قبل أيام، خرج الرئيس الامريكي في كلمة متلفزة يعبر فيها عن عدم رضاه عن تصريحات نتنياهو بشأن تعهدات الأخير بالإستمرار في بناء المستعمرات وتوسيعها، وتهويد القدس كعاصمة إسرائيل الموحدة بشطريها، وبمنع تطبيق حل الدولتين. وبدا الرئيس اوباما في تعبيراته وكأنه لم يكن يسمع ويرى. وبصرف النظر عن التوقيت، أو عمّا يمكن أن تقوم به الإدارة الامريكية حيال ذلك، إلا أنه من المؤكد ان هذا الخروج الاستعراضي اللافت بعد صمت عام كامل منذ فشل مفاوضات الأشهر التسع، يعني شيئا واحدا: التوجه لتحريك طاحونة الحقوق من جديد. وبما ان الطاحونة الامريكية - الشرق أوسطية إسرائيلية بامتياز، فنحن أمام إما: جولة مماحكات أمريكية – إسرائيلية أو دفع باتجاه إحياء جولات المفاوضات العقيمة او ربما كلاهما معا.

وكالعادة، جولة المماحكات ستستهلك ما يكفي من الوقت لجعلنا ننتظر نتائج تشكيل الحكومة الاسرائيلية، ومن ثم إبداء الاستعداد للتعامل مع الواقع، ننتقل خلالها الى مراقبة حملة الانتخابات الامريكية، وانتظار نتائجها، ومنح الرئيس/الحزب الفائز فترة كافية كي يدرس الملف الفلسطيني. أما جولة المفاوضات، إن أُحييت، فكالعادة أيضا، ليس لنا إلا ان نتمتع بطول البال والصبر، وعدم استباق النتائج، والتحلي الأمل والفرج القادم. وما بين هذا وذاك، يبقى أمران جليّان: استمرار الاستعمار، والفصل العنصري، والتهجير، وغياب الاستراتيجية المقاومة.

ربما القول باستمرار سياسات استعمار فلسطين، وتهجير شعبها، واخضاعة لنظام الفصل العنصري لا يثير كثيراً من النقاش على المستوى الفلسطيني، باعتبار إننا جميعا متفقون عموما على توصيف الحال القائم. في المقابل، الإدعاء بعدم وجود استراتيجية فلسطينية، قد يكون محل نظر، أو تشكيك أو ربما رفض، خصوصا في ظل التوجه الى محكمة الجنايات الدولية، وتوقيع العديد من الاتفاقيات، وعلوّ موجة التهديد بالشرعية الدولية، وهذا – والحق يقال- أكثر من مجرد المطالبة بتطبيقها. ومع ذلك، ودون الانتقاص من الخطوة او التوجه، لا يزال من المشروع السؤال فيما إذا كانت هذه الخطوة تندرج ضمن استراتيجية فلسطينية  متكاملة، أم انها كسابقات عهدها من قنابل الصوت تفرغ من محتواها بانتظار ما يسمى الاجماع الدولي، او تنتهي بالعودة الى دوامة الجولات. 

وقبل أيام من كلمة اوباما، وبخبرة الحركة الصهيونية وحلفائها وبتواطؤ البعض، تم تأجيل تقديم تقرير لجنة التحقيق المستقلة الى مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة دون سابق انذار؛ مما يشكل مؤشرا قويا على أن مصير اللجنة وتقريرها لن يكون أفضل من غولدستون وتقريره، اذا لم يكن أسوأ. وبلا شك، فإن التأجيل ليس مجرد مسألة فنية كما يراد لنا ان نقتنع، بل هو نتاج ضغوط وأولويات يجري ترتيبها بفعل موازين القوى. ومن غير شك، فان هذا يشير الى ان خيار انتظار الاجماع الدولي، ما عاد متاحا هو الآخر. 

ضمن نفس السياق، كنا في أعداد سابقة قد حذرنا من المبالغة في تصوير ما يمكن ان تقوم به المحكمة الجنائية الدولية، وما يمكن أن تحقّقه على المدى المنظور في مجال إحقاق الحقوق الوطنية المشروعة. فبدون انتقاص من أهمية محاسبة الأفراد المتورطين في جرائم، وأثر ذلك على سياسات إسرائيل على المدى البعيد، تبقى المحكمة محكمة المسؤولية الفردية في نهاية الأمر. وعليه، كنا قد أشرنا الى انه ليس صحيحا إيهام شعبنا بان التوجه الى المحكمة – بصرف النظر عن اية تعقيدات في الطريق، وبافتراض تحقق أفضل السيناريوهات (مثلا محاكمة نتنياهو نفسه)-  خطوة  "رح اتجيب الذيب من ذيله". إن التوجه إلى المحكمة غاية في الاهمية، ولكن لا يعتمد نجاحه على وجود قضية/جريمة موصوفة، وملف قانوني محكم، ومحامين وخبراء. يبدأ النجاح عندما يكون هذا التوجه خطوة ضمن استراتيجية شاملة تعتمد اساسا على ارادة شعبنا في التغيير.

يعرض هذا العدد في محوره الأساسي عدداً من المقالات التي تتناول أهمية خطوة القيادة الفلسطينية في التوجه الى المحكمة الجنائية، وغيرها من آليات القانون الدولي. كما ويتناول في مقالات أخرى كيفية جعل هذا التوجه جزءاً من استراتيجية التحرر، وليس مجرد مناورة تكتيكية للعودة الى جولة مفاوضات جديدة، او ردة فعل ناشئة عن عدم وجود بدائل، او عن العجز عن صناعة بدائل.