*بقلم: وسام محفوظ

غزة...أما بعد....

هادئ هو بحر غزة... يدرك ماؤه أن العدوان قد دحر أذاه مولياً عن شاطئه، فالموج عاد يضرب قوارب صياديه، ورماله عادت تشهد ازدحاماً مبرراً، ليعاد المشهد "المألوف" فتكتمل الصورة السابقة... لتبقى حاضرة شاهدة على صمود أهل غزة... وكأن شيئاً ما مر...

البحر ذاته، والماء وموجه ذاته، والرمل لم يغير شيئاً سوى محاولة تقديم جهد مضاعف ليبدو المشهد الجديد المتجدد، مشابه لما كان...

تتشابه وتختلف رمزية البحر في مواضع عدة؛ ففي معجم الرموز يذهب التفسير بأن البحر يرمز لدينامية الحياة، فالكل خرج من البحر وإليه يعود، فهو مكان للولادات والتحوُّلات والانبعاثات، البحر صورة للحياة وصورة للموت، ذلك أن القدماء كانوا يهِبون للبحر قرابين من الخيل والثيران، وهذه نفسها رموز للخصوبة. وفي الميثولوجيا الأيرلندية، جاءت الآلهة عبر البحر، وعبر البحر سنذهب إلى العالم الآخر. وفي القرآن الكريم، هناك حديث كذلك عن "البَحْرِ الْمَسْجُورِ"،١  بمعنى الموقد والمحترق، للدلالة على الدخول إلى العالم الآخر. 

يطرح البحر ورماله وهدوؤه تساؤلات كثيرة بعد الحرب؛ إلام ينذر هدوء بحر غزة؟ وإلى أي مدى يتشابه وشكل الحياة المرتقبة هناك؟ هل يستوعب البحر بمداه الواسع آلاماً يومية لا تتسع لها الأرض والروح؟ وهل لا زال البحر يحتفظ برمزيته ذاتها؟

 هل تنسى الرمال زوارها؟ أم هل تلفظ موتى ما كانوا يرون في الرمال سوى مكان لهو حنون يصاحبه بحر وهدير وغروب، فيمضي النهار عليه، لهواً فتعباً، لحين الرحيل المصاحب لدغدغة دفء الرمال في الأقدام، وإذ به يوماً... يغدو رحيل أبدي؟ أي ذكرى تراهم يحملونها شهداء الرمال؟ هل تختلف ذكراهم عمن يموتون على الأرض؟ هل تغير قسوة الأرض وصلابتها من شكل موتهم؟ أم تراهم يتشابهون بكونهم جميعاً يموتون... واقفين؟ وهل للبحر بموجه مقدرة على محو ما شهدته الرمال من قسوة وآلام مغايرة لما خلقت لأجله؟

لرمال غزة... حكاية أخرى...

في نهار يوم جمعة بتاريخ التاسع من حزيران من العام 2006، كانت طفلة تبلغ 10 أعوام من عمرها الافتراضي... تلهو على شاطئ بحر غزة ورماله مع عائلتها، ذلك أن البحر وشاطئه هما المتنفس الوحيد في تلك البقعة الغزية المحاصرة. أليست الرمال مقصداً للزوار، يلقون عليها هم يومهم ويطارحون بحرها آلامهم؟  

كان حدثاً "مألوفاً"، عائلة تلهو على الشاطئ... اليتيم، تطالع بحره وشمسه وتفترش رماله، وسماؤه تحتضن المشهد برمته، لكن غير المألوف، أن دوياً سمع في سماء ذلك اليوم جعل موج البحر يرتد عن هدوئه، ويلفظ غضبه، ويعلن أن النزهة البحرية على الرمال تحولت لذكرى آثمة في ذكريات البحر ونزهاته....

هدى غالية، طفلة لربما باتت تخشى هدوء البحر أكثر من غضبه، ذلك أنها في جمعة ذلك اليوم الغزي باحتراف، بدل أن تمضي يومها باللهو مع باقي أفراد عائلتها، أخذت تعدو وتصرخ ملء السماء على ذويها جميعاً، علّ البحر يجيبها فينكص عن غضبه ويعيد لها والدها وأخوتها الخمسة الذين قضوا على الرمال رقدتهم الأخيرة، بعد أن قصفت البوارج الإسرائيلية ذاك الشاطئ فيما يعرف بمجزرة شاطئ غزة.

هدى، والتي شاهدها العالم اجمع، وهي وحدها الآن حتى بدون رفقة البحر، تعاني من مشاكل في الاستيعاب والتركيز الدراسي منذ الحادثة، ويحاول الجميع جاهدين من أصدقاء ومرشدة نفسية إخراجها من وضعها النفسي إلى اللحظة. هل تنسى طفلة العاشرة عائلة قضت؟ هل تعاود هدى زيارة البحر، هل لها أن تبثه حزنها بعد أن أصبح شاهداً على فاجعتها؟

في السادس عشر من تموز من عام 2014، عام عدوان آخر على غزة، مشهد "مألوف" آخر، صبية أقارب يلهون على الرمال، في خضم حرب مستعرة لا يدرون عن تفاصيلها شيئاً غير دوي الطائرات وكثافة دخان تحجب صفاء السماء، التي يرون فيها حياة أخرى بعيداً عن حصارهم... بالنظر إليها، إذ يرون أحلامهم وحريتهم من خلالها... يشتد دوي الطائرات وصواريخها لتعيد مشهداً لربما ستألفه الرمال... أربعة أطفال فلسطينيون من عائلة واحدة، تنتهي أجسادهم اللاهية على الشاطئ لجثامين على الرمل ذاته....

هل ستعاود عائلة بكر المفجوعة بأطفالها الأربعة زيارة البحر حتى بعد انتهاء العدوان؟ ما هي الصورة الباقية لديها وفي دواخلها عن البحر ورماله؟

على بحر غزة وشاطئه... كانت حكايات تحولات وانبعاثات...صورة للحياة تحولت للموت... هناك قرابين أُخذت... وخصوبة بُترت... لكن ما بقي، أنه وعبر البحر، هناك من دخل إلى العالم الآخر...

خلال العدوان، فتحت مدارس الأونروا لا للدراسة، بل كمراكز لجوء للعائلات التي خسرت مأواها، ولم يعفها لا كونها مدرسة ولا مركز لجوء، فقصفت مرة أخرى. شهدت المدرسة قصفاً فمجازر فدماء غطت أرضيتها التي لعب عليها يوماً طلابها، وتحولت مقاعدها الدراسية التي جلس عليها طلابها أيضاً...يوماً، لمفارش ومقاعد لثكلى الحرب، تحول مشهد المدرسة من مكان تعليم دروس مقررة ممنهجة، لمكان تعليم دروس أخرى للحياة يتعلمها الأطفال، قسراً وألماً... كيف عاد الأطفال لمدرستهم بعد الحرب، وهم يحملون حقيبة نشطت الحملات لتأمينها لهم لدفعهم للمضي قدماً في حياتهم وتعليمهم، وهم يدركون يقيناً أنها لا تحميهم من قصف طائرة ولا تهدئ الدوي داخل أرواحهم؟ أي صورة بقيت بداخلهم عنها... هل وقفوا في يومهم الأول في طابور الصباح وأسمعوا أنفسهم نشيد وطن "متخيل" بعيد، أم هرولوا بلا وعيهم لصفوفهم علهم يجدون فيها أمان "متخيل"؟ هل عاودوا إليها كمدرسة أم ملجأ أم هدف لغارة قد تحدث في أيما لحظة... ولو في مخيلتهم...؟

في أحد الأزقة الضيقة والقريبة على البحر، يلهو صبية في لعبه استحدثوها لأنفسهم، في مشهد مهيب لكنه سيصبح "مألوفاً" كونه في أرض توالت الغارات عليها، فاستطاعت أن تمحو الكثير مما تختزله الروح وذكرياتها، لتكوّن صورة مغايرة عن كل شيء... يمارس الأطفال لعبة الجنازة، فيكون المشهد بصنع تابوت يوضع فيه أحد الأطفال كونه "شهيداً"، ويركض الأطفال بالنعش الأثير ليوارى الثرى... ويتكرر المشهد والشهداء... وتغدو لعبة وحكاية فذكرى...

أليست الألعاب أحداث واقعة وذكريات معاشة... فتاريخ يُحكى، ألم تخلق لعبة "عرب وإنجليز" إبان أحداث مشابهة في حياة الفلسطينيين، فغدت لعبة الأطفال المفضلة... والكبار أيضاً، وهم يراقبون أطفالهم ينتصرون نصراً "متخيلاً" على أعدائهم... لكن أنّا للآباء أن يحتملوا مراقبة أطفالهم يموتون موتاً "متخيلاً" في لعبة الجنازة، وهم يدركون أنها ستغدو واقعاً في أيما لحظة...

وعلى أنقاض منزله، يمارس الشاب ثائر نصار هواية الرسم لديه، ليرى العالم -كما يقول- أين رسمنا، ليس على جداريات بل على بيوت مدمرة... يكتب ثائر: بين ريتا وعيوني بيت مهدوم..! أي حزن عساه سيعتري درويش حين يعلم أن ما أصبح بينه وبين ريتا ليس بندقية فحسب، بل فِعلُها، ودويُّها....ويكتب أيضاً: سقط البيت ولم يسقط حنظلة....وكيف عساه يسقط؟ فناجي لم يبدعه إلا ليبقى شاهداً على صمودٍ لا يفنى، وهو وحده من سيتمكن من إدارة وجه حنظلة ليراه العالم الأجمع فيعلم أننا لا نزال أحياء....

يقول بنديكت أندرسون أحد منظري الهوية، بأن القوميات عموماً بمن فيها الواقعة تحت الاحتلال، لا تتضمن تعبيراتها الخاصة بالهوية مشاعر متعلقة بالكراهية، بقدر ما هي مشاعر مرتبطة برفض العدوان والمقترنة أيضاً بالتحدي. والسؤال المهم هنا، ماذا لو كتب أهل غزة الآن روايتهم وأشعارهم بعد الحرب، لأي مدى تُحوِّل الحرب المتكررة وآلامها المصاحبة، من خطاب الهوية ومحتواها؟ وكيف تغير من قيم الأشياء والرموز والخطاب الشعري والشعبي؟ وهي القادرة على كسر الصورة النمطية والرموز للأشياء جميعها.... 

أجل...لقد وضع "العدوان" الأخير أوزاره على أرض غزة، وتوقفت أصوات المدافع والصواريخ بدويها... على الأرض، وتبدد الدخان الكثيف المتلبد... ولا زال... في السماء... لا دوي واضح صاخب يُسمع الآن في غزة، ولا صوت مسموع يعكر صفو نوم أهلها، ولا انفجار يوقظ أهلها... قسراً... ليجعلهم يكتشفون أنهم أصبحوا مبتوري الأطراف وفاقدي البصر والأهل... والذكريات... يعم الهدوء إذاً أرض غزة الخارجة من معركتها... والداخلة إلى أخرى....

يُقال، أفضل ما في الحرب، هو انتهاؤها... ولكن... ليس في غزة....فالدوي لا زال يصدح في روح أهلها، لكن بدوي مختلف... ففي غزة... حين تنتهي الحرب... يعني أن هناك إيذان بحرب أخرى قد بدأت... فهناك ضجيج آخر لا زال يُسمع دويه الأصم، لكن أحداً لا يسمعه... ولا زالت الأعضاء تُبتر ولكن أحداً لا يحسها، ولا زالت العيون تُفقأ والآذان تُصم، والذكريات تتبدل والصور تتشوه... ولكن أحداً لا يسمع ولا يرى.... انتهت حرب الأرض.. وبدأت معركة النفس والروح..

ينهمر تشرين الثاني أمطاراً على أهل غزة وكرفاناتهم البديلة "مؤقتاً" –يقال-، ولكنهم ما عادوا يرونه خيراً، ولا يبقى ما يجول في خواطرهم وآذانهم وهم يسمعون "دوي" المطر القاسي هذا الشتاء، سوى إجابتهم وفهمهم عن "أي حزن يبعث المطر؟...وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر، وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع... بلا انتهاء- كالدم المراق، كالجياع، كالحب، كالأطفال، كالموتى- هو المطر!".٢

من قال إذن، أن الصورة النمطية، للطبيعة حتى... لا تنكسر... الحرب قادرة على كل شيء.... فها هي رمال غزة التي ما خُلقت يوماً لتشهد مآتم لا تُمحى ذكراها... وإذ برمزيتها تنكسر فتفقد جمال صورتها وذكرياتها... وكذلك البحر... والمطر...

عن أي نهاية عسانا نتحدث... ونحن لا زلنا نجهل كيف سينتهي الدوي الداخلي الصارخ عمق الألم... من سينسي الأطفال جراحهم، من سيعيد لهم أمهاتهم وآباؤهم وأخوتهم... وذكرياتهم... من سيعيد ابنا لأمه، وأخاً لأخيه، وزوجةً لزوجها، وحفيدً لعائلته... والذي كان أملهم باستمرار العائلة وبقائها... من يُنسي الرجال دموعاً جذلى ذرفت... ومن ينسي كل هؤلاء وغيرهم، أماكن تبدلت صورتها... 

في غزة... وبعد كل حرب... لكأن الأمكنة جميعاً تصلح لأن تكون مزاراً وأضرحة.... فيختلف شكل الطل والمزار، وكذلك الحكاية... وكم في غزة من أطلال تروي فصولاً من الآلام والذكريات، وحكايا ضحاياها... تحسبها صامتة، ولكن، كلها حكايات...

يتوقف ضجيج العالم الصاخب "المدوي" لأجل غزة... عن غزة... وينحصر الحديث عن عملية إعمار منشآتها وصروحها، ومحاولة بائسة لإعادة ما كان، إلى ما كان عليه، محاولة إعمار بيت ليؤوي عائلة فقدت معظم أفرادها فلربما لن تجد ساكناً له... ولكن، من للروح ليرممها ويعيد لها ما كان... كما كان؟ عن أي إعمار تحديداً عسانا نتحدث وسنتحدث... هو إعمار ما لا يعمر...

يهيج البحر مرة أخرى وأخرى ودون إنذار... إذ تدري أعماقه يقيناً، بأن كل شيء لازال مستهدفاً في غزة... السائر في أزقة غزة وعلى شاطئها الآن، يرى حياة تستمر ودبيب أمل لا ينتهي، ووجوه تستقي ابتسامة تدفعها للمضي قدماً... لكن، لا اطمئنان تلمحه في الوجوه ولا الأنفس، ذلك أن وجه الحياة اليوم، قد يتبدل في أيما لحظة، وموجة... وأن دوي الحرب وعتادها لا زال يضج عمق الأرض والنفس... والروح... أنّا لبحر غزة أن يهدأ إذاً؟ 

ذات يوم، تساءل ابن دير غسانة وأديبها مريد البرغوثي في رائعته "رأيت رام الله"، حين جن الليل عليه وحيداً غريباً، ذات ذكرى وألم وروح شاحبة، سؤالاً لم تستطع الأيام أن تجد له جواباً عليه... ولربما بات أهل غزة يسائلون أنفسهم السؤال ذاته، كلما انبثق نهار وشحب ليل، كلما هاج بحرهم واشتد موجه ليضرب قوارب صياديها الذين برغم كل شيء، عزموا على ركوب البحر مراراً ومراراً، لأن مد البحر وجزره لا يهدأ... ليؤكدوا، بأنه وبرغم انتهاء الرحلة باللاشيء، لكن سلوكهم المتمثل في عنادهم وإصرارهم على العودة إلى البحر مرة أخرى برغم كل شيء، هو ما "يرجَّح كفة الوجود على كفة العدم"٣... كلما طالع أهل غزة وجوه بعضهم، يُسمع سؤال مريد مُدويّاً في أرواحهم... إذ تساءل يومها: ما الذي يَسلب الروح ألوانها؟ ما الذي، غير قصف الغزاة، أصاب الجسد؟

حرب غزة...لم تنته بعد....

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*وسام محفوظ: طالبة دراسات عليا في جامعة بيرزيت-دراسات دولية-تركيز لاجئين وهجرة قسرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1.  القرآن الكريم، سورة الطور، الجزء 27، الآية 6 (المدينة المنورة: مجمع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1413ه)، 523
  2.  بدر شاكر السياب، قصيدة أنشودة المطر (بيروت: دار مجلة الشعر، 1960)، الطبعة الأولى
  3.  رضوى عاشور، في النقد التطبيقي: صيادو الذاكرة (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2001)، الطبعة الأولى، 29