام عنها.

وعلى المستوى المحلي، يجب أن تولى أجندة اقتصاديات العودة الأولوية لكيفية بناء حركة، يُمكن أن يحالفها النجاح في الصمود في وجه الاستيطان الكولونيالي الصهيوني ومقاومته. وفضلاً عن ذلك، تتسم التفاصيل التي تبيّن الجوانب المالية التي تنطوي عليها هذه الأجندة بقدر من التعقيد، ولكن تجدر الإشارة إلى أن جزءاً من هذا العمل يجب أن ينطوي على إنشاء حركة مقاومة وإرساء الدعائم اللازمة لوجود وطني فلسطيني يضمن أن عبء العمل الوطني والثمار التي يؤتيها يجري تحديدها، وإضفاء طابع اجتماعي عليها وفق نهج ديمقراطي إلى أقصى حد ممكن.

وهذا يعني أنه لن يكون هناك من مجال لاتخاذ قرارات خطيرة تؤثر على المجتمع بأسره من جانب الأقلية فيه. وفي الواقع، يشكل إضفاء الطابع الديمقراطي على اتخاذ القرارات وإضفاء الطابع الاجتماعي على عبء العمل الوطني الفلسطيني -على المستوى الاقتصادي وعلى مستوى العمل بالقدر نفسه- الطريقة الفضلى التي تكفل الاستمرارية والدينامية ضمن هذه الحركة على المدى البعيد.

وهنا، يجدر التنويه إلى أن الأشكال الحالية التي تَسِم التمويل الوطني والعمل الوطني الفلسطيني تضع قسطًا هائلًا من القوة في يد النخبة، التي تُبرم اتفاقياتها خلف الأبواب المغلقة، ودون إنفاذ الرقابة عليها من جانب عدد كبير من أصحاب المصلحة المعنيين.

وبينما يصعب ضمان الإفصاح الكامل والإجراءات الديمقراطية التي تسم الأبعاد العملية لمقاومة احتلال في ظل ظروف تنطوي على الاحتلال والكولونيالية الصهيونية، فهذا لا يعني أنه يمكن إعطاء صلاحية كاملة للقيادة أو انتقاء النخب المالية والسياسية، لكي تعمل بالنيابة عن الشؤون الفلسطينية كما لو كانت قضيتها الشخصية.

ولذلك، ينبغي لأجندة اقتصاديات العودة أن تفكر بطريقة إبداعية في الطريقة التي تتكفل بإعادة تنظيم الترتيبات المالية المحلية، لكي تملك القدرة على بناء حركة محلية فعالة تجد موطئ قدم لها ضمن استراتيجية سياسية أشمل، وتتضمن الأبعاد الإقليمية والدولية في الوقت نفسه.

ولا يمكن النظر في قضية العودة، والشكل الذي يمكن أن تبدو عليه اقتصادياتها ودراستهما على نحو جاد، إلا بعد بناء حركة سياسية فعالة على المستويين الدولي والمحلي. وفي هذا الخصوص، فمن الأهمية بمكان أن نفهم الكيفية التي تنجَز فيها العودة، وما إذا كانت تنجَز باعتبارها جزءاً من فعل أكبر من أفعال التحرير الوطني، أم باعتبارها جزءاً من فعل الاستسلام.

ولا يتسم إنتاج الاقتصاديات المتعلقة بكلا السيناريوهين بالتعقيد. والسؤال الحقيقي الذي يجب طرحه هو: من يملك الحق والقدرة على الإشراف على هذا الترتيب الاقتصادي ووضعه موضع التنفيذ، ووفقًا لأي معايير؟ وفي هذا المضمار، تقتضي الأهمية أن نفهم الطريقة التي سيؤثر اقتصاد حركتنا وسياستها اليوم من خلالها على اقتصاد حركتنا وسياستها في الغد.
 
------------------------------
* توفيق حداد: يحمل درجة الدكتوراه في دراسات التنمية من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن. وهو مؤلف كتاب (Palestine Ltd: Neoliberalism and Nationalism in the Occupied Territory)، الذي نشرته دار آي. بي. توريس (I. B. Tauris) في العام 2016.