الإبعــاد عــن الوطــن والإبــداع فيـــه

بقلم: نهـــاد بقاعــي.

لا نعلم إن كانت حيوات طفولتهم متشابهة أو مختلفة، خصوصا في ظل اختلاف رقعة الجغرافيا الممتدة على خارطة فلسطين، لكننا نعلم قطعا أن إنكسار حيوات الطفولة فيهم هي ذاتها. في ثلاثينيات القرن الماضي، كان لناجي من قرية الشجرة، وغسان من عكا، وإسماعيل من اللد طفولة عادية بكل ما تحمله من أحلام ولهو وشغب. إلى أن جاء وقت سقطت فيه الطفولة كما سقط أي شيء آخر. 1948 هو العام الذي أجبر فيه هؤلاء الأطفال الثلاثة على أن يكونوا رجالا. لأنه لا طفولة في المنفى، ولا لهو بغياب الوطن. كبر الأطفال قبل وقتهم، كتبوا ورسموا وناضلوا كل من منفاه القسري وبطريقته، ولكنهم حلموا جميعا باسترداد الطفولة الضائعة، ليست خاصتهم الفردية هذه المرة، بل خاصة وطنهم فلسطين الذي ضاعت طفولته أيضا وفي الزمن نفسه وعلى يد المجرم نفسه.  

ناجي العلي من قرية الشجرة، وغسان كنفاني من عكا، وإسماعيل شموط من اللد هم رواد الثقافة الفلسطينية ومؤسسي فنونها وآدابها المعاصرة. كتبوا مع مبدعين فلسطينيين آخرين روايتنا الجماعية المعاصرة، وشكلوا نماذج حية للأجيال التي تليهم كيف تكون الأوطان وكيف يكون الوطنيون. في تموز هذا، يلتقي هؤلاء المبدعين في ذكرى الرحيل. ونحن نلتقي في ذكرى العهد على مواصلة دربهم نحو فلسطين.

من الصعب التحدث عن أي شيء يتعلق بفلسطين، بدون الرجوع الى المربع الأول: 1948. وفي حال الفن الفلسطيني، فإن المعادلة تتأكد أكثر. فجبروت المشهد الذي حصل في هذا العام تأكل الأفراد وتطغى على  حيواتهم. حتى الضحايا الذين إختاروا تناسي ما حدث وسلكوا دروبا غير فلسطين كانوا في المحصلة النهائية إحدى نتائج المشهد وتوابعه. ولا شك أن الفلسطينيين بعد العام 1948 لجئوا الى الثقافة ومنها الفن، خصوصا في ظل غياب الوطن والمرجعية السياسية. غاب الوطن، فاجتهد المبدعون بتعويضه "بالألوان"، ليقدموه الى جميع اللاجئين المبعثرين في أصقاع الأرض والباحثين عنه. في مقدمة كتاب إسماعيل شموط الشهير "السيرة والمسيرة"، كتبت الأميرة وجدان علي: ""على الرغم من أن معظم الفنانين التشكيليين الفلسطينيين استقروا في بلدانٍ عربيةٍ وأجنبية مثل لبنان وسوريا ومصر والأردن واليابان والولايات المتحدة وفرنسا، يكتسبون فيها ما يتاح لهم من خبرةٍ نظريةٍ وعملية، بما فيها إرسالهم في بعثات أو تدريبهم في الكليات الفنية المحلية، وإعطائهم وظائف ملائمة، إضافة إلى المشاركة في مسيرة تلك البلدان الفنية، إلاّ أنّ أغلب هؤلاء الفنانين حافظوا على هويةٍ فنيةٍ فلسطينية تجلـّت في أعمالهم من خلال اختيارهم للموضوعات التي عكست قضيتهم الوطنية بنكبتها ونكستها، وأبعادها النفسية والاجتماعية والسياسية".

هكذا ظل الفن الفلسطيني وفيا وملتزما بقضيته الكبرى- فلسطين. ليس لأن مشهد التهجير والاقتلاع وغياب الوطن كان طاغيا فحسب، بل لأن الفلسطينيين عانوا ولا زالوا يعانون من الإنكار والطمس والإحلال. وظل نضال الفلسطينيين، ومنهم المثقفين والفنانين حتى هذه اللحظة، "على أن تكون شرعيا"، وعلى أن "تكون أحلامك مشروعة". "..أحلم"، يقول الشاعر محمود درويش، "بأن نكف عن أن نكون أبطالا أو ضحايا. نريد ان نكون بشرا عاديين، وعندما يتحول الإنسان الى كائن عادي يمارس نشاطاته العادية من حقه ساعتها أن يحب بلاده أو لا يحبها، أن يهاجر أو لا يهاجر. لكن لكي تتم هذه الأمور، لا بد من تحقيق شروط موضوعية غير موجودة. ما دام الفلسطيني محروما من الوطن عليه أن يكون عبدا للوطن".

من أجل هذه "العقدة"، إن شئتم، طغت بعد العام 1948 الواقعية والتعبيرية في الفن التشكيلي المتشكل حديثا لأن المعنى والمضمون ظل هاجس المبدعين الأول، شأنه شأن الحقول الأخرى. بل أن الفن أيضا قد سار على نهج ما أعلنه درويش نفسه شعرا: "نحن لا نكتب أشعارا، ولكنا نقاتل". وأعلنه الكاتب الأمريكي كليفورد أوديتس كتابة في سياق آخر: "نحن في عصر أصبح من واجب الأعمال الفنية فيه أن تطلق الرصاص". كان هذا العنوان الحصري لثقافة كاملة في المنفى أو تحت الحصار والاحتلال. غسان كنفاني، كاتبا وشاعرا وفنانا وناشطا هو تجسيد مثقف فلسطيني جند كل طاقاته، وهي متفاوتة طبعا، لتقريبه ولو شبر إضافي آخر من فلسطين.

أما حجم التمرد عند ناجي العلي، رسام الكاريكاتير الملهم، فقد كانت كبيرة الى درجة إلتهام كل شيء، بما فيها أصول الكاريكاتير نفسه. لم يتقيد العلي بضوابط بدت حينئذ متراصة في هذا الفن، فأسهب في تجنيد اللغة، فأطلق العنان للكلمة في رسوماته على قاعدة أن الغاية تبرر الوسيلة، وفلسطين تبرر انتهاك الفنون، ولم ينظر العلي الى الكاريكاتير على أنه للنقد بل للتحريض، ولم يرسم رسوماته الى صناع القرار بل الى "من هم تحت" على حد قوله. لم ينظر الى ناجي العلي في حينه بعين الرضى من نخب فنية ليست بالقليلة تمتهن الفن. ذهبت هذه النخب ادراج الرياح، وبقي ناجي العلي. وسقط النقد الذي فيهم، وظل التحريض الذي فيه. وبدون قصد، أسس ناجي العلي مدرسة "جديدة" في هذا الفن، أضحت عنوان من لحقوه من رسامين فلسطينيين، أو بالحد الأدنى لا يمكن تخطيها وعدم الوقوف عندها.

ما هو دور المثقف؟ هو سؤال يتكرر للمرة الألف، ولكن لا مناص من طرحه في هذا السياق أيضا. ما هي الحدود الفاصلة بين المثقف وشبه المثقف، أو بين "المثقف المبدع والمثقف الموظف" على حد تعبير العلي؟ خصوصا في مرحلة وصلناها أصبحت الثقافة فيها سلعة استهلاكية مستوردة، وجل ما يطمح له العديد من المثقفين هو لعب دور "الكونبارس" في هذا الفيلم الأمريكي الطويل.

لا شك أن رواد الثقافة الفلسطينية قد خطّوا على لحمهم دور أناطوه هم بأنفسهم، وهو "تغيير الواقع".  والمثقف، بحسب إدوارد سعيد، "هو الذي لا يرضى بحالة حتّى يُغَيِّرها، فإذا غيَّرها بدأ يحلم بمواصلة التغيير". أو كما أعلن كارل ماركس من قبل: " الفلاسفة أضاعوا وقتهم في تفسير العالم مع أن مهمتهم هي تغييره". التغيير إذن هو الدور الرئيس المنوط بالمثقف وليس التفسير. وفي قاموس التغيير هذا، لا توجد عبارات "الحياد" و "التنظير" وإنما "الإنحياز المطلق".

ولسنا هنا بصدد عنونة الثمن الباهض الذي دفعه المثقفون، ومنهم الفنانين والأدباء والشعراء. فالقائمة تطول. ولكن يمكن الإدعاء بان إنخراط المثقف في قضايا شعبه واستعداده الدائم الى دفع الثمن كباقي أبناء شعبه، كما جاء في قول عبد الرحيم محمود " سأحمل روحي على راحتي   وألقي بها في مهاوي الردى" كانت هي السمة الأبرز للمثقف والمعيار الأساس لمدى حفر إسمه وتراثه في ذاكرة شعبه. على المثقف ألا ينتظر مقابلا، لأنه إن فعل ذلك دخل في خانة التوظيف وليس التغيير. يقول الكاتب إبراهيم علوش: "أنحاز دوما للمثقف الذي يلتحم بالواقع، ويستعد لدفع الثمن، وهو ما يميز كتابة عن كتابة وإبداعا عن إبداع".

إن حقيقة كون تراث ناجي العلي وغسان كنفاني وإسماعيل شموط هو ثراث جماعي للشعب الفلسطيني هو حقيقة دامغة لا غبار عليها ولا لبس فيها. فـ "حنظلة"، ورواية "أم سعد"، و "عائد الى حيفا"، ولوحات "سنعود" و "إلى أين" وكتاب "السيرة والمسيرة" هي رموز وطنية عملاقة أضافت الكثير الى المخزون الثقافي الفلسطيني. ولكن دعونا نتفق أننا مقصرون في حفظ تراث هؤلاء الذين ضحوا من أجل فلسطين بدون إنتظار المقابل، هذا التراث الذي هو تراثنا. دعونا نتفق على أن هؤلاء، ومثلهم الكثير، هم فوق الأحزاب والسياسات الضيقة. هم شقوا لنا الطريق.. فلماذا لا نصونهم؟ ولماذا لا نصونه؟

___________________

نهاد بقاعي هو منسق وحدة الأبحاث والمعلومات في بديل/ المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، وهو محرر مشارك في جريدة "حق العودة". بقاعي هو أيضا رسام الكاريكاتير في جريدة "الفجر الجديد" الصادرة في حيفا.