المحكمة الجنائية الدولية: هل تولّي دفة القيادة صوب وضع حد للإفلات من العقوبة؟

بقلم: أمجد القسيس*

تسعى توليفة مجتمعة من الممارسات والقوانين والسياسات التي تنفذها إسرائيل، في هذه الآونة، إلى تهجير السكّان الفلسطينيين الأصلانيين من مناطق سكناهم، وسلبهم ممتلكاتهم وأصولهم وفرض السيطرة التّامة والمُحكمة عليهم من خلال نظام يرتكز في أساسه على الفصل العنصري والاستعمار. ويسعى هذا النظام في عمومه إلى استعمار أرض فلسطين (التي تُعرف أيضًا بـ "فلسطين التاريخية" أو "فلسطين الانتدابية"). وينبغي أن يوضَع حد لهذا النظام، كما يجب محاكمة القائمين عليه بموجب أحكام القانون الدولي والمعايير الدولية المرعية في هذا الشأن.

ففي الواقع، يتسبب الإحجام المتواصل عن احترام القانون الدولي في سياق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في تقويض الصفة الشرعية التي تكتسيها هذه المجموعة الأساسية من الصكوك القانونية، ولا سيما حقوق الإنسان والقانون  الدولي الإنساني والقانون الدولي الجنائي. ولذلك، فقد آن الأوان للتأكد من أنّ القانون الدولي ليس مجرد حبر على ورق، بل يشكّل نظامًا قانونيًّا يتكفل بحماية الحقوق وينشئ الالتزامات، والأهم من ذلك أنه يخلق الوقائع على نحو يتواءم مع ما جاء فيه من قيم ومبادئ. ومن الخطوات المهمة التي سلكتها فلسطين في هذا الاتجاه الطلب الذي قدمته للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية.

المحكمة الجنائية الدولية

ما فتأت الأمم المتحدة تنظر في إمكانية تشكيل محكمة جنائية دولية دائمة منذ تأسيسها. وعقب سنوات من المفاوضات، انعقد مؤتمر دبلوماسي في الفترة الواقعة بين يوميّ 15 حزيران و17 تموز 1998 في روما. وقد تمخض هذا المؤتمر عن إنجاز النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية واعتماده. ويُعَدّ إنشاء المحكمة الجنائية الدولية بمثابة تقدّم ملموس نحو الارتقاء بإنفاذ القانون الدولي الإنساني وخطوة واضحة لا لُبْس فيها في المعركة التي يخوضها المجتمع الدولي ضد الإفلات من العقوبة. فالدول الأطراف في هذا النظام الأساسي " تؤكّد أنّ أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره يجب ألّا تمر دون عقاب وأنه يجب ضمان مقاضاة مرتكبيها على نحو فعال من خلال تدابير تُتخذ على الصعيد الدولي وكذلك من خلال تعزيز التعاون الدولي، وقد عقدت العزم على وضع حد لإفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب وعلى الإسهام بالتالي في منع هذه الجرائم."

وتتخذ المحكمة الجنائية الدولية من لاهاي مقرًا لها، وهي تملك الولاية القضائية على الأشخاص الذين يُشتبه في ارتكابهم جريمة الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب أو جريمة العدوان، بما يشمل المسؤولين أو القادة العسكريين المتورطين فيها. وتمارس المحكمة اختصاصها في حال الدولة التي وقع الفعل الجرمي أو الامتناع  عن منع الفعل الجرمي على إقليمها، أو في حال كانت الدولة التي يحمل الشخص المشتبه به جنسيتها دولة طرفًا في نظامها الأساسي، أو في حال قبلت هذه الدولة اختصاص المحكمة. ويجوز للمدعي العام أن يحيل الدعاوى إلى المحكمة بمبادرة منه نفسه. ومع ذلك، لا تمارس المحكمة اختصاصها بأثر رجعي.

ولا تسعى المحكمة الجنائية الدولية الى تجاوز اختصاص المحاكم الوطنية، بل تُعنى بممارسة اختصاصها في الحالات التي لا تبدي فيها الدولة رغبتها في مقاضاة الشخص المعني، أو لا تملك القدرة الأصيلة على الاضطلاع بمقاضاته. وما تزال الدول تقع تحت الالتزام الأساسي الذي يملي عليها مقاضاة الأشخاص الذين يُشتبه بارتكابهم جرائم حرب أمام محاكمها الوطنية.

ويدور جدل محتدم حول ’الأوضاع‘ الذي يختارها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق فيها. وربما تبرز أكثر المسائل التي ثار الجدل حولها في عجز المدعين العامين الذي تواتروا على هذا المنصب عن التحقيق في الجرائم التي اقترفتها إسرائيل في سياق عملية الرصاص المصبوب التي شنتها على قطاع غزة في العام 2008-2009، حيث جرى تسويغ هذا العجز في بادئ الأمر على أساس أن فلسطين لم تكن تتمتع بصفة الدولة. ولكن هذه الذريعة لم تعُد قائمة بعد اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين بصفتها دولة في شهر تشرين الثّاني 2012.

وبعد أن قدمت السّلطة الفلسطينية، في نهاية المطاف، طلبًا للمحكمة الجنائية الدولية في شهر كانون الثاني 2015 - بعد أن فكرت ملياً في هذه المسألة على مدى سنوات عدة - صرحت المحكمة الجنائية الدولية بأنها سوف تفتح تحقيقاً أولياً لتحديد ما إذا كانت لديها دعوى تستدعي المزيد من التحقيق من عدمه. وبعبارة أخرى، يشير الإعلان الذي صرحت به رئيسة مكتب الادعاء بالمحكمة، فاتو بنيسودا (Fatou Bensouda)، وبصورة واضحة إلى أنّ فتح تحقيق أولي هو بمثابة ممارسة معتمدة بعد تلقّي إحالة أو إعلان صحيح. ويبين التحقيق الأوّلي الطريقة التي تعتمدها المحكمة في اتخاذ قرار بشأن متابعة الدعوى من عدمها: حيث يقييم المدعي العام البينات الواردة بشأن الجرائم التي يُزعم ارتكابها ويقرر ما إذا كانت هذه الجرائم على درجة كافية من الخطورة والمدى الذي يسوغ توجيه الاتهامات للأفراد بشأنها.

الجرائم الدولية

تُعَدّ إسرائيل مذنبة بارتكاب مجموعة من الجرائم الدولية التي أتاحت لها استعمار فلسطين بكاملها. ومن أبرز هذه الجرائم الاستعمار والفصل العنصري والتهجير القسري للسكّان.

  • الاستعمار: يُعرّف إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، الذي اعتُمد ونُشر على الملأ في العام 1960، الاستعمار باعتباره " إخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله". ويشكّل الاستعمار انتهاكاً للحق الثابت الذي تتمتع به جميع الشعوب في " الحرية التّامة وفي ممارسة سيادتها وفي سلامة ترابها الوطني". وفضلاً عن ذلك، يحول الاستعمار دون قدرة الشعوب على ممارسة حقها في تقرير مصيرها، حيث يحرمها من حقها في " أن تحدد بحرية مركزها السياسي و[أن] تسعى بحرية إلي تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي". وفي هذا المقام، توظف المؤسسة الاستعمارية الإسرائيلية المستوطنات (المستعمرات) كوسيلة لاستعباد الفلسطينيين وفرض هيمنتها عليهم - من النواحي الإقليمية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية. وتتجلى الهيمنة على الإقليم في المستعمرات التي ما تنفك تشهد تزايداً وتوسعاً على أرض فلسطين. وتُعتبر الهيمنة القانونية حاضرةً في التشريعات التي تستهدف الفلسطينيين أو تُقصيهم على أساس أصلهم القومي، والقوانين العسكرية والمدنية التي تسري على الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة بصورة مستقلة عن الإسرائيليين-اليهود، ونفي الفلسطينيين من مناطق إقامتهم وحرمان المهجرين منهم من حقهم في العودة إلى ديارهم، في ذات الوقت الذي تمنح فيه الامتيازات للمهاجرين اليهود. وتبرز الهيمنة الاجتماعية في المعاناة والقهر الذي يكابده الفلسطينيون في علاقاتهم الاجتماعية وفي المساعي التي تبذلها إسرائيل في سبيل وأد الأسلوب الأصلاني الذي يعتمدونه في حياتهم ومعيشتهم. وتتكشف الهيمنة الاقتصادية من خلال ما تقدم عليه إسرائيل من احتكار الموارد الطبيعية الفلسطينية ووضع يدها عليها، من قبيل الأراضي الزراعية ومصادر المياه التي لا يستغنون عنها، وإقصاء الفلسطينيين وحجبهم عن الأسواق.
  • الفصل العنصري: تستند جريمة الفصل العنصري، وما تلاها من إبرام الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها، إلى نظام الفصل العنصري الذي كان سائدًا في جنوب أفريقيا، مع أنّها لا تنحصر فيه. ’فقد كانت الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها بمثابة الخطوة الأخيرة التي اتُّخذت على صعيد إدانة الفصل العنصري، حيث أنّها لم تقتصر على إعلان الفصل العنصري باعتباره عملاً غير مشروع لأنه ينتهك مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، بل اعتبرت الفصل العنصري بمثابة جريمة أيضاً. ومؤخراً، عرّف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لسنة 2002 الفصل العنصري باعتباره جريمة ضد الإنسانية، " تُرتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وتُرتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام". وفي هذا السياق، خلُص جون دوغارد، المقرر الخاص السابق المعني بحالة حقوق الانسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، إلى أنّه " على أساس الطابع المنهجي والممؤسس للهيمنة العنصرية القائمة، فهناك بالفعل أسس قوية تحملنا على الاستنتاج بأنّ نظامًا قائماً على الفصل العنصري قد نشأ في الأرض الفلسطينية المحتلة. فالممارسات الإسرائيلية في الأرض المحتلة لا تحاكي ذكريات الفصل العنصري الذي ساد في جنوب أفريقيا - بل هو أسوأ منه في بعض الحالات - وينتهك الحظر القانوني للفصل العنصري".
  • التهجير القسري للسكّان: يُعَدّ التهجير القسري للسكّان منافياً للقانون، وهو ما يزال يشكّل جريمة دولية منذ صدور قرار الحلفاء بشأن جرائم الحرب التي ارتكبتها ألمانيا في العام 1942. وفي هذا المقام، فنحن نجد في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أقوى وأحدث تقنين لهذه الجريمة، حيث يورد تعريفاً واضحاً لا يخالجه أي غموض ويقضي بأنّ الترحيل القسري للسكّان وإحلال المستعمرين محلهم يشكل جريمة حرب. وبموجب اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات التابعة للجنة المعنية بحقوق الإنسان السابقة، " يبقى الترحيل القسري للسكّان في جوهره عملًا ذا طابع منهجي وقسري ومتعمد ... يقوم على نقل السكّان إلى منطقة معينة أو إلى خارجها ... بهدف أو لغاية تغيير التركيبة الديموغرافية للإقليم المعني، ولا سيما في المواضع التي تؤكّد فيها تلك الأيديولوجيا أو السياسة على هيمنة جماعة معينة على جماعة أخرى". وفي هذا السياق، فقد جرى إعداد الكثير من القوانين والسياسات الإسرائيلية وتنفيذها، ناهيك عن الممارسات التي نفذتها مؤسسات حكومة إسرائيل والإجراءات المتعددة التي طبقتها أطراف غير حكومية وأطراف فاعلة أخرى من القطاع الخاص في إسرائيل بغية فرض الترحيل القسري على السكّان الفلسطينيين الأصلانيين وتهجيرهم إلى خارج حدود فلسطين. ولا تعمل إسرائيل، في هذه الآونة، على تنفيذ هذا التطهير العرقي على غرار حملات الإبعاد الجماعي التي نفذتها بحق الفلسطينيين في العامين 1948 و1967، وإنما في إطار سياسة عامة تقوم على الترحيل "الصامت". ويُعدّ هذا التهجير صامتًا بمعنى أن إسرائيل تنفذه في الوقت الذي تسعى فيه إلى تجنب انتباه المجتمع الدولي إليه، بحيث تعمل على تهجير أعداد محدودة من السكّان الفلسطينية على أساس أسبوعي. وتقتضي الأهمية أن نشير هنا إلى أنّ سياسة الترحيل التي تنتهجها إسرائيل ليست محددة ضمن نطاق الحدود الجغرافية "لإسرائيل" فقط، ولا ضمن نطاق حدود الأرض الفلسطينية المحتلة فقط؛ بل في كليهما على جانبي الخط الاخضر. وتبرز سياسة الترحيل الصامت التي تنفذها إسرائيل بجلاء في القوانين والسياسات والممارسات التي تعتمدها. فإسرائيل توظف قوتها وسطوتها وتستعين بهما في ممارسة التمييز ضد السكّان الأصلانيين من غير اليهود والاستيلاء على أراضيهم وأملاكهم وتهجيرهم قسرًا من إقليم فلسطين في نهاية المطاف. فعلى سبيل المثال، اضطُّر ما مجموعه 93,000 مواطن فلسطيني في شرقي القدس إلى البناء دون الحصول على تراخيص البناء المطلوبة بسبب نظام التخطيط والتنظيم الذي تطبقه إسرائيل، حيث يحرم الفلسطينيون من الاستفادة ممّا نسبته 87% من الأراضي في القدس، كما أن معظم المساحة المتبقية، والتي تبلغ نسبتها 13% مأهولة أصلاً. ومع الزيادة المضطردة التي يشهدها عدد السكّان في القدس، فقد بات المواطنون الفلسطينيون مضطرين إلى التوسع في المناطق التي لا يشملها التنظيم الإسرائيلي لإقامة الفلسطينيين فيها. وباتت جميع البيوت التي شيدها هؤلاء الفلسطينيون تحت التهديد الدائم بهدمها من قبل جيش الاحتلال أو الشرطة الإسرائيلية، ممّا يفضي إلى تشريد سكّانها وتهجيرهم. ومن الأمثلة الأخرى مخطط برافر الذي صادقت الحكومة الإسرائيلية عليه، والذي يدعو إلى التهجير القسري لما مجموعه 30,000 فلسطيني من مواطني إسرائيل بحكم سياسة تخصيص الأراضي التي أقرتها إسرائيل، والتي لا تعترف بموجبها بما يزيد على خمس وثلاثين قرية فلسطينية تقع في صحراء النقب. وتنظر إسرائيل إلى سكّان هذه القرى كما لو أنهم اعتدوا على الأراضي التي يقيمون فيها ووضعوا يدهم عليها بصفة غير قانونية. وبذلك، فهم يواجهون خطر التهديد الوشيك بتهجيرهم منها. ويسود هذا الوضع الآن على الرغم من الواقع الذي يشهد بوجود التجمعات السكّانية التي تقطن في هذه المناطق قبل قيام إسرائيل نفسها في الكثير من الحالات.

الخلاصة

تثير الجرائم المعترف بها دولياً مسؤوليات محددة تجاه الدول على المستوى الدولي. ويقع على الدول الأطراف السامية التزام قانوني يملي عليها التعاون في الإجراءات التي تفضي إلى وضع حد للممارسات الإجرامية التي تنفذها إسرائيل، بما فيها رفض تقديم العون أو المساعدة لإسرائيل أو الاعتراف بالوضع غير القانوني الناشئ عن الإجراءات الإسرائيلية التي تجانب القانون.

ويتعين على المجتمع الدولي أن يتخذ الإجراءات المناسبة التي ترمي إلى الاعتراض على التضييق المستمر والمدروس الذي تمارسه إسرائيل بحق أبناء الشّعب الفلسطيني، وينبغي أن تنبع هذا الاعتراض من تقييم الإجراءات والسياسات الإسرائيلية من منظور القانون الدولي. فالوقائع القائمة على الأرض تثبت أن مثل هذا التقييم يجب أن يميط اللثام عن الأركان التي تؤلف جريمة دولية ضد الإنسانية، كما يجب أن تجري مقاضاة النظام الإسرائيلي بناءً على ذلك، بما يفضي إلى وضع حد لإفلات دولة إسرائيل من العقوبة الواجبة على هذه الجرائم. ومع ذلك، فما يزال أعضاء متنفذون في أسرة المجتمع الدولي صامتين - إن لم نقل متواطئين - فيما يتصل بهذه الجرائم. ويمثل الواقع الناشئ عن هذه الجرائم أسوأ السيناريوهات: المعاناة المريرة والطويلة التي يكابدها شعب يخضع لنير الاستعمار والاحتلال بالتوازي مع تسييس مقصود لأحكام القانون الدولي وقواعده وإفراغها من قيمتها. ولذلك، ينبغي لمكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية أن يباشر تحقيقاً شاملاً في الوضع القائم في فلسطين، حيث تستهل المحكمة بهذا الأمر حقبة جديدة تضع فيها حدّاً للإفلات من العقوبة الواجبة على الأشخاص الذين اقترفوا أكثر الجرائم خطورة.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

* امجد قسيس: كاتب وباحث قانوني فلسطيني.