دور فلسطينيي الشتات في العمل الوطني والعلاقة بين الداخل والخارج

بقلم: جابر سليمان*

شكّلت ولادة منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) عام 1964 خطوة حاسمة على طريق إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بعد أعوام قليلة نسبياً من تشتت المجتمع الفلسطيني وتجزئة حركته السياسية، جرّاء النكبة. برهنت تلك الخطوة على حيوية الشعب الفلسطيني وقدرته الفائقة على الانبعاث، كطائر الفينيق، من رماد النكبة من أجل إعادة تنظيم نفسه واطلاق شكل جديد لحركته الوطنية في ظل شروط الشتات القاسية وإملاءاته المغايرة تماماً لشروط مرحلة ما قبل النكبة.

وفي العام 1968، تمكّن حملة البنادق من حركة فتح والفصائل الفلسطينية التي توالدت في أعقاب هزيمة 1967 وتبنت نهج الكفاح المسلح من "الاستيلاء" على م.ت.ف الرسمية واستبدال ميثاقها القومي بالميثاق الوطني، حاسمة بذلك إزدواجية المنظمة/الفصائل المسلحة. ومنذ ذلك الحين أصبحت منظمة التحرير الشكل الجديد الموحد للحركة الوطنية الفلسطينية، مع ما شهدته المنظمة من تحولات حاسمة في خطابها الفكري والسياسي، بدءاً بتبني البرنامج المرحلي 1974 ومروراً باعلان الاستقلال 1988، وتوقيع اتفاق أوسلو وقيام سلطة الحكم الذاتي الانتقالي (1993-1994)، وصولاً الى التوجه نحو الأمم المتحدة بطلب قبول فلسطين دولة غير عضو/مراقب في المنظمة الدولية (2011-2012).

 كل هذه التحولات أفضت في نهاية المطاف إلى تحول م.ت.ف من حركة تحرر وطني لمجموع الشعب الفلسطسني تناضل من أجل تحرير كامل فلسطين الى "حركة استقلال وطني" تنتمي الى مرحلة ما بعد الاستعمار والكولنيالية وتسعى جاهدة عبر المفاوضات للحصول على "دولة فلسطينية" أو "كيان فلسطيني" بجانب دولة إسرائيل. ويحدث ذلك كله في ظل إنقسام حادّ في النظام السياسي الفلسطيني وفشل جهود المصالحة في رأب الصدع وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديموقراطية جامعة.

العلاقة بين الداخل والخارج: إطار مفاهيمي

قبل مناقشة دور فلسطيني الشتات في العمل الوطني الفلسطيني ومن ضمنه إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، نودّ أن نعرض للمسائل المفاهيمية التالية ذات الصلة بالموضوع:

تبدلات مفهوم الخارج والداخل: بداية، يتحدد مفهوم الخارج والداخل بوجود الشعب الفلسطيني المادي بالمعنيين الجغرافي والديموغرافي. ولم يبرز هذا المفهوم سوى بعد النكبة، بعد أن احتلت إسرائل نحو 78% من أراضي فلسطين التاريخية، وإثر تشتيت المجتمع الفسطيني وتجزئة حركته السياسية، وفي أعقاب إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية بعد سنوات قليلة نسبياً من حدوث النكبة. وبذلك أصبح هناك داخل محتل وخارج أنطلقت منه الحركة الوطنية الفلسطينية لتحرير الداخل من الإحتلال وإعادة فلسطين إلى الخارطة السياسية. ثم ما لبث مفهوم الداخل أن تبدل، بعد أن توسعت جغرافيته لتشمل فلسطين التاريخية بعد إحتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، وتحول أراضي فلسطين المحتلة منذ عام 1948 إلى  "داخل الداخل".
تنقل مركز الحركة الوطنية الفلسطينية ما بين الخارج والداخل: تنقل مركز الحركة الوطنية منذ  إنطلاقتها إلى ثلاثة أو أربعة مواقع في الخارج (الأردن؛ لبنان؛ تونس/سوريا) قبل أن ينتقل إلى الداخل بعد أوسلو (1993-1994). وعلى إمتداد هذه الفترة كانت هناك علاقة ملتبسة أو غير متوازنة بين مركز الحركة الوطنية وبين أطرافها. فعلى سبيل المثال، في فترة وجود مركز الحركة الوطنية في لبنان قبل العام 1982 تعاملت مع الداخل بوصفه حركة طرفية تتبع للمركز المقيم في الخارج، حسب تعبير جميل هلال. وتجلى ذلك بوضوح قبيل إنعقاد مؤتمر مدريد (1991) وبعده، مع خشية قيادة م.ت.ف من بروز قيادة موازية في الداخل وتبلور مركز للحركة الوطنية في الداخل يمكن أن يشكل بديلاً عن مركز الخارج أو منافساً له على أقل تقدير. ولم يعد خافياً أن هذا الهاجس كان أحد الإعتبارات وراء دخول المنظمة المحادثات السرية التي قادت إلى توقيع اتفاقيات أوسلو لاحقاً. ومن جهة أخرى، ومع انتقال مركز الحركة الوطنية من الخارج إلى الداخل بعد أوسلو، إنعكست الآية وعمل المركز في الداخل على تهميش دور الخارج وتعامل معه كحركة طرفية (لبنان نموذجاً). 

وإذا كان الحرص على إستقلالية العمل الوطني الفلسطيني بعد الخروج من الأردن ولبنان وسوريا والهروب من الضغوطات الخارجية العربية والدولية الممارسة على عمل مؤسسات م.ت.ف الموجودة في الخارج، كان الدافع والمبرر الرئيسي لإنتقال المنطمة من الخارج إلى الداخل عبر سلطة الحكم الذاتي، وقبل قيام دولة فلسطينية، إلاّ أن المنظمة والسلطة وقعتا في قبضة الإحتلال الإسرائيلي (سلطة من دون سلطة وسيادة). وهذا ما أفقد الحركة الوطنية مركزها في الخارج، من دون أن تتمكن من بناء مركز مستقل وفاعل في الداخل، مما أضعف الحركة الوطنية الفلسطينية ككل وجرّدها من أسباب القوة وساهم في إدامة عملية الإنقسام السياسي. واليوم فقدت الحركة الوطنية الفلسطينية مركزها الموحد والجامع وأصبح هناك عدة مراكز (الضفة الغربية؛ غزة؛ فلسطين 1948)، بالإضافة إلى تعبيرات وطنية مختلفة في الداخل والشتات. 

دور لاجئي الشتات في إعادة بناء المنظمة

منذ ما بعد النكبة، تعرضت بنية الخارج للتغير والتحول بحسب توسع جغرافيته وتطور الكتلة الديموغرافية التي تشكله، ولا شك أن هذا الخارج يشكل اليوم أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، ويتكون في غالبيته من اللاجئين. ولمناقشة دور الخارج في الحركة الوطنية نرى ضرورة الإشارة هنا ولو بإيجاز إلى مسألتين أساسيتين: الأولى، إهتزاز المكانة المركزية لقضية اللاجئين في الفكر السياسي الفلسطيني منذ أوسلو؛ والثانية تعزيز المقاربة الحقوقية لقضية اللاجئين في مقابل المقاربة الإنسانوية.

بخصوص المسألة الأولى، تجدر الإشارة إلى حقيقة أن فكرة عودة اللاجئين قبل تأسيس م.ت.ف وبعد نحو عقد من تأسيسها لم تنفصل عن هدف تحرير كامل فلسطين، باعتبار العودة هي المحصلة الطبيعية لفعل التحرير. ولكن نتيجة للتحولات التي شهدتها المنظمة والتي أشرنا إليها في المقدمة، تعرضت المكانة المركزية لقضية اللاجئين للإهتزاز في الخطاب الفكري والسياسي للمنظمة، حيث تعززت في سياق مفاوضات عملية السلام مقاربة مقايضة العودة بالدولة. وفيما يتعلق بالمسألة الثانية يمكننا التمييز بين مقاربتين بخصوص التعامل مع قضية اللاجئين الفلسطينيين؛ المقاربة الإنسانية التي تعتبر اللاجئين مجرد موضوع للإغاثة الإنسانية؛ هذا في مقابل المقاربة السياسية/الحقوقية التي تعتبر أن جوهر قضية اللاجئين سياسي/حقوقي، وهم بحاجة إلى الحماية القانونية والسياسية التي يكفلها القانون الدولي للاجئين عادة، بما في ذلك حقهم في العودة إلى وطنهم الأصلي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في سياق مفاوضات السلام الإسرائيلية/الفلسطينية جرى تغليب المقاربة الأولى، فيما يتعلق بنظرة رعاة عملية السلام الدوليين لحلّ مشكلة اللاجئين.

إن إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة على أساس الثوابت الوطنية من شأنه أن يضمن تمثيل الفلسطينيين في الشتات ويحافظ على حق اللاجئين في العودة وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، كما من شأنه أن يخلق مرجعية فلسطينية موحدة للفلسطينيين في الخارج تمثلهم لدى حكومات البلدان المضيفة وتدعم حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية في تلك البلدان. كما أن إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني من شأنه أن يحاصر أية تأثيرات أو تداعيات سلبية على حقوق اللاجئين ووضعهم القانوني قد تنجم عن استبدال عضوية منظمة التحرير الفلسطينية المراقبة في الأمم المتحدة بعضوية فلسطين كدولة غير عضو/ مراقب.

إن تعزيز موقع فلسطينيي الشتات ودورهم في عملية إعادة بناء م.ت.ف والحفاظ على حقوقهم يتطلب فيما يتطلب ما يلي:

  • إعادة بناء وإصلاح مؤسسات المنظمة، وبشكل خاص المجلس الوطني الفلسطيني من خلال انتخابات ديموقراطية تشمل تمثيل اللاجئين الفلسطينيين في الشتات.

  • الإقلاع عن المقاربة التقليدية التي تتعامل مع اللاجئين الفلسطينيين بوصفهم متلقيين سلبيين للمعونة الإنسانية، وعوضاً من ذلك تطوير مقاربة بديلة لتمكين اللاجئين الفلسطينيين عموماً، وخاصة لاجئي الشتات، بوصفهم أصحاب حقوق وفاعلين سياسيين جديرين بالمشاركة في العملية السياسية والتمثيل في النظام السياسي. أي النظر إليهم كقوة اجتماعية تؤثر في السياسة، تماماً كما تؤثر السياسة في حقوقهم ومصائرهم.

  • الإقلاع عن المتاجرة السياسية بحق عودة اللاجئين والتوقف عن اعتباره موضوع مقايضة من قبل المفاوض الفلسطيني ضمن معادلة الدولة مقابل العودة.

  • ضرورة أن تحافظ أي مبادرة فلسطينية لقيام الدولة على الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف وفي مقدمها حق العودة، وتجنب استخدام أي لغة قانونية وسياسية من قبل القيادة الفلسطينية يفهم منها أن قيام الدولة في حدود المناطق المحتلة منذ العام 1967، يعني تطبيقاً لحق تقرير المصير، وأن "دولة فلسطين" بحدودها المفترضة هي من تمثل مجموع الشعب الفلسطيني.

  • الحفاظ على المكانة التمثيلية لـ م.ت.ف والحرص على إبقائها في قمة الهرم السياسي الفلسطيني، وإبقاء السلطة والدولة في قاعدة الهرم. 


خلاصة: نحو مشروع وطني جامع

إذا كان تعثر المصالحة وإستمرار الإنقسام الفلسطيني قد أديّا إلى تهميش دور الخارج في الحركة الوطنية الفلسطينية، إلاّ أنه لم يؤد إلى إضعاف التعبيرات عن الهوية الوطنية الفلسطينية في كل الخارج أو الشتات الفلسطيني. وفي هذا الصدد يشير نديم روحانا إلى "المغايرة الحادة بين حالة التدني والإنقسام التي وصلت إليها السياسة الفلسطينية وبين الحالة المتعافية، بشكل عام للهوية الوطنية الفلسطينية في جميع مواقع الشعب الفلسطيني" (الداخل والخارج). وفي السياق ذاته يؤكد جميل هلال إلى أن أزمة الحركة السياسية الفلسطينية لا تفقد الوطنية الفسطينية حيوتها، ويلفت الإنتباه إلى أهمية التمييز بين الحقل السياسي الوطني والهوية الوطنية، ويقول: ما يعانيه الحقل السياسي راهناً من وهن وانكشاف نتيجة غياب الدولة الوطنية والإنقسام الحاد في الحركة السياسية الفلسطينية وغياب المؤسسات الوطنية الجامعة لا يعني أن الهوية الوطنية ضعفت أو تأزمت. وهي تعبر عن نفسها في الداخل والخارج بأشكال مختلفة (المقاومة الشعبية ضد الإستيطان والجدارن، الحراك الجماهيري ضد التمييز والتهويد في مناطق 1948، لجان العودة؛ حركة المقاطعة، حراك الجاليات الفلسطينية في الخارج، والحراك الشبابي في مخيمات الشتات...إلخ).

وحسب ما يرى نديم روحانا ينبغي أن يعود المشروع الوطني الفلسطيني للاعتماد على الهوية الوطنية، لأنها هي التي ترشّد المشروع الذي يضع في مركز أهدافه الإنسان الفلسطيني وحقه في العيش الحرّ في وطنه وفي تقرير المصير، الأمر الذي يستلزم استبدال فكر الدولة بفكر الوطن.
 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

*جابر سليمان: باحث فلسطيني مقيم في لبنان، ومستشار في دراسات اللاجئين.