عاد إليها بعد ستة عقود من النكبة في حافلة محملة بالجنود الإسرائيليين - حسن حجازي: أوّل لاجئ فلسطيني يعود إلى مدينته يافا*

بقلم: سيد إسماعيل**
 
"... في قرية مجدل شمس، كنتُ أمام مفترق طرق صعب: كنا قد تجاوزنا الحدود السورية مع دولة الاحتلال من خلال مسيرة العودة، وقد أدّينا صلاة الظهر في ساحة البطل سلطان باشا الأطرش. كنّا مائتي شخص فقط، من بينهم شقيقتي تقى الزهراء، تمكنا من الوصول إلى هذا المكان بعد مواجهات صعبة مع جنود الاحتلال، لنتجول في شوارع هذه القرية، ونجالس أهلها في دار الطائفة الدرزية، لأسمع هناك قصصاً عن أهلنا في حيفا ويافا وعكا..."

يتوقف حسن حجازي، قبل أن يتابع بالقول:
كان سماع هذه القصص أشبه بالحلم بالنسبة لي. ثمة نداء في داخلي راح يناديني: "أنت غير بعيد عن تحقيق حلم حياتك بالعودة إلى يافا. عُد إليها إذن! ماذا تنتظر؟" ساعتها فقط، قررتُ أن أستجيب لهذا النداء، مدركاً أنه قد يتم اعتقالي أو حتى قتلي خلال رحلة عودتي إلى يافا، التي خضتها بلا مالٍ أملكه، تاركاً ورائي في سورية كلّ شيء: عملي وزوجتي الحامل، منطلقاً في رحلتي الخاصة لتحقيق حلمي .

من اليرموك ... بدأت الرحلة

كان يوم الخامس عشر من أيار من عام 2011 يوماً مميزاً بالنسبة لآلاف اللاجئين الفلسطينيين في سورية، الذين انتظروا هذا اليوم بفارغ الصبر من أجل المشاركة في "مسيرة العودة"، التي تمت دعوة اللاجئين الفلسطينيين في مختلف أنحاء العالم للمشاركة بها، وخاصة فيما يعرف بـ "دول الطوق العربي". يقول حسن:
كانت يافا تعني لي الكثير. كنتُ قد سمعتُ الكثير من القصص عنها وعن بيتنا في حي النزهة الذي تركه جدي هناك، رافضاً أن يشتري له أيّ منزلٍ آخر في الشتات، وكان يردد مقولته: "بيت في غير بلدك لا إلك ولا لولدك". وبالتالي، زاد تعلقي بها منذ الصغر، لدرجة أنني احتفظتُ بصورة كبيرة لها علقتها في غرفتي منذ الصغر. وقد رافقتني هذه الصورة في غرفتي أيضاَ عندما كنتُ طالباً بكلية الهندسة. وبالتالي، فإنّه وبمجرّد الإعلان عن المسيرة، قررتُ المشاركة بها مع عائلتي.
بدأت مسيرة العودة من سورية إلى فلسطين من مخيم اليرموك، الذي جاءه اللاجئون الفلسطينيون من مختلف مخيماتهم الواقعة بالأراضي السورية. تجمّعت هناك مئاتُ الحافلات، التي انطلقت باتجاه الجولان عند الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح ذلك اليوم، حيثُ كان حسن مع والدته وأخته تقى الزهراء وزوجها وأولادهما.
يتابع حسن:
بعد رحلة دامت ساعة ونصف فقط، وجدنا أنفسنا أمام الأسلاك الشائكة الفاصلة بيننا وبين المنطقة التي لا زالت واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي في الجولان. كانت تلك الأسلاك صدئة متهالكة، مما سهل علينا اختراقها بسهولة، فضلاً عن عدم وجود تحصينات إسرائيلية في المنطقة. وهكذا وجد الجنود الإسرائيليون، الذين لم يزد عددهم عن ثمانين جندياً، أنفسهم أمام الآلاف من اللاجئين العزّل الممتلئين حماسة والراغبين بالعودة إلى بلادهم مهما بلغتِ التضحيات.
ورغم عدم تكافؤ القوّة بين المتظاهرين والجنود؛ إلا أن المفاجأة أن الجنود المدججين بالسلاح قد فرّوا من أرض المعركة، بعد مواجهات صعبة مع المتظاهرين. المتظاهرون - العائدون  أصروا على الاستمرار في مسيرتهم، رغم إطلاق الرصاص الحي عليهم وقنابل الغاز المسيل للدموع. أُصيب العشرات منهم بإصابات مختلفة. قلة استطاعت العودة. استقبل أهالي قرية مجدل شمس بالجولان من وصل إليهم من المشاركين بالمسيرة بترحاب واضح. أما من لم يستطع العبور، فقد كان قرار أغلبيتهم هو الرجوع إلى سورية والاستعداد لمواجهة جديدة مع الاحتلال، عبر قدوم أعدادٍ أكبر من المتظاهرين في المرة المقبلة. لم يدرك أيّ منهم أنه لن يتمكن من معاودة مباغتة حرس الحدود؛ لأن الاحتلال كان قد استعد لتلك المواجهة التي جرت لاحقاً بعد أقل من شهر-  من خلال نشر المئات من القناصة والجنود الذين قتلوا العشرات وجرحوا المئات. هنا كان على حسن أن يتخذ قراره.
حدثني حسن قائلاً:
لا تتخيلْ كم كان اتخاذ القرار صعباً! كانت عائلتي تنتظرني في سورية. زوجتي حامل في الشهر الخامس، حيث ينتظر كلانا المولود الأول. كما أن قرار مواصلة الطريق في مسيرة العودة يعني أنني سأواصل ذلك الطريق المحفوف بالمخاطر وحيداً، ودون أن أمتلك مالاً أو خريطة للوصول إلى هناك، مع احتمالية عالية بأن يتم قتلي أو اعتقالي في أحسن الأحوال دون تحقيق حلمي بالوصول إلى يافا. لكنني قررتُ بأن أترك ورائي كلّ شيء وأن أمضي في طريقي نحو يافا.

رحلة محفوفة بالمخاطر
ودّع حسن رفاقه، ومضى في طريقه. ما سيسهل عليه العديد من الأمور في رحلته أنه أبيض البشرة، ذو شعرٍ أشقر داكن اللون، وعينين خضراوين، مما سيجعل الاشتباه بأنه "عربي" أو "فلسطيني" أمراً بعيد الاحتمال. وهذا ما حدث بالفعل:
بعد أن قطعتُ مئات الأمتار وجدتُ بالقرب مني العديد من الجنود الإسرائيليين مع سيارات إسعاف. لم أظهر ارتباكاً أو خوفاً: لوحتُ لهم بيدي ببساطة، ومضيتُ في طريقي وأنا أنتظر أن يطلق أحدهم الرصاص عليّ، أو أن يناديني بعبارة: قف! لكن الأمور سارت على ما يرام، ولم يوقفني أحد! قررتُ الركوب من خلال طريقة  “الأوتوستوب” (التوصيل المجاني).
كان أول من أقلّه أحد السوريين من سكان الجولان، الذي ما أن عرف بأنه "لاجئ فلسطيني من سورية ويودّ أن يعود إلى يافا"؛ حتى قام بإنزاله من سيارته فوراً! لاحقاً، التقى بأحد السائحين الفرنسيين، والذي كان أحد "ناشطي السلام" أيضاً، والذي قرر مساعدة حسن، بعد تأكّده بأنه لا ينوي القيام بأي عمل عسكري داخل دولة الاحتلال، وأنه لا يريد سوى العودة فقط إلى مدينته. قدم السائح خدمات قَيِّمة لحسن، من خلال مساعدته على تجاوز الحواجز العسكرية الإسرائيلية بسهولة، ليوصله إلى قرية طرعان، قضاء الناصرة، قائلاً له بأنه بإمكان أهل القرية توفير المال والحماية له كي يواصل طريقه.
 
يواصل حسن سرد حكايته:
كان من الواضح أن الحظّ قد كان حليفي وبشكل قوي. وفقني الله وعرّفتُ عن نفسي لأحد سكان القرية، الذي ما أن أريته أوراق ثبوتيتي، وعرف أنني لاجئ فلسطيني من سورية حتى قام بإكرام وفادتي. استضافني في بيته، وراح يحدثني عن واقع مدينة يافا الآن، وكيف أنها قد فقدت الكثير من رونقها لتلتهمها مدينة تل أبيب، في ظل تهميشها المخطط له من قبل الاحتلال ... لقد صدمني هذا الأمر.
غادر حسن طرعان، محملاً بالتوصيات والإرشادات اللازمة لإيصاله إلى يافا، بالإضافة إلى ما يلزمه من مال للوصول إلى هناك لإكمال رحلته:
من خلال محطة الحافلات القريبة من الناصرة، توجهتُ إلى يافا، حيثُ ركبت بحافلة كان بها أكثر من عشرين جندياً إسرائيلياً. لم أشعر بالخوف أبداً، بل على العكس؛ كنتُ منتشياً بأنني على وشك تحقيق حلمي بالوصول إلى مدينتي يافا.
يواصل حسن:
خلال رحلتي بالحافلة، تعرفتُ على إسرائيلي يهودي جلس بجواري يُدعى جوزيف، حاول تجاذب أطراف الحديث معي، فأخبرتهُ بأنني من بولندا لأبرر ركاكة لغتي الإنجليزية، لكن المصيبة أنه أخبرني بأن أصله من بولندا أيضاً! كان اكتشاف هويتي ساعتها ممكنناً لولا أن جوزيف-  من حسن حظي-  لم يكن يتكلم البولندية على الإطلاق. تظاهرتُ بعدها برغبتي في النوم كي أتلافى أسئلته والوقوع في المزيد من "المطبات".
وصلت الحافلة تل أبيب، حيثُ أخبره جوزيف عن كيفية الوصول إلى أحياء يافا العربية، ناصحاً إياه بأن يتلافى دخولها في ذلك الوقت، "بسبب انتشار العنف والجريمة هناك"، حيثُ أن ساعات المساء قد حلت، وإن الإسرائيليين اليهود والسياح لم يكونوا ليجرؤوا على دخولها ليلاً. لكن حسن مضى منطلقاً في طريقه، ليصل إلى أحياء يافا العربية أخيراً، بعد أن استقل سيارة تاكسي إلى هناك.

حلم لاجئ بمواجهة جبروت دولة
عند هذه اللحظة بدأ الفخر والجذل واضحين في حديث حسن:
عندما وصلتُ إلى يافا، لم أكن أشعر بالخوف الذي تحدث عنه جوزيف، بل غمرني شعورٌ آخر تماماً: السكينة. كنتُ أود معانقة المدينة بأسرها. إنها مسقط رأس أجدادي ومدينتي التي انتميتُ لها منذ الميلاد، وكان حلمي الدائم أن أراها. أنا ابن هذه الأرض التي حُرم من دخولها ثمانية ملايين لاجئ. واحد منهم فقط تمكن من العودة إلى يافا، برغم إرادة دولة الاحتلال ومنظومتها الأمنية! لقد كان شعوراً لا يوصف.
في تلك الليلة، وبأحد مقاهي يافا، يتعرّف حسن على واحد من أهالي المدينة من الفلسطينيين، الذي يكرم وفادته، ويساعده في رحلة بحثه عن بيت جده الذي كان حسن يحفظ عنوانه غيباً: "حي النزهة، مقابل مستشفى الدجاني". لكن ستة وستين عاماً غيَّرت الكثير في ملامح المدينة. لم يبق شيء على حاله. حاول البحث عمن تبقى من عائلته، الذين قيل له بأن الاحتلال قام بنقلهم قسراً وأسكنهم بحي العجمي. لم يتمكن من ذلك أيضاً للأسف الشديد. بعد يومين، يقرر حسن تسليم نفسه لسلطات الاحتلال، ليس استسلاماً او ندماً، بل لتجنيب الفلسطينيين عواقب مساعدته واخفائه. كان ممتلئاً بزهو المنتصر، فقرر قبل ان يسلّم نفسه، ان يعلن انتصاره علناً في لقاء مع القناة العاشرة الإسرائيلية، التي أجرى مراسلها "تسفي حزكيلي" لقاء مصوراً معه.
فجّر اللقاء موجة غضب عارمة داخل دولة الاحتلال: كيف ينجح فلسطيني واحد أعزل، قادماً من مخيم اليرموك بسورية في الوصول إلى قلب (إسرائيل)، دون أن يوقفه أحد؟ الاكثر من ذلك أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية قد فشلت بالقبض عليه، حيثُ أنه هو من قام بتسليم نفسه!  تمت بعدها محاكمته، حيثُ قرر القضاء الإسرائيلي إطلاق سراحه، وترحيله إلى سورية بعد ما يزيد على الأربعين يوماً من الاعتقال.
ويتمم حسن:
أود أن أقول للجميع شيئاً واحداً: أنا لستُ بطلاً؛ بل أنا واحدٌ من ملايين اللاجئين الفلسطينيين المحرومين من العودة إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها، والذين أثبتوا للعالم أجمع بأنهم، رغم مرور ستة وستين عاماً لم يفقدوا هويتهم ولم يتنازلوا عن حلمهم في العودة، ولا زالوا متمسكين به. الفارق الوحيد بيني وبينهم أنني نجحتُ في تحقيق هذا الحلم ولو لأيامٍ معدودة. لكنني أقول بأننا سنتمكن من تحقيق هذا الحلم يوماً ما لنبقى فيها إلى الأبد.

-----------------------
* القصة الصحفية الفائزة بالمرتبة الأولى في مسابقة جائزة العودة للعام 2014، حقل القصة الصحفية.
** سيد زكريا سيد اسماعيل: من سكان مدينة غزة، حاصل على شهادة اليسانس في علوم الاعلام والتواصل، وحاز على العديد من الجوائز في الكتابة الإبداعية والقصة الصحفية.