نحن في اليوم ما بعد الغد..الى اين؟

بقلم: كمال هماش*

على اختلاف ما يراه الكثير من المحللين السياسيين المستندين الى الوقائع السياسية، في إشارتها لتراجع مكانة قضية اللاجئين الفلسطينيين ومسألة حق العودة إلى مكان متأخر، ارتباطاً بتراجع درجة الاهتمام الدولي بالقضية العامة وانصباب معظمه على ما يجري من حراك وثورات وانقلابات في الشرق الاوسط عموماً والمنطقة العربية بشكل خاص، فإن هذه التحليلات المستندة إلى مجريات الاحداث، لا تعدو كونها تفاعلات اللحظة التاريخية التي لا تذهب عميقاً باتجاه الأسباب الصانعة للحدث مكتفية بنتائجها.
ويعيدنا هذا الامر لضرورة العودة للتطورات التي شهدتها المنطقة منذ بدايات القرن الماضي من صياغات لخرائط النفوذ الاستعماري بمرحلتيه المباشرة وغير المباشرة، والتي أسهمت في التأسيس الجدي للاحتقانات الشعبية في مطلق الأقطار العربية بحدودها المصطنعة، والتي ستؤدي جدلياً إلى لحظة انفجار قد تتسم بالعفوية او التنظيم في الزمن اللاحق. الا ان الفاعل الموازي لهذا العامل الدولي والاقليمي، تمثل في عدم الاستسلام الشعبي الفلسطيني والعربي لإلغاء الوجود الفلسطيني واستبداله بالاستعمار الاستيطاني الصهيوني، الذي انشأ اسرائيل بمباركة انظماتية عربية، مما ساهم في تصاعد موجة الفكر القومي المناهض للغرب الاستعماري، واشتعال ثورات التحرر الوطني والتي غالبا ما تم الالتفاف عليها فيما يسمى باتفاقيات الجلاء المتصلة بالابقاء على قواعد عسكرية استعمارية، وتكبيل الاقطار حديثة الاستقلال المزعوم ببنية تحتية نظامية متينة ترسخ التبعية الاقتصادية والسياسية للغرب.

ولا يمكن تفهم مواقف تلك الكيانات الوليدة من القضية الفلسطينية ما بعد النكبة، وسعيها لضم وتجزئة ما تبقى من الارض الفلسطينية، بدلاً من دعم الفلسطينيين لإنشاء دولتهم على تلك الارض كقاعدة لبلورة هوية وطنية في مواجهة بزوغ دولة الكيان الصهيوني، إلا ارتباطاً بتبعية هذه الدول المطلقة بالقيادة الرأسمالية الاستعمارية للمشروع الصهيوني.

ولعل المخاطر المحيطة بالقضية الفلسطينية عموماً وحق اللاجئين في العودة تحديداً، يمكن مقاربتها مع تلك البيئة الدولية والاقليمية التي أحاطت بالمسألة الفلسطينية في عقود النصف الاول من القرن العشرين وصولاً لنهاية العقد السادس، حيث شهدت الساحة الشرق أوسطية ميلاد الثورة الفلسطينية الفتية والعنيفة، والتي وضعت الأنظمة أمام خيارات مرة بين الإجهار بعدائها للثورة الوليدة أو مسايرتها ومحاولة احتوائها.

وفيما بعد النكبة، شهدت الاقطار العربية المحورية المستقلة حديثا (مصر، سوريا، العراق)، حالة عميقة من عدم الاستقرار، فقد حدثت العديد من الانقلابات، وهو الامر الذي يتشابه مع حال اللحظة التاريخية فيما يتعلق بما يجري من صراع داخلي وبتدخل غربي مباشر، يكاد يودي بوحدة التراب الوطني لهذه الاقطار بعد أن أنجز تفكيك الاجتماع السياسي الداخلي وتسعير حالة الاحتراب الذاتي داخله.

وقد تكون المفارقة الوحيدة في الواقع الفلسطيني، هي وجود السلطة الوطنية الفلسطينية المرتبطة حيوياً بشروط الاحتلال، مع الحفاظ على مقاربة شبه الحكومة في قطاع غزة التي تُذكر بواقع حكومة عموم فلسطين، بكل ما يعتري المفارقة والمقاربة من تفاصيل تحتمل تناقض وجهات النظر في مقارنة البيئة التاريخية للخارطة المحلية والاقليمية والدولية وتداول الأدوار والتحالفات والوكالات.

وليس قفزاً عن مصفوفة الحقائق التي يعرفها قارئ تاريخ القضية الفلسطينية جيداً، أو تسرعاً في التوصل لاستخلاصات محددة سلفاً، فإن التخوفات التي يضعها الكثيرون حول مستقبل القضية ومركباتها استناداً لمقاربة ذكرناها، او مفارقة تم إغفالها، تبقى محتفظة بأهميتها أمام الحيرة التي يقع فيها المحللون في قراءة الكُمون الهادئ الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني، محاطاً باحباطات الواقع العربي وفشل مشروع التسوية السلمية في تحقيق الحد الادنى من الاهداف الوطنية لأكثر من عقدين.

إلا أنه يمكن اختزال حجم تلك التحديات عبر الفهم العميق لتحولات الاقتصاد السياسي الفلسطيني، وبروز الفوارق الطبقية في تراكم الثروة وسوء توزيعها، وانعكاس الفواصل الطبقية جغرافياً، بظهور المدن الجديدة على طراز –المستوطنة الفلسطينية- قبالة تضخم المخيمات سكانياً والازدياد الطردي في المعاناة كمياً ونوعياً، إضافة إلى هوامش المدن والقرى المهمشة، التي يأكلها غول الاستيطان بينما تصنع الراسمالية الفلسطينية الصفقات التبادلية مع المنظومة الاستيطانية  لتزويد مشروعاتها بالمياه او لفتح شارع لمدينة الحلم الفلسطيني المتأسرل.

وبمقتضى هذه التحولات الفلسطينية الداخلية واستمرار الخنق الاستيطاني والعسكرتاري الإسرائيلي المباشر، وعجز السلطة الفلسطينية والدبلوماسية العربية والدولية عن التصدي لها، فإن صاعق الانفجار القادم سيكون مزدوج التكوين. تندمج فيه الذرات الطبقية مع الغلاف الوطني للصراع، أو العكس، عبر تطور النضال الوطني لأشكال غير متوقعة تأخذ في طريقها البعد الطبقي بمواجهة طبقة رأسمالية فوق وطنية ستصطدم بالضرورة بالحركة الوطنية حفاظاً على مصالحها العابرة للجدار والأنهار.

ومن الجلي أن الفقراء عموماً واللاجئين الذين كانوا طوال الوقت السابق وقود الثورة وشعلة استمرارها، سيمثلون المُكَوِن الرئيس لأمواج الطوفان القادم، إن لم يكن في الغد.. ففي يوم ما .. بعد الغد.

--------------------------------------------------------------
كمال هماش: مستشار وزير العمل لشؤون التشغيل