الخطابُ الفلسطينيّ أثناء وبعد العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزة

بقلم: هاني المصري*

لا نستطيع الحديث عن خطاب سياسي وإعلامي فلسطيني واحد أثناء وبعد العدوان الإسرائيلي الإجرامي الأخير على قطاع غزة، وأكبر دليل على ذلك ما يحدث الآن من عودة فعليّة إلى مربع الانقسام بالرغم من استمرار وجود ما تسمى حكومة الوفاق الوطني. 

كان هناك خطاب رسمي متغيّر، فالموقف الذي اتخذته القيادة الفلسطينيّة، وتحديدًا الرئيس محمود عباس، تغيّر مرارًا وتكرارًا.  فعند اندلاع العدوان تمّ عمليًّا تحميل إسرائيل و"حماس" جنبًا إلى جنب المسؤوليّة عن الحرب امتدادًا للموقف المعلن بعد اختطاف وقتل المستوطنين الثلاثة ورفض فصائل المقاومة للمبادرة المصريّة، ثم تغيّر الموقف الرسمي ليأخذ موقفًا مختلفًا جدًا كما ظهر في البيان الصادر عن القيادة الفلسطينيّة في الثالث والعشرين من تمّوز الماضي، الذي أكد على "مواجهة العدوان الإرهابي الإجرامي الذي تشنه إسرائيل ضد شعبنا الصامد في قطاع غزة الباسل، وأن غزة البطولة هي الدرع الحامي اليوم، حيث تتقدم الصفوف لتحمي أرضنا وحقوقنا وأهدافنا الثابتة والمقدسة في الحريّة والعودة والاستقلال".

كما تضمن البيان دعوة القيادة الفلسطينيّة جماهير الشعب الفلسطيني إلى "أوسع تحرك شعبي متواصل تعبيرًا عن وقوفنا الثابت مع غزة البطولة ومقاومتها الباسلة ضد جيش العدوان وإجرامه المتواصل، ونحن على ثقة بأن غزة لن تنكسر في ظل التفاف كل شعبنا معها ودعمها لجميع الوسائل، حتى يعرف الغزاة بأن كل شعبنا العظيم بجميع فئاته وفصائله وقواه داخل الوطن بأكمله وخارجه لن يترك غزة وحدها ولن يسمح للعدوان المجرم بأن يستفرد بها".

وأضاف البيان أن القيادة الفلسطينيّة قررت "العمل العاجل من أجل تعزيز وحدة الصف الوطني تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينيّة، وذلك بالدعوة إلى عقد اجتماع فوري لقادة العمل الوطني الفلسطيني من خلال الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير الفلسطينيّة في القاهرة". 

كما جاء فيه "أن العدوان ضد غزة لا يتجزأ بين حرب ظالمة ضدها وبين حصار مدمر حولها، ويجب دحر هذا العدوان كله بجميع أشكاله، وعبر تضامن فلسطيني - مصري راسخ ووحدة إرادة عربيّة شاملة ومساندة عالميّة واسعة. وإن مطالب غزة بوقف العدوان ورفع الحصار بكل أشكاله هي مطالب الشعب الفلسطيني بأسره، وهي الهدف الذي تكرس القيادة الفلسطينيّة كل طاقاتها من أجل تحقيقه".

وعلى إثر هذا البيان تمّ تشكيل وفد فلسطيني موحد للتفاوض على شروط وقف إطلاق النار برئاسة عزام الأحمد وعضويّة عدد من الفصائل، بمن فيهم خمسة أعضاء من حركة حماس تقديرًا (ولو بشكل غير مباشر) لدورها المميز في مقاومة العدوان.  وهذا الأمر يحدث لأول مرة وكان يمكن أن يشكل حجر زاوية يمكن البناء عليه.

أما بعد الحرب فاتخذ الرئيس موقفًا متشددًا من "حماس"، إلى حد أنه قال إنها كان يمكن أن تتفادى العدوان، وبصورة أوضح يمكن أن توقفه لو قبلت المبادرة المصريّة التي صدرت بعد أيام قليلة من العدوان حين كانت الخسائر الفلسطينيّة قليلة.  وهذا التقدير لم يكن دقيقًا لأن إسرائيل هي من بادرت إلى الحرب لتحقيق أهداف عدة، منها: توجيه ضربة مؤلمة للمقاومة، وتعميق فصل الضفة عن غزة، مع تعميم نموذج الضفة أمنيًا على غزة، وإفشال المصالحة التي خطت خطوة مهمة بتشكيل حكومة الوفاق الوطني. واستخدمت إسرائيل موقف الرئيس المشار إليه لتبرير عدوانها الغاشم، لدرجة أن مندوبها في الأمم المتحدة استخدم ما قاله الرئيس في هذا السياق. 

هناك فرق بين من يتحمل المسؤوليّة عن العدوان وبين الضحيّة وكيف كان بالإمكان أن تدافع عن نفسها بشكل أفضل، لأن الخلط في المسؤوليّة يعطي مصداقيّة للمواقف الإسرائيليّة الرسميّة المعلنة، التي نفت فيها الحكومة الإسرائيليّة أنها بادرت إلى الحرب، بل شاركت فيها للدفاع عن النفس وحماية مواطنيها من الصواريخ المنطلقة من قطاع غزة، ويعزز ذلك أن إسرائيل وافقت فورًا على المبادرة المصريّة، لأنها كانت تراهن على رفض "حماس" لها وكسبت الرهان.

في حين كان يجب الاستناد إلى حقيقة الموقف الإسرائيلي الذي مارس كل أنواع الانتهاكات للتهدئة المبرمة في العام 2012، خصوصًا في الأشهر القليلة التي سبقت العدوان الأخير، إلى أن قام جيش الاحتلال باغتيال ستة عناصر من كتائب القسام التابعة لحماس، في محاولة مكشوفة لاستدراج "حماس" للحرب، وسط تقدير إسرائيلي بأن الوقت نموذجي لتوجيه ضربة قويّة لها ولبقيّة فصائل المقاومة، موظفة في ذلك الوضع العربي والإقليمي وما تشهده بلدان عربيّة عدة من حروب داخليّة تهدد الأوطان بالتقسيم والثبور وعظائم الأمور، وما أدى إليه ذلك من انشغال العرب بمشاكلهم الداخليّة ومن تهميش للقضيّة الفلسطينيّة، خصوصًا في ظل تدهور علاقات "حماس" مع عدد من الدول العربيّة، خصوصًا سوريا ومصر ودول الخليج باستثناء قطر، وهذا كان له أسوأ الأثر على نتائج الحرب التي بالرغم من الصمود الأسطوري والمقاومة الباسلة لم تتمكن من استثماره سياسيًا، لأن الحرب تمت في أسوأ شروط عربيّة وإقليميّة.

ومثلما راهنت إسرائيل على الوضع العربي راهنت كذلك على أن الشعب الفلسطيني، وتحديدًا في الضفة الغربيّة لن يتحرك لنصرة غزة.  صحيح أن النصرة لغزة كان من الممكن أن تكون أكبر بكثير وتصل إلى اندلاع انتفاضة شاملة، ووقف التنسيق الأمني، ووقف العمل بكل التزامات "اتفاق أوسلو"، والانضمام للوكالات الدوليّة، وتحديدًا محكمة الجنايات، ولكن ما شهدته الضفة وأراضي 48 والشتات واتجاهه إلى التسارع بشكل متعاظم فاجأ حكام تل أبيب، خصوصًا لجهة تصاعد المقاطعة لإسرائيل، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وأكاديميًا، بصورة لم تحدث من قبل.  وهذا ساهم في وقف العدوان قبل تحقيق أهدافه.

لتفسير الموقف الرسمي الفلسطيني الغريب، لا بد من إدراك أن سياسة أبو مازن تقوم على أن تحقيق الأهداف الفلسطينيّة يمكن أن يكون عن طريق إثبات الجدارة وبناء المؤسسات، وتُبقي على الالتزامات، ولو من جانب واحد، إضافة إلى المراهنة على العمل السياسي والديبلوماسي والوسائل السلميّة، وتجنب المجابهة وإراقة الدماء التي يمكن أن تؤدي إلى العقوبات ووقف المساعدات وتحويل العائدات الجمركيّة.  كما تقوم سياسته على المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة انفراديّة لتحقيق الحقوق الفلسطينيّة، وتحديدًا إقامة دولة فلسطينيّة على أساس حدود 1967 ومبادرة السلام العربيّة، وعندما تفشل المفاوضات يتم الحل عبر المزيد من المفاوضات.

وهنا يجب التوقف عند نقطة مهمة للغاية - خصوصًا أن هذا المقال ينشر في جريدة "حق العودة" - وهي ضرورة الكف عن الالتزام بمبادرة السلام العربيّة كما هي عليه، لأنها تضمنت تنازلًا جوهريًا عن حق العودة عندما نصّت على "حل متفق عليه لقضيّة اللاجئين"، ما ينقل هذه المسألة، التي هي جوهر وأساس القضيّة الفلسطينيّة، من مستوى الحق الذي يجب أن يستجاب له، بحيث يكون التفاوض على تطبيقه كيف ومتى وبأي أشكال سيجري، إلى مستوى يضع القرار كقضيّة تفاوضيّة بحيث يكون مصيرها بيد العدو الإسرائيلي الذي لن يوافق على حق العودة، لدرجة أن بنيامين نتنياهو وعدد من أركان حكومته قالوا بعد أن أقرت الحكومة مشروع قانون القوميّة اليهوديّة إن إقرار هذا القانون يستهدف أول ما يستهدف منع حق العودة للاجئين الفلسطينيين. هذا القانون يجعل العنصريّة قانونًا سائدًا في إسرائيل، ويرسل رسالة بالغة الدلالة بأن إسرائيل لليهود وأن العرب أصحاب البلاد الأصليين مصيرهم إلى التهجير بكل أشكاله. 

لقد رافق المفاوضات الفلسطينيّة الإسرائيليّة لردهة من الزمن على الأقل وهم بأن التنازل عن حق العودة لأراضي 1948 قد يساعد على إقامة دولة فلسطينيّة على حدود 67، وأثبتت التجربة الطويلة الماضية أن المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري ضد قيام الدولة الفلسطينيّة بصورة لا تقل عن معارضته لحق العودة، مما يتطلب إعادة الاعتبار لهذا الحق الذي من دون الوفاء به لا يمكن الحفاظ على وحدة القضيّة وزج الشعب كله في جميع أماكن تواجده في معركة تجسيدها.

بعد هذا الفاصل المهم نعود إلى تفسير السياسة الفلسطينيّة في عهد أبو مازن.  فكما نلاحظ أنه بعدما تفشل المفاوضات بالرغم من كل المرونة والتنازلات التي قدمت، كما حدث منذ توليه سدة الرئاسة، كان يلجأ أبو مازن إلى استخدام المصالحة والمقاومة الشعبيّة المضبوطة والتوجه للأمم المتحدة كوسائل تكتيكيّة للضغط من أجل استئناف المفاوضات وتحسين شروط استئنافها، لأن من المتعذر الآن الانخراط بها مجددًا بعد الحصول على الاعتراف الدولي في الدولة الفلسطينيّة، وبعد أن أصبح عدد المستوطنين في الضفة الغربيّة أكثر من 750 ألف مستوطن، وبعد اتجاه إسرائيل أكثر نحو التطرف والتعنت؛ بدليل الإجراءات والسياسات والقوانين العنصريّة التي سنتها وشرعت بسنها وتخطط لاعتمادها خلال الفترة القليلة القادمة، لذلك طالبت القيادة الفلسطينيّة بالإفراج عن الدفعة الرابعة من أسرى أوسلو وتجميد الاستيطان والبدء بالتفاوض على الحدود، ثم انتقلت للمطالبة بموافقة أميركيّة إسرائيليّة على سقف زمني لإنهاء الاحتلال، ثم تستعد للتوجه إلى مجلس الأمن لتحقيق هذا الهدف الذي لم توافق عليه الإدارة الأميركيّة ولا الحكومة الإسرائيليّة.

إذا لم يوافق مجلس الأمن على تحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال، سواء إذا لم يحصل الطلب الفلسطيني والعربي على الأصوات التسعة المطلوبة لعرضه للتصويت، أو إذا حصل عليها فيمكن على الأرجح، إن لم يكن من المؤكد، أن تستخدم إدارة اوباما الفيتو؛ الأمر الذي يجعل القيادة الفلسطينيّة مضطرة للحسم: إما بتليين موقفها والتخلي عن كل أو بعض شروطها، على أمل أن تقوم الإدارة الأميركيّة في آخر عهد أوباما بالضغط على إسرائيل، أو من خلال الدفع إلى إجراء انتخابات مبكرة تأتي بحكومة أفضل من الحاليّة، بالرغم من أن العديد من المؤشرات تفيد بأن الحكومة القادمة بعد الانتخابات قد تكون أسوأ من الحاليّة.

وإما بتنفيذ تهديدها بالانضمام لكل الوكالات الدوليّة التي لم تنضم إليها حتى الآن، وعلى رأسها محكمة الجنايات الدوليّة.  وبعد ذلك إذا لم يحدث تجاوب سيتم تسليم مفاتيح السلطة للحكومة الإسرائيليّة من دون توضيح ما معنى ذلك.

في البداية كان التفسير الفلسطيني لتحميل الاحتلال المسؤوليّة عن احتلاله وتسليمه مفاتيح السلطة أنه يعني حل السلطة، أما في الآونة الأخيرة فيتم نفي ذلك من دون تفسير كيف يكون تسليم مفاتيح السلطة والاحتفاظ فيها في نفس الوقت، ما قد يعني - على الأرجح - أنه مجرد تهديد لفظي يستهدف تحريك الجهود لاستئناف المفاوضات وإرضاء الرأي العام الفلسطيني الغاضب من الوضع القائم والمطالِب باعتماد إستراتيجيات جديدة.

إن المطلوب التركيز على تغيير موازين القوى وإعادة النظر في شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها لتكون أداة من أدوات منظمة التحرير، ولخدمة البرنامج الوطني في سياق يشمل إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير.

أما التفسير الحقيقي للموقف الفلسطيني فهو أن السلطة تحاول شراء الوقت لعلّ تغيّرًا يحدث في الموقف الأميركي أو الإسرائيلي أو كليهما، أو في الموقف الاوروبي أو الدولي يسمح باستئناف المفاوضات.  وهذا الأمر عرضه الرئيس في خطابه في التاسع والعشرين من الشهر الماضي (الذي يصادف يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني) أمام الجامعة العربيّة من خلال تندّرِه بما وصفها سياسة "الانتظار والتريّث" التي حكمت السياسيّة الفلسطينيّة خلال السنوات الأخيرة.

وفقًا لبعض المعلومات هناك جهود أميركيّة لإطلاق مبادرة جديدة لاستئناف المفاوضات ستفشل على الأرجح بسبب الانحياز الأميركي المطلق لإسرائيل، وتعنت الحكومة الإسرائيليّة بما لا يترك أي هامش للمناورة للإدارة الأميركيّة، بالرغم من أن هذه الجهود قد تتضمن أو تصل إلى قبول أو عدم رفض مشروع القرار الفلسطيني العربي بعد تعديله، وتبرز الطّامّة في أن تعديله – إن حدث، ونأمل ألا يحدث -  سيفرِغُه من مضمونه، بل حتى لو وافقت عليه الإدارة الأميركيّة كما هو سيكون مجرد وسيلة لاستئناف المفاوضات، وليس الهدف منه الضغط على إسرائيل، ما سيعيدنا إلى دوّامة المفاوضات التي دخلنا فيها منذ أكثر من واحد وعشرين عامًا وأوصلتنا إلى الكارثة التي نحن فيها. 

لتوضيح ما ذهبنا إليه أعلاه، نضيف أن لدينا عشرات القرارات الصادرة من الجمعيّة العامة ومجلس الأمن التي تدين الاحتلال والاستيطان والجرائم العسكريّة والعنصريّة وتؤكد على حق العودة، ولدينا الرأي الاستشاري لمحكمة لاهاي وتقرير غولدستون، إذ لاحظنا كيفيّة تعامل المجتمع الدولي معها وكيفيّة تعاملنا معها.  ألم يتم إهمالها خشية إغضاب حكام واشنطن وتل أبيب؟! ما يجعل أن الأمر الأهم والحاسم ليس صدور القرارات، بل توفر النيّة والقدرة على تنفيذها، وهذا غير ممكن من دون التركيز على اعتماد كل الإستراتيجيات المطلوبة القادرة على تغيير موازين القوى، وتسليح المفاوض الفلسطيني بأوراق القوة التي تجعله قادرًا على استخدامها على طاولة المفاوضات بما يحقق الحقوق الفلسطينيّة.

كما أن هناك معلومات متواترة عن مبادرة فرنسيّة يمكن أن تتحوّل إلى مبادرة أوروبيّة، مفادها: تأجيل التوجه الفلسطيني لمجلس الأمن مقابل صدور قرار آخر من مجلس الأمن أو من دون قرار، بحيث تتضمن الدعوة إلى استئناف المفاوضات والسعي لوصولها إلى اتفاق خلال عامين عبر عقد مؤتمر دولي كمدخل لاستئنافها، على أن تعترف فرنسا أو مجموعة الدول المشاركة في الاتحاد الأوروبي بالدولة الفلسطينيّة في نهاية المدة، سواء إذا نجحت المفاوضات أو لم تنجح.  ونحن نحذر من التعاطي مع مثل هذه المبادرات بالرغم من كل ما تنطوي عليه من تقدم في الموقف الفرنسي والأوروبي، لأنها ستضيّع الوقت الثمين المتبقي، وتمنح إسرائيل ما تحتاجه لاستكمال تطبيق مخططاتها بما يقطع الطريق على قيام دولة فلسطينيّة حقيقيّة.

كان على أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من الدول الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة المنصوص عليها في قرار التقسيم الصادر في 29/11/1947، الذي استندت عليه إسرائيل عند قيامها، وهذا شكل من أشكال تعبير الشعب الفلسطيني عن حقه في تقرير مصيره.  هذا الحق الذي يجب ألا يكون مشروطًا بأي شيء آخر ولا مؤجلًا تحت أي ذريعة. 

إذا عدنا الآن إلى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة نجد أن إسرائيل لم تحقق أهدافها، لأن العدوان انتهى مع استمرار إطلاق الصواريخ على مختلف مناطق إسرائيل، ومن دون أن تحتل قطاع غزة وتقضي على إرادة الصمود والمقاومة، ولكنّ الحرب مستمرة لتحقيق أهداف العدوان من خلال استمرار الحصار وعدم فتح المعابر وعدم الاستجابة لطلبي فتح المطار والميناء، وعدم انطلاق عمليّة إعادة الإعمار بصورة حقيقيّة، وربط كل ذلك بآليّة تريد أن تضمن وقف تسليح وتطوير قدرات المقاومة، وعودة السلطة إلى قطاع غزة من دون مشاركة سياسيّة حقيقيّة من مختلف القوى والأطراف، الأمر الذي يعتبر وصفة لإعادة إنتاج الانقسام.

لا يمكن أن تكتمل الصورة من دون أن نرى خطاب "حماس" الذي استند إلى الاستعدادات العسكريّة المميزة، كما ظهر في التسليح وقدرات الصواريخ ومدياتها والمعارك البحريّة والبريّة وإسقاط نظريّة الردع الإسرائيليّة، ولكنه بالغ كثيرًا بمدى ما يمكن أن تحققه المقاومة، وقلل كثيرًا من تأثير الخسائر الفلسطينيّة الضخمة، ومن تأثير الخصومة ما بين "حماس" ومصر أثناء الحرب وبعدها، وربط ما بين ما يجري في غزة وفلسطين وبين الصراع بين المحاور العربيّة المختلفة.

وظهر هذا الخطأ بصورة أكبر من خلال عدم التمييز بين رفض المبادرة المصريّة وبين رفض الدور المصري، وعدم التحلي بالحكمة من خلال قبول أو قبول مشروط بالمبادرة المصريّة التي تتضمن رغم النواقص التي تكتنفها شيئا في منتهى الأهميّة، وهو وقف الحرب الذي يصبّ في صالح الفلسطينيين.

لا يمكن تفسير خطاب "حماس" من دون رؤية أنها وجدت في الحرب التي اضطرت إلى خوضها وسيلة لإيجاد مخرج من أزمتها المتفاقمة، وإثبات وجود لها وللمحور الذي تتحالف معه بوصفها امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين الساعية للعودة للحكم في مصر والمتحالفين مع قطر وتركيا، البلدين اللذين يكنان العداء للنظام الحاكم في مصر.

"حماس" مطالبة بإقامة مسافة واضحة بينها وبين جماعة الإخوان المسلمين، وإبراز كونها جزءًا من الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة على حساب كونها امتدادًا للجماعة، مع حقها في اعتناق الأيديولوجيّة التي تريد وإقامة التحالفات التي تراها مناسبة بما لا يتنافى مع المصلحة الوطنيّة، على أساس أن القضيّة الفلسطينيّة قضيّة عادلة ومتفوقة أخلاقيًا وقضيّة تحرر وطني، ولذلك فإنها قادرة على توحيد العرب والمسلمين والأحرار في العالم كله، وهي بحاجة إلى الجميع، وخصوصًا مصر الدولة العربيّة الكبرى والقائدة، ما يتطلب احترام إرادة الشعب المصري والاعتراف برئيسه الذي لا يعني الموافقة على سياساته. 

كما على "حماس" الاستعداد للتخلي عن الحكم في غزة وليس الحكومة فقط، مقابل شراكة سياسيّة كاملة في المنظمة والسلطة على أسس وطنيّة وديمقراطيّة تقوم على القواسم المشتركة وتجاوزًا لاتفاق أوسلو والتزاماته وشروط اللجنة الرباعيّة الظالمة.

قبل أن أنهي هذا المقال، لا بد من الإشارة إلى أن هناك خطابًا ثالثًا عبّر عن نفسه بشكل أو بآخر، ولكن القوى التي تتبناه صغيرة وغير موحدة، وجوهر هذا الخطاب أن الأولويّة  يجب أن تكون لاستعادة الوحدة الوطنيّة التي هي ضرورة وليست مجرد خيار من الخيارات، وعلى أساسها تتم بلورة إستراتيجيات جديدة تتجاوز كليًا "اتفاق أوسلو" عبر التخلي الفعلي عن التزاماته السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، وتسعى لتغيير موازين القوى من خلال الجمع والمزج ما بين جميع أشكال العمل السياسي والنضال، على أساس أنها وسائل وليست غايات، وتسعى لخدمة المصلحة الوطنيّة العليا المجسدة من خلال إعادة تعريف وتحديد البرنامج الوطني، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتكون المؤسسة الوطنيّة الجامعة والممثل الشرعي الوحيد قولًا وعملًا للشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
*هاني المصري: مدير عام مركز مسارات لأبحاث السياسات.