حق العـــودة، هــو حقنــا الأول والأخيـــر

بقلم: د. عـبد الله الحـوراني
الرســالة الأولــى

بتاريخ 22 كانون أول من عام 2000، وعندما كانت المفاوضات تجري في طابا بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، كتبت مقالة ـ نُشرت على نطاق واسع في الصحافة المحلية والعربيةـ تحت عنوان "رسالة لاجئ فلسطيني إلى أخيه المفاوض" حملت ثوابت الرؤية الفلسطينية تجاه حق العودة، من تمسك به، وإصرار عليه، ورفض لمبدأ التوطين أو التعويض أو المساومة على هذا الحق، أو مبادلته بأية حقوق أخرى. وكان من بين ما جاء في هذه الرسالة: "إنهم سيحاولون مقايضتك بأن يعرضوا عليك جزءً من القدس أو الحرم الشريف، مقابل تنازلك عن حق اللاجئين في العودة، فقل لهم: القدس جزءٌ من القضية، لكن عودة اللاجئين هي القضية كلها. والقدس قطعة من الوطن، واللاجئون هم الوطن كله. ولا يعني ذلك المفاضلة بين القضيتين، ولا تقديم إحداهما على الأخرى من حيث الأهمية، وإنما لتأكيد أهميتهما معاً، ومكانتهما لدى شعبنا العربي والفلسطيني. ولا نقصد بذلك وضع عودة اللاجئين عقبة في طريق عودة القدس، إن كانت هناك إمكانية لاستعادة القدس أو أي جزء منها. ولا عقبة في طريق إقامة الدولة المستقلة، إن كانت هناك إمكانية لإقامتها. وإن شعبنا سيرحب بإنجاز أي حق من حقوقه، لكنه لن يقبل أن يمر طريق الدولة أو القدس، عبر التضحية بحق اللاجئين في العودة، أو التنازل عنه".

وجاءَ في الرسالة أيضاً: "إنهم سيساومونك على التعويض عن ثمن الأرض، فلا تقبل به. ذلك أن الوطن ليس قتيلا حتى نقبل دية فيه. فأرضنا ما زالت ماثلة أمام أعيننا بكل نبض الحياة فيها. وكل الحنين لعودة الأهل إليها". وجاء في ختام الرسالة، "إنه بغض النظر عما يُقال من أن الأوضاع والمواقف السياسية الإسرائيلية والدولية القائمة تشير إلى أن تطبيق حق العودة غير متاح الآن، فإن ما يجب على كل الأطراف معرفته هو أن التفريط في حق العودة غير مباح أبداً. وفي وعيك لهذه المسألة  ـ أيها الأخ المفاوض ـ وتمسكك بها، يكمن فصل الخطاب. بل إن موقفك من هذه القضية، هو الذي يحدد موقفنا منك. فهذه القضية هي البند الأساسي في العقد الموقع بين منظمة التحرير وشعبنا الفلسطيني. والإخلال بها يبطل صحة هذا العقد، ويمس بقاعدة الوحدة الوطنية التي قامت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، ويفتح الطريق أمام القوى المتربصة بوحدة شعبنا للعبث بهذه الوحدة. والطعن بشرعية التمثيل. فلنوصد هذا الباب في وجه هؤلاء المتربصين. ونظن أن مغلاق الباب هو الآن بين يديك، فاحرص عليه".

الرسالــة الثانيـــة

أما الرسالة الثانية التي حملت نفس العنوان تقريبا "رسالة لاجئ فلسطيني إلى أخيه أبي مازن". فقد كتبت ونشرت ووجهت للأخ أبو مازن في 30 كانون الثاني من العام 2005 أي بعد تسلمه مقاليد السلطة ورئاسة منظمة التحرير، وبعد زيارته لمخيمات الشتات في سوريا ولبنان. وقد حملت نفس مضامين الرسالة الأولى. وقد جاء فيها أيضاً تنبيه للأخ أبو مازن لخطر فلسطيني داخلي على حق العودة، يتساوق مع الخطر الإسرائيلي والخارجي، ويتزامن معه، ويتمثل في مواقف وتصرفات شخصيات قيادية في أعلى هيئة قيادية فلسطينية (اللجنة التنفيذية للمنظمة) ومسؤولين في السلطة. يتفاوضون على حق العودة من وراء الشعب الفلسطيني، ويقدمون مبادرات، ويوقعون اتفاقات تنتهك حق العودة، مع أطراف إسرائيلية. وطالبناه ـ كما سبق أن طالبنا الشهيد الراحل أبو عمار، بوقف هذه التحركات والتصرفات، وردع أصحابها ومحاسبتهم.

ومما جاء في رسالتنا للأخ أبو مازن: "حين يطرح عليك الإسرائيليون موضوع توطين اللاجئين في الخارج، فجوابنا وجوابك عليهم هو أن شعبك رفض ذلك منذ سبعة وخمسين عاماً، ولو أرتضى لنفسه وطنا بديلاً، وأرضاً غير أرضه، لما انتظر كل هذه المدة، ولما احتفظ بصفة اللجوء، واحتمل عذاباته كل هذي السنين. وإن تحججوا بأن فلسطين هي أرض الميعاد. فقل لهم: إن كان لابد لطرف أن يعترض على وجود الآخر، فنحن من يعترض، لأننا أصحاب الأرض وهم الطارئون. وإن تذرعوا بأن مساحة أرض فلسطين لا تتسع لنا ولهم، فإن مقولتهم تسقط حين نشير إلى أن 80 % من مساحة الأرض التي تقوم عليها إسرائيل لا يعيش فيها الآن أكثر من 20 % من اليهود. أي أن غالبية الأرض شبه خالية من السكان، وهي تتسع لمالكيها الحقيقيين، الأقدر على إعمارها واستثمارها، وهم الأولى بها من أولئك الأغراب الذين تستوردهم حكومة إسرائيل كبضاعة بشرية من أصقاع روسيا، أو أدغال أثيوبيا، أو أنحاء أمريكا اللاتينية. لولا النظرة العنصرية التي يتعامل بها قادة إسرائيل مع الآخرين".

وجاء أيضاً "سيحاولون تشويه معنى العودة، وتحريف مفهومه، بحصره في الحديث عن عودة لاجئي الخارج فقط، أو جزء منهم، إلى مناطق السلطة أو الدولة الفلسطينية. وردنا على ذلك، أن لأي فلسطيني من أي مكان، الحق في القدوم إلى الدولة الفلسطينية، والإقامة فيها، وحمل جنسيتها، وذلك أمر خارج نطاق التفاوض. أما عودة اللاجئين، فلها مفهوم واحد ومحدد، هو عودتهم إلى أراضيهم وممتلكاتهم التي هجروا منها عام 1948. وذلك ينطبق على لاجئي الخارج، كما ينطبق على لاجئي الداخل الذين يصل عددهم إلى مليوني لاجئ يقيمون في الضفة والقطاع. كما يخص هذا الحق أولئك المهجرين من قراهم ومدنهم من أهلنا في الجليل والمثلث والنقب، والذين يزيدون عن ربع مليون إنسان".

وقد أوضحنا للأخ أبو مازن أننا ندرك حجم العقبات التي تقف الآن في طريق تمكين اللاجئين من ممارسة حقهم في العودة إلى أراضيهم وممتلكاتهم، لكن هذه الظروف لا يمكن أن تقنع شعبنا بعدم الإصرار على ضرورة إقرار إسرائيل، واعترافها بحق جميع اللاجئين المشروع في العودة، كمسألة مبدئية وثابتة. وتبقى مسألة تطبيق هذا الحق هي موضوع البحث من حيث آلية التنفيذ، وكيفيتها، والمدة التي تستغرقها، وتوفير شروط استيعابهم وتأهيلهم في أراضيهم الأصلية، والأعداد التي يمكن استيعابها سنوياً، حتى لو استغرق الأمر سنوات وسنوات. وبذلك نكون قد ثبتنا حق العودة من جهة، وقطعنا الطريق، من جهة أخرى، على ادعاءات إسرائيل بعدم قدرتها على استيعاب ملايين العائدين، وفضحنا، في كل الحالات، منطقها الاستعماري العنصري الذي هو أساس المشكلة.

إهتمـام الصحافـة الإسرائيليــة

لقد اهتمت الصحافة الإسرائيلية بهذه الرسائل، وعلقت عليها، مشيرة إلى مدى تمسك الشعب الفلسطيني ولاجئيه بحق العودة. وكان من أهم هذه التعقيبات ما كتبه الصحفي الإسرائيلي "داني روبنشتاين" في صحيفة "هآرتس" بتاريخ 30 كانون ثاني 2001 قائلاً، عبد الله الحوراني يقول: "إن عناويننا الدائمة كلاجئين، واحدة وثابتة، وهي ليست حيث نعيش في مخيمات الداخل أو الشتات أو خارجها، وإنما هي منقوشة على جذور الأشجار التي بقيت تحرس أرضنا، وتضرب عميقاً فيها، أو في نبتة صبر تخز أشواكها كل من يريد اقتلاعها. وتدل عليها عظام الآباء والأجداد التي رفضت الرحيل، وبقيت تؤنس بعضها بعضاً، وتتواصل أرحامها حتى يعود إليها الأبناء والأحفاد الذين طال بهم الغياب".

ويعقب داني روبنشتاين على قول الحوراني: "إن إسرائيل تستورد مجموعات ضخمة ومتتالية من الأجانب من أصقاع روسيا وغابات أفريقيا حتى تسد طريق عودتنا" بالقول: "إن هذه العبارات تخلق انطباعاً بأن حلم الفلسطينيين في العودة هو شيء حقيقي جداً، ويمكن تحقيقه فعلاً. وما دام هناك مساحات شاسعة ممتدة من الأراضي الفارغة داخل حدود الخط الأخضر في دولة إسرائيل (كما يقول الحوارني). وما دامت إسرائيل تستوعب مئات الآلاف من غير اليهود، فلماذا لا تعود الجماهير الفلسطينية اللاجئة التي اقتلعت من أرضها في عام 1948 إلى أرضها؟

ويضيف: الحوراني يذكر أخاه المفاوض مع إسرائيل "إن بيننا وبينك عهداً تعهدت فيه باسترجاع حقوقنا، وهذا العهد وقعنا عليه مع منظمة التحرير عندما نالت تفويضنا لها بأن تمثلنا. حتى أن الحوراني هنا يوجه تهديداً ضمنيا لعرفات (يجب عليك الالتزام بشروط العهد، وإلا تحملت عواقب الإخلال به)".

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتابع فيها الصحافة الإسرائيلية تحركاتنا ونشاطاتنا السياسية والفكرية في مجال الدفاع عن حق العودة . فقد كتب داني روبنشتين نفسه مقالة في حزيران 1996 تحت عنوان "الحوراني يفجر قنابل في المخيمات المنسية" ، وكان ذلك تعقيبا على الحركة النشطة التي نظمناها في قطاع غزة قبل أحد عشر عاما من الآن (عام 1996) لتوعية وتعبئة وحشد اللاجئين في مخيمات القطاع ومدنه للتمسك بحقهم في العودة والدفاع عنه. والتي نتج عنها تشكيل اللجان الشعبية للاجئين في مخيمات القطاع. وكان هذا التحرك من أوائل التحركات الشعبية الفلسطينية لتوعية اللاجئين وتنظيمهم للدفاع عن حقوقهم، وتشجيع كل الساحات التي يتواجد فيها الفلسطينيون في الداخل والخارج لخلق مثل هذا الحراك السياسي الشعبي، والربط بين حقوق اللاجئين في الداخل والخارج، ونفي المفاهيم التي يسوقها البعض، والتي تلغي حقوق لاجئي الداخل في العودة باعتبارهم يعيشون على أرض فلسطينية.

وقد أثارت مثل هذه التحركات قلق الإسرائيليين، مما دفعهم لوصفها بالقنابل المتفجرة في المخيمات. كما دفعتهم للضغط على السلطة الفلسطينية لوقف نشاطاتي، واستبعادي عن هذا الميدان، والضغط على مجموعات الشباب التي تشاركت معها في خلق هذه الحركة. لكن ذلك لم يحل، بالطبع، دون مواصلتي العمل حتى الآن، في هذا الميدان، سياسياً وفكرياً، داخل الوطن وخارجه، وبالتواصل مع الهيئات والجمعيات الناشطة في هذا المجال، لتطوير وتعزيز الحركة الشعبية للدفاع عن حق العودة.

الرسالــة الثالثــة

اليوم، وفي ظل تنامي الحديث عن قضية اللاجئين وحقهم في العودة، في سياق التحركات والاتصالات واللقاءات الجارية تحضيراً لما يسمى مؤتمر السلام الدولي الذي سيعقد في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني القادم، أكتب رسالتي الثالثة. وقبل أن أبدأ في كتابة الرسالة، أقدم لها بذكر بعض الوقائع والمواقف التي يمكن أن تشكل ورقة بأيدينا نحاسب كل من يخرج عن مضامينها.

أولاً: قبل أن يتوجه الأخ أبو مازن إلى اجتماع كامب ديفيد في تموز (يوليو) 2000، بصحبة الشهيد ياسر عرفات، اتصلت به هاتفيا مذكراً إياه بضرورة التمسك بحق العودة. فكان جوابه، وقبل أن أسترسل في الحديث. "تقطع يدي ولا أتنازل عن حق العودة". فكان هذا الجواب هو أقصى ما يمكن أن أتوقعه أو أطمح إليه.

ثانيا: وبعد عودته من كامب ديفيد، التقيته فروى لي قصة حدثت أثناء المفاوضات بحضور الوفود الثلاثة، الأمريكي برئاسة كلينتون، الإسرائيلي برئاسة باراك، والفلسطيني برئاسة عرفات. وكان الموضوع المثار هو موضوع اللاجئين، وكان البعض يولي اهتماماً أكبر بقضية لاجئي لبنان نظراً لأوضاعهم الصعبة. وعندما تدخل أبو مازن في الحديث قال: إن حقوق اللاجئين في العودة إلى أراضيهم متساوية إينما كانوا، وبجميع أعدادهم، وأن الاجتماع لو أقر بحق العودة لأربعة ملايين لاجئ، ورفض حق العودة لبقيتهم فإنه لن يوافق. عندها صرخ كلينتون مستغرباً ومتسائلاً عن سبب هذا الموقف؟ فأجابه أبو مازن: "إنه لو تم استثناء مائة ألف لاجئ فقط من حقهم في العودة، فإن ذلك لن يحقق السلام في المنطقة، لأن هؤلاء سيستمرون في النضال من أجل حقوقهم". وأضاف: "إنه يجب الاعتراف والإقرار بحق جميع اللاجئين في العودة. أما آلية العودة وكيفيتها، وتنظيمها، وفحص رغبة العودة أو عدمها عند كل فرد.. فذلك كله يتم من خلال المفاوضات".

ثالثاً: أما الواقعة الثالثة فهي ما أعلنه الأخ أبو مازن في مقابلة صحفية جرت معه مؤخراً "من أنه ابن منطقة الجليل (صفد) ومن حقه أن يعود إلى أرضه".

لو تم اعتماد هذه المواقف كأساس للتعاطي مع حق العودة، فإن ذلك يخلق نوعاً من الاطمئنان والثقة لدى المواطنين الفلسطينيين بشكل عام، واللاجئين بشكل خاص.

لكن ما يجري تداوله هذه الأيام من أحاديث ومواقف عن حق العودة لدى الجانبين الإسرائيلي والأمريكي، وبعض الأوساط التفاوضية الفلسطينية، في إطار التحضير للمؤتمر أو الاجتماع الدولي الذي سيعقد في أواخر تشرين الثاني، يتناقض تماماً مع هذه الأسس، وهو ما يثير تساؤلات كثيرة، ومخاوف كبيرة حول كيفية تعاطي هذا المؤتمر مع حق العودة، والنتائج التي قد تصدر عنه.

هذه المخاطر والتخوفات هي عنوان رسالتي الثالثة، وموضوعها. وهي رسالة موجهة للأخ الرئيس أبو مازن، والمفاوض الفلسطيني، والهيئات الشعبية الناشطة في مجال الدفاع عن حق العودة، وللاجئين عموماً، والشعب الفلسطيني بأسره.

إن الأحاديث الجارية تبدأ بتسويق فكرة اعتماد مبدأ الدولة القومية، كأساس للحل أي اعتراف الفلسطينيين والعرب بإسرائيل وطنا ودولة قومية ليهود العالم كلهم. مقابل أن تعترف إسرائيل بالدولة الفلسطينية وطناً قومياً للشعب الفلسطيني. وهنا نقطة الحذر الأولى التي يجب أن نتنبه لها جميعاً، فبمثل هذه المقارنة غير المتوازنة، وغير العادلة أو المنصفة استطاعت إسرائيل في اتفاقات أوسلو أن تجر الطرف الفلسطيني إلى مصيدة الاعتراف بحقها في الوجود، مقابل اعترافها فقط بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً للشعب الفلسطيني، ودون اعتراف صريح بالحقوق الفلسطينية الأخرى وفي مقدمتها حق العودة، إذ تركت جميعها للتفاوض على الحل النهائي.

إن حق الشعب الفلسطيني في أن تكون له دولة مستقلة على ترابه الوطني هو حق طبيعي ومشروع، ومن الطبيعي أن تكون هذه الدولة عند قيامها ملكاً لكل أبناء الشعب الفلسطيني، وراعية لهم ولمصالحهم وحقوقهم أينما تواجدوا. لكن تحقيق هذه الدولة يجب ألا يكون على حساب الحقوق الأخرى أو مقايضتها بها أو المساومة عليها. فالاشتراط الذي تضعه إسرائيل اليوم وتسعى لتحقيقه، وهو الاعتراف بإسرائيل وطناً قومياً لليهود فقط، سيكون اعترافاً بعنصرية إسرائيل وعرقيتها، "مع أن اليهودية ليست قومية، بل هي ديانة تسرب منها وإليها الكثير من أبنائها عبر الزمن. واليهود ليسوا عرقاً أو سلالة، بل هم أخلاط عرقية".

كذلك فإن اعتراف الأمم المتحدة بدولة إسرائيل في حدود قرار التقسيم رقم 181، لم يكن على أساس قومي أو عرقي أو عنصري، فقد نصت بنود هذا القرار على ضمان الحقوق السياسية والدينية والثقافية للعرب الفلسطينيين الذين أوقعهم قرار التقسيم داخل حدود الدولة الإسرائيلية، والذين كان عددهم لا يقل عن عدد يهود الدولة الإسرائيلية حينها بأكثر من 30-40 ألف نسمة. بل إن قبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة كان مشروطاً بقبولها تنفيذ قرار التقسيم رقم 181، والقرار 194 الذي ينص على عودة اللاجئين إلى أراضيهم وممتلكاتهم التي طردوا منها. وهذه الشروط تنفي شرعية قيام دولة دينية أو عرقية لليهود. وبالتالي فإن مطالبة إسرائيل بالاعتراف بها كوطن قومي أو ديني لليهود وحدهم، مخالف للشرعية الدولية، وهو ما يجب أن يعيه الجانب الفلسطيني، ويتمسك به.

وإسرائيل بطرحها هذه المطالب، وإصرارها عليها تريد أن تلغي حق اللاجئين في العودة، وأن تقفل أبواب العودة في وجوههم. بل إنها تريد أن توفر أرضية قانونية وسياسية لترحيل وطرد العرب الفلسطينيين الذين يعيشون في دولة إسرائيل. وهذه أمور يجب أن يتنبه لها المفاوض الفلسطيني، وأن يحذر من الوقوع في فخها. وعليه أن يدرك أن شعبنا الفلسطيني لا يمكن أن يقبل بها، ولا يمكنه أن يسمح لأي مفاوض أن يساوم على هذه الحقوق الثابتة والخالدة.

ولتنفيذ مخططها هذا تستغل إسرائيل لهفة الجانب الفلسطيني وسعيه للحصول على دولة مستقلة، واستعداده للقبول بها إلى جانب دولة إسرائيل في حدود الرابع من حزيران عام 1967. وتسعى إلى جره إلى القبول بأن مفهوم الدولتين يعني دولتين لشعبين. وهذه خديعة أخرى لتسويق مفهوم العرقية والعنصرية، تتناقض تماماً مع مفاهيم الديموقراطية التي تدعيها إسرائيل، أو التي يتبجح بها جورج بوش، والتي يقوم بتدمير العالم، والهيمنة عليه من أجل نشرها كما يدعي. إذ لا توجد دولة واحدة في العالم ينص قانونها أو دستورها على أنها تخص عرقاً معيناً، أو ديانة واحدة. وليس هناك قبول أو اعتراف متبادل بين أي من دول العالم على أسس عرقية أو دينية. فلماذا تخص إسرائيل وحدها من بين دول العالم بهذا النوع من الاعتراف؟

كما تتناول بعض الأحاديث السياسية والصحفية إمكانية اعتراف إسرائيل بجزء من المسؤولية عن خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وعن معاناتهم شريطة ألا يعني ذلك اعترافها بحقهم في العودة أو استعدادها لقبول عودتهم. وإنما يمكن تعويضهم مادياً، وتحسين أحوالهم المعيشية.

وللرد على ذلك نقول: إن الاعتراف بجزء من المسؤولية عن خلق مشكلة اللاجئين (مع أن كل المسؤولية تقع على عاتق إسرائيل التي احتلت أراضيهم وطردتهم منها) يعني تحمل نتائج هذه المسؤولية وتصحيحها، والعودة عن الخطأ والجريمة التي ارتكبت بحقهم، وإعادتهم إلى ديارهم التي طردوا منها. وليس فقط بالاعتراف بمعاناتهم. فمعاناة اللاجئين لا توقفها أو تنهيها إلا عودتهم إلى ديارهم، وتعويضهم معنوياً ومادياً عن كل الآلام والجرائم والمذابح التي ارتكبت بحقهم على مدى ستين عاماً تعرضوا خلالها لأقسى أنواع العذاب، وعن استغلال إسرائيل واستثمارها لأراضيهم وممتلكاتهم خلال هذه الأعوام الستين. أما أرضهم فهي ملكهم وحقهم، وهي خارج نطاق التعويض.

وإذا كانت إسرائيل تراهن على أنها يمكن أن تخدعنا بالتنازل عن جزء من القدس أو الحرم الشريف، أو السماح بإقامة دولة فلسطينية وفق الشروط الإسرائيلية، مقابل تنازلنا عن حق العودة. وبذلك تحل القضية، وينتهي الصراع، ويتحقق السلام.. فإن شعبنا أوعى من أن يقع في هذه الخديعة. وعلى إسرائيل، وكل الدول التي تشارك في المؤتمر أن تدرك (وهو ما يجب على المفاوض الفلسطيني أن يدركه ويتصرف على أساسه) ما يؤمن به شعبنا من أنه لا القدس ولا الدولة الفلسطينية يمكن أن تكونا بديلين لحق العودة. فحق العودة هو حقنا الأول والأخير.

وانطلاقاً من هذه الرؤية، وعلى أساسها يجب أن يتم اختيار المفاوض الفلسطيني، وأن تكون وطنيته، ونقاء مواقفه وكفاءَته هي مقياس أهليته لاختياره لمثل هذه المهمات. وهذا سؤال تطرحه الأوساط الشعبية: هل تم اعتماد هذه المقاييس عند اختيار الفريق المفاوض؟ أم أن منهم من تتعارض مواقفه مع هذه الثوابت، وسبق له أن أقدم على خطوات لقيت إدانة ورفضاً من قبل الجماهير الفلسطينية؟ وهذا ما قد يثير القلق والمخاوف، من النتائج التي قد تنجم عن المفاوضات. ويجعل الاستفتاء على هذه النتائج غير واقعي ولا عادل، فأي قضية تعرض على الاستفتاء يجب أن توفر لها كل عوامل النجاح وأدواته، حتى تكون القضية المعروضة للاستفتاء مستجيبة وملبية للاحتياجات الوطنية، ومؤهلة لاستقطاب المواطنين وتجاوبهم للاستفتاء عليها، وإلا فإن غياب المضمون الوطني، أو أي مساس بالثوابت الوطنية، في أي قضية، يجعلها غير قابلة للاستفتاء.

وإذا أخذنا موضوع حق العودة كمثال، فهل هو كحق يمكن قبول أصحابه بالاستفتاء عليه؟ أظن أن الجواب واضح ومحدد، الحقوق لا يستفتى عليها، وهذا ما هو معروف وثابت قانونياً وسياسياً وأخلاقياً على مستوى العالم. فالاستفتاءات لا تجري على الحقوق، وإنما على السياسات وآليات التنفيذ. وفيما يتعلق بحق العودة فإن له خصوصية أخرى، فهو بالإضافة لكونه حقاً وطنياً عاماً للشعب الفلسطيني، فهو حق خاص وفيه ملكية شخصية لكل لاجئ لا يجوز أن ينوب أحد عن صاحبها في التصرف بها. وبالتالي فإن أي موقف يتعلق بقضية اللاجئين، سواءٌ كان استفتاءً أو قراراً سياسياً يجب أن يكون الرأي الأخير والفاصل فيه للاجئين أنفسهم.

وبصراحة نقول: إن مصدر التخوف على حق العودة ليس محصوراً فقط بالرفض الإسرائيلي له، أو بتراجع الخطاب السياسي الفلسطيني الرسمي تجاهه، أو في التركيز على القضايا الوطنية الأخرى، وإثارة اهتمام المواطن الفلسطيني بها على حساب اهتمامه بحق العودة، أو في تراجع اهتمام النظام الرسمي العربي، (بسبب ضعفه واستسلامه للسياسات الأمريكية) بهذا الحق، وبالقضية الفلسطينية عموماً، حيث يغيب حق العودة غياباً شبه تام عن الإعلام العربي، وعن ثقافة المواطن العربي، مما أدى إلى جهل كبير لدى المواطن العربي حول حق العودة ومعناه ومفهومه وجوهريته بالنسبة للقضية الفلسطينية.. ليست هذه القضايا كلها وحدها ما يثير المخاوف والمخاطر على ضياع حق العودة. بل هناك الحصار والتجويع والقتل والاعتقال الذي يمارسه العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني لإشغاله بهمومه اليومية، وصرفه عن قضاياه الأساسية. وهناك الظلم العربي الرسمي الذي يرتكب ضد مخيمات الشتات وأهلها وتحركاتهم وعملهم، وتضييق الخناق على لقمة عيشهم لدفعهم للتفكير بالهجرة بعيداً عن حدود الوطن. وهناك الواقع الفلسطيني السياسي المنقسم والممزق والمشغول بمصالحه الذاتية والتنظيمية والفصائلية، وهناك المتباكون على حق العودة، الذين يدعون التخوف عليه، ويتهمون الآخرين بالتفريط به، وهم من وجه ضربة قاصمة لهذا الحق عندما قاموا بتمردهم وانقلابهم العسكري ليحظوا بالسلطة، فعمقوا الانشقاق داخل الشعب الفلسطيني، وزادوا من صراعاته على المستوى الفصائلي والعشائري، وعمقوا فيه لغة الثأر والكره والحقد والتخوين عبر الثقافة التي تنشرها وسائل الإعلام.

أمام كل هذه المخاطر، المتعددة الجوانب والأطراف، التي تهدد حق العودة أختم رسالتي بتساؤل حول دورنا نحن أطراف الحركة الشعبية الفلسطينية المدافعة عن حق العودة، إن كان يتناسب مع حجم هذه المخاطر؟

بصراحة أقول: إن دورنا لم يرتق، ولم يصل إلى الحد الذي يجعلنا قادرين على درء هذه المخاطر، وحماية حق العودة. صحيح أن حركتنا نمت، واتسعت، وتزايدت هيئاتها ولجانها في كل مناطق الوطن والشتات، ونجحت في عقد وتنظيم العديد من المؤتمرات والندوات واللقاءات حول حق العودة. وساهمت في التوعية ونشر ثقافة العودة عبر العديد من الكتابات والنشرات. ولكن هذه الحركة ما تزال غير موحدة، وتفتقر إلى التنسيق بين أطرافها، سواءٌ على مستوى كل ساحة، أو على النطاق الأوسع. ونشاطاتها غير منتظمة، وأغلب فعالياتها تقتصر على المناسبات وردود الأفعال، وبرامجها غير موحده. ورغم العديد من المحاولات والمطالبات التي جرت لإيجاد إطار تنسيقي موحد يجمع بين كل الأطراف داخل كل ساحة، وعلى المستوى العام، بهدف خلق حركة شعبية واسعة وموحدة ومتطورة تشكل، بموقفها وجهودها ونشاطاتها، سداً منيعاً في مواجهة هذه المخاطر، بل وتضع هي برنامجاً نضاليا وتطبيقيا للعودة تفرضه، بقدراتها الشعبية وقوتها، على القيادة السياسية، حول كيفية التعامل مع حق العودة. لكننا، وللأسف الشديد، ورغم تجاوب العديد من هيئات حق العودة، لم ننجح في إنجاز هذه الخطوة، ربما لرؤية تقوم على المصالح التنظيمية والفصائلية عند البعض، وربما لرؤية ذاتية وشخصية ضيقة عند أطراف أخرى تحرص أن يتم ذلك فقط من خلالها، وبإشرافها، ووفق رؤيتها.

المخاطر تشتد، والخناق يضيق، والوقت يمضي، وأرجو ألا يأتي اليوم الذي نندم فيه حين لا ينفع الندم.. اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.

__________________

الكاتب والمفكر الدكتور عبد الله الحوراني هو رئيس اللجنة السياسية في المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس المركز القومي للدراسات والأبحاث. الحوراني عضو سابق في اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية، إستقال منها احتجاجا على التوقيع على اتفاق أوسلو.