التهجير القسري في فلسطين والعدالة الجنائية

بقلم: د. منير نسيبة*

مقدّمة

منذ أن هجّرت إسرائيل السواد الأعظم من الفلسطينيين في المناطق التي سيطرت عليها عام 1948 والمجتمع الدولي يطالب بحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين بناءً على قواعد القانون الدولي، كما أكّدت ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأمر من خلال قرارها 194 لعام 1948. ومع أهمية هذا المطلب، يبدو أنّ المجتمع السياسي الفلسطيني نسي أن يضع أعلى سلم أولوياته متطلّباً سابقاً لحق العودة، ألا وهو التزام إسرائيل بالكف عن ممارسة سياسات التهجير القسري فوراً وتقديم ضمانات على عدم تكرار هذه الجريمة.

من النتائج السيئة لإطار أوسلو للسلام أنّ إسرائيل لم تكف عن تهجير الفلسطينيين قسراً بعد بدء "عملية السلام"، فعلى سبيل المثال، ارتفع عدد ضحايا سحب الإقامات في القدس الشرقية أضعافاً مضاعفة، ففي حين أنّ العدد الإجمالي لمن تعرّضوا لهذه السياسة فاق الأربعة عشر ألف فلسطيني، فإنّ ألفين فقط من هؤلاء كانوا ضحية هذه السياسة قبل عملية اوسلو. كما دأبت إسرائيل على تهجير البدو الذين يسكون المناطق التي صنفت بمناطق (ج) حسب تقسيمات أوسلو وتركيزهم في مناطق صغيرة.

وفي هذا السياق، فقد انضمّت فلسطين مؤخراً إلى ميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية، كما اودعت إعلاناً حسب المادة 12(3) من الميثاق بما يفيد إعطاء محكمة الجنايات الدولية ولاية قضائية على أراضي الدولة الفلسطينية منذ تاريخ 13 حزيران 2014. نتيجة لهذا، امسى للمحكمة ولاية قضائية على الضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) وقطاع غزة، وهي الأراضي التي تطلب منظمة التحرير الفلسطينية الاعتراف بها كأقليم للدولة الفلسطينية. وفي ضوء عدم توقّف إسرائيل عن تهجير أعداد متزايدة من الفلسطينيين قسرا في الأرض المحتلة عام 1967، هل يمكن استخدام ولاية محكمة الجنايات الدولية لردع السياسيين الإسرائيليين عن الاستمرار بارتكاب هذه الجريمة؟ هل يمكن محاسبة من قاموا بهذه الجريمة من قبل؟

أوّلاً: تجريم التهجير القسري دولياً

يعتقد عدد من فقهاء القانون أنّ نشوء مبدأ تحريم التهجير القسري بدأ منذ نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عند إبرام اتفاقيتي لاهاي الخاصتين باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية، حيث نصت المادة 46 على ما يلي: "ينبغي احترام شرف الأسرة، وحقوقها، وحياة الأشخاص والملكية الخاصة، وكذلك المعتقدات والشعائر الدينية. لا تجوز مصادرة الملكية الخاصة." ومع أنّ هذه المادّة لا تنصّ صراحةً على تحريم التهجير القسري، إلّا أن تفسير النص في العديد من الحالات التي وقعت فيما بعد بيّن أنّه يشمل هذا التحريم. وقد ذهب عدد من فقهاء القانون الدولي الى أنّ سبب عدم ذكر التهجير القسري صراحةً ضمن الأمور المحرمة دولياً في نهاية القرن التاسع عشر كان مردّه اعتقاد المتعاقدين في معاهدتي لاهاي لعامي 1899 و1907 بأنّ "الأمم المتحضرة كانت قد توقفت عن اللجوء إلى الطرد خلال فترات الحروب،" أو كما عبّر عنها جون بكتييه في تعليقه على اتفاقية جنيف الرابعة بأنّ اللجوء إلى الطرد كوسيلة في الحرب كان "قد اختفى" في بدايات القرن العشرين.

ومع ذلك، فإنّ الحربين العالميتين جاءتا بجرائم رهيبة، تشمل التهجير القسري. حاولت الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الأوّلى أن تفرض على الدولة العثمانية أن تحاكم ضباطاً عسكريين في جيشها اتّهموا بارتكاب ما سمي حينها ب"ـجرائم حرب، وجرائم ضد قوانين الإنسانية." وقد اتّفقت الدولة العثمانية في معاهدة "سيفر" (Sevres) أن تقوم بمعاقبة المجرمين، إلّا أنه وبعد حرب الاستقلال التركية وإحراز الجمهورية التركية لانتصارات خلال هذه الحرب، تمّ التغاضي عن معاهدة "سيفر" واستبدالها بمعاهدة لوزان حيث تمّ التعاقد على منح عفو للمجرمين الذين انتهكوا القانون بجرائم حرب أو "جرائم ضد قانون الإنسانية."

في الحرب العالمية الثانية، ارتكبت الدول المتحاربة عدداً كبيراً من الجرائم، وعقب هزيمة ألمانيا واليابان، قرّر الحلفاء انشاء محاكم عسكرية في نورمبرغ وطوكيو، هدفت إلى محاكمة ومعاقبة مرتكبي جرائم صنفت على أنّها "جرائم ضد السلام، وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية." وفي هذا السياق، وردت جريمة "الإبعاد" (deportation) كجريمة حرب وكجريمة ضد اللإنسانية. في عام 1946، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 95 (I) نصّت فيه على "التأكيد على مبادئ القانون الدولي التي اعترفت بها ميثاق محاكمات نورمبرغ وأحكام المحكمة." وبسبب هذا الاعتراف، فقد اكتسبت مبادئ محاكمات نورمبرغ وضعية دولية هامة، حيث تعتبر من قواعد القانون الدولي العرفي منذ ذلك التاريخ. اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بإلزامية هذه القواعد أُعتبر دليلاً على اتساع قبول هذه القواعد بين الأمم كقواعد قانونية ملزمة. وفي العام 1949، تمّ توقيع اتفاقيات جنيف الأربعة التي تبنتها أغلب دول العالم فيما بعد من أجل الحد من أثر النزاعات المسلحة والاحتلال، وقد اختصت الاتفاقية الرابعة بأوضاع المدنيين في زمن الحرب والاحتلال العسكري، حيث ورد في هذه الاتفاقية عدد لا بأس به من المحظورات في الحروب وحالات الاحتلال العسكري، كان أحدها التهجير القسري. فقد نصت المادة 49 من الاتفاقية على أنه:

يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه."

 يقسّم هذا النص التهجير القسري إلى نوعين: "النقل الجبري" (forcible transfer) وهو نقل السكّان قسراً داخل حدود دولة أو أرض محتلة، و"النفي" (deportation) وهو نقلهم قسراً إلى خارج حدود دولة أو أرضٍ محتلة. وضّحت اتفاقية جنيف الرابعة أنّ الحظر يشمل النقل القسري أو النفي سواء كان الضحية شخصاً واحداً أو أكثر. ولم يؤِل نص المادة 49 اهتماماً إلى وجهة التهجير، فالحظر منعقد سواء كان التهجير داخلياً، أم خارجياً، سواء كان إلى أراضي دولة الاحتلال أم غيرها من الدول. كما وضح نص المادة أن سبب التهجير ليس ذا شأن في منع التهجير، فهو ممنوع بغض النظر عن الدافع من وراء التهجير. 

وقد نصت المادة 147 من الاتفاقية على أنّ "النفي أو النقل غير المشروع" يعتبران "انتهاكاً جسيماً" للاتفاقية، حيث يتوجب على كل دولة طرف في الاتفاقية أن تشمل في قانون العقوبات الخاص بها ما يجرم الانتهاكات الجسيمة، وأن تحاكم وتعاقب كل من يرتكب هذا النوع من المخالفات للاتفاقية كما نصت المادة 146.

ثانياً: أركان جريمة التهجير القسري

لقد تطور تعريف جريمة التهجير القسري بشكليها "النفي" و"النقل الجبري" عبر جميع المراحل التي ذكرت سابقاً، إلّا أنّ المرحلة الأكثر أهمية في تعريف هذه الجريمة كانت في محاكمات يوغوسلافيا السابقة، حيث أنّ التطهير العرقي عن طريق التهجير القسري كان من سِمات الحرب اليوغوسلافية ممّا نتج عن ذلك وجود عدد لا بأس به من المتهمين بارتكاب جريمة التهجير القسري. وقد عرّفت المحكمة أركان جريمة "النفي" بأنها تتطلب ما يلي: 

أن يكون هناك إبعاد قسري لأفراد؛
أن يكون الأفراد موجودين بشكل قانوني في المكان الذي طردوا منه؛
أن لا يكون هناك أي سبب حسب القانون الدولي يسمح بالطرد؛
أن يكون التهجير عابراً للحدود؛
أن يكون التهجير قد وقع عمداً. 

أما جريمة النقل الجبري للسكّان فأركانها شبيهة بأركان جريمة النفي، باستثناء انعدام العنصر الرابع. فجريمة النقل الجبري قد تقع داخل حدود الدولة ولا يشترط أن يعبر المهجر الحدود.  أما عن معنى كلمة "جبري" أو "قسري" فإنّ محكمة يوغوسلافيا السابقة عرفتها على أنها "... وقعت عن طريق الطرد أو أشكال أخرى من الإجبار ممّا جعل الهجرة غير طوعية بطبيعتها، ومما جعل المجني عليه لا يملك خياراً حقيقياً في هجرته." كما أضافت المحكمة بأنّ "غياب الخيار الحقيقي هو ما يجعل من التهجير مخالفة للقانون."  كما أضافت أنّ التهجير يكون قسرياً حتى لو تم استخدام أساليب أخرى مثل "الخوف من العنف، الإجبار، الاعتقال، الاضطهاد النفسي أو استغلال النفوذ أو استغلال بيئة تجبر الأشخاص على النزوح." ويعتبر التهجير القسري جريمة حرب إذا ارتكب في أرض محتلة أو فيما يرتبط بنزاع مسلح، ويعتبر جريمة ضد الإنسانية إذا وقع ضد أي مجموعة من السكّان المدنيين، إذا وقع على عدد كبير من الناس، وكان منهجياً. وفي حالة الجريمة ضد الإنسانية، لا يشترط أن تكون الجريمة واقعة في أرض محتلة، بل يمكن أن يرتكبها شخص ضد سكّان موطنه. وكما أكدت المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، فإنّ كل حالة منفردة من التهجير القسري في الأرض المحتلة تعتبر جريمة حرب، أمّا عند تزايد أعداد الضحايا أو تبنّي سياسات منهجية لارتكاب الجرائم، فإنّ الجريمة تقع ضمن الجرائم ضد الإنسانية.

ثالثاً: إمكانية ردع جريمة التهجير القسري في الأرض الفلسطينية المحتلة باستخدام القانون الجنائي الدولي

تستمر إسرائيل، كما قلنا سابقاً، في ممارسة أشكال مختلفة من التهجير القسري بحق الشّعب الفلسطيني سواء في الأرض المحتلة عام 1967 أو في الأراضي التي اقامت عليها دولتها عام 1948. وكما توثق المؤسسات الحقوقية المختلفة وغيرها من المهتمين، فإنّ التهجير القسري جزء من سياسة ممنهجة تستخدمها إسرائيل لتغيير الأوضاع الديمغرافية في المناطق التي تسيطر عليها.

بعد انضمام فلسطين إلى ميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية وإيداعها لما يفيد إعطاء المحكمة ولاية قضائية على فلسطين بأثر رجعي يعود إلى حزيران 2014، فإنّ هذا الأمر يعتبر فرصة هامة لردع إسرائيل عن الاستمرار بسياسات التهجير القسري. تورط اسرائيليين في تصميم وتنفيذ هذه السياسة قد يعرّضهم لخطر المحاكمة الدولية والعقاب، وخصوصاً مع سهولة إثبات واقعة التهجير القسري والسياسة التي تستخدمها إسرائيل في التهجير، فكل السياسات مكتوبة في التشريعات واللوائح الإسرائيلية ولن يصعب تحليلها وقياس أثرها على السكّان المدنيين وتوثيق ترحيلهم قسراً عن بيوتهم. وفي هذه الحالة، تكون مؤسسات الدولة المختلفة مسؤولة بشكل مباشر عن هذا التهجير ممّا يعرض القائمني عليها للاتهام والمحاكمة.

يدين ميثاق روما التهجير القسري بشكليه، النقل القسري للسكّان، والنفي، ففي المادة 7(1)(د)، نص الميثاق على أنّ هاتين الجريمتين تعتبران جريمة ضد الإنسانية إذا كانتا موجهتين ضد سكّان مدنيين وإذا ارتكبتا على نطاق واسع أو بشكل ممنهج. أما المادة 8(2)(7) فقد اعتبرت أن الإبعاد أو النقل القسري للسكّان يعتبران جريمة حرب لأنهما انتهاك جسيم لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949. لعل انضمام فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية فرصة هامة لدحرجة عجلة المحاسبة والعدالة، فالتهجير القسري المستمر في الأرض الفلسطينية المحتلة يتخذ أشكالاً عديدة، ويتركز بشكل متزايد في القدس ومناطق (ج) من الضفة الغربية. ولا شك أن كل حالة تهجير منفردة تشكل جريمة حرب بحد ذاتها. وبما أن التهجير القسري في الأرض المحتلة ممنهج ويقع على نطاق واسع، فإنه يمكن الحديث عن أن جريمة التهجير القسري ترتكب كجريمة ضد الإنسانية في هذه الحالة. أما عن المتّهمين، فإنّ كل من يشارك في الجريمة، سواء كان مسؤولاً عسكرياً أو قضائياً أو سياسياً، أي كل من ثبت تورطه بطرد مدني سواء داخل الأرض المحتلة أو إلى خارجها يعتبر متورطاً جنائياً. إذا اتخذت دولة فلسطين استراتيجية قوية في إثارة السياسات الإسرائيلية العنصرية التي ينتج عنها تهجير قسري للسكّان أمام المحكمة الجنائية الدولية، فإنها ستتمكن من ردع الإسرائيليين عن الاستمرار بتصميم قوانين عنصرية، كما ستتمكن من فضح هذه السياسيات وربما التأثير في تغييرها. إن أهم ميزة للقانون الجنائي هو قدرته على الحد من الجرائم. لذا، علينا المسارعة بالاستفادة من مؤسسات العدالة الدولية لتحسين الأوضاع الحقوقية في فلسطين.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. منير نسيبة: مدير العيادة القانونية في جامعة القدس/ابو ديس