الافتتاحية: استراتيجية الإنحدار بانتظار الفرج!


في نظرة سريعة على الأحوال المحيطة، لا يصعب رؤية ما وصلت إليه القضية الفلسطينية والحقوق الوطنية والإنسانية من تراجع. العالم، أو قُل المجتمع الدولي، مشغولٌ بتحريك الإرهاب أو محاربة الإرهاب بحسب الوجهة لكل ذي مصلحة. الإقليم مشتعل بنيران الفتن والحروب، ويبدو أنه سيواصل استنزاف ذاته إلى أمدٍ ليس بالقصير.
إسرائيل توغل في استعمارها لفسطين وبطشها للشعب الفلسطيني. أخذت العالم إلى المساحة التي تفضل، فلم يعد الحديث مركّزاً على حُمّى الإستعمار الإستيطاني، إنما على الأمن المفقود وحق الدفاع عن النفس.

القيادات الفلسطينية على اختلاف برامجها وعلاقاتها، غارقة في عجزها وفي انتظار الفرج، وانتهاء حرب السعودية على اليمن، واستقرار الأوضاع الأمنية في مصر، والتسوية في سوريا.

المؤسسات الدولية الرسمية امتهنت اللغة المتوازنة تساوقاً مع متطلبات عدم عرقلة الجهود السياسية الرامية إلى تحقيق السلام. المؤسسات الدولية غير الحكومية احترفت التوثيق ولا زالت تُشخّص، وتُكيّف الجرائم وتدين الممارسات وتطالب بالمساءلة والعدالة واحترام حقوق الإنسان.

الشعب الفلسطيني في فلسطين وخارجها لا يجد ما بين الضربة والضربة متسعاً حتى للتأوّه. مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني مُستنزَفة ما بين رحى الممول وجسامة المهمات، ومنافسة السلطة الفلسطينية لها.

الأرض تصغر، وفلسطين تضيق بأهلها، وسبل العيش تكاد تنعدم، والحقوق الإنسانية مستباحة في كل وقتٍ ومكان. قطاع غزة ذاهب جرّاء الحصار والإنقسام والمصالح الإستراتيجية للأطراف إلى الأسوأ والمجهول. اللاجئون من سوريا والعراق ولبنان يركبون قوارب الموت لملاقاة التمييز والإنكار والتشرّد على نمطٍ مغايرٍ في دول لجوئهم الجديدة. القدس تتعرض للتهويد، وسكانها يكابدون التنكيل اليومي، وعليهم منفردين أن يواجهوا الظروف القهرية التي تخلقها إسرائيل بهدف تهجيرهم. المنطقة (أ) تتمظهر بانتفاخ مَرَضِيّ - سياسي، وأمني، واقتصادي، واجتماعي، وثقافي، وبيئي-  يسحق المسحوقين أصلاً، بينما المنطقة (ج) مستسلمة للأمر الواقع؛ لا يضيء عليها إلّا مبادرات فردية أو مؤسسية محدودة.

أما الإستراتيجية فهي: ما بين الإنحدار والإنحدار علينا الإنحدار! تارة لتفويت فرصة لم تأت أبداً، أو أنها فرص لا تعدو أكثر من انتقاص لحقوقنا، وتارة باسم المصلحة الوطنية العليا التي يحتكر تحديدها البعض فلم نعد نعرف لها خطوطا أو ملامح خطوط، وتارة بدعوى جهلنا بخفايا الأمور والغول المتربص بنا خلف الأكِمّة، وتارة باسم القرار الوطني المستقل، الذي لم نعد نعرف له مصدراً من كثرة الهيئات والمسميات وتعدد الوجهات والتوجهات، وتارة لأن اللحظة والظرف غير مواتيين... في كل الحالات والأحوال ليس المطلوب منا إلّا الإنحناء ثم الإنحناء إنحداراً فإنحدارا! لقد اصبح الإنحدار استراتيجية وطنية علينا اتباعها للإنسجام مع الخط العام، إلتزاماً بالشرعية، وبالخطوط الحمر أو البيض لا ندري- فالمهم أنه علينا أن نواصل الإنحدار. 

وما بين الإنحدار والإنحدار سيظل يخرج علينا أحدهم بتصريحٍ ناري، أو تفاؤلي، أو تحفيزي، لا ليَستنَفر في شعبنا الإستعداد للمواجهة، بل ليُموضعنا تماماً في وضعية الإذعان كي يتمكن من مواصلة تسويق فشله أولاً ودوره في الإنتفاع بمعاناتنا ثانياً. وسيظل يخرج علينا أحدهم بتصريحات إعتباطية، أو إحباطية، تَسْخيفيّة تنال منّا ومن تاريخنا ومن الومضات المنبعثة هنا وهناك في واقعنا المرير، وحتى من الأكرم منا جميعا؛ وما علينا إلّا أن نحترم أصول الطاعة فنخرس، وننساق كغنم القطيع إلى الذبح غير معترضين. لنا أن نتألم، لكن ليس لنا أن نرفع الصوت.

وما بين الإنحدار والإنحدار ستظل الساحة مقفرة، إلّا من ومضات بطولية، يجول فيها من لم يعرف أن الفرق شاسع ما بين فلسطين الوطن وفلسطين الدولة الموعودة، وما بين شرق القدس والقدس الشرقية، وما بين الإستعمار والإحتلال، وما بين الخِطاب البكائي والخِطاب الحقوقي، وما بين الهوية والهوانيّة، وما بين العودة والحل المتفق عليه، وما بين الإرهاب والمقاومة، ما بين الأمن والأمان، وما بين الحكمة والدونيّة.   

احفظوا لشعبنا كرامته؛ دعوه يشقى بجراحه منفرداً وبعيداً عن تصريحاتكم النارية، فالشعب لا يعدم الأفق والوسائل.