الحرب على غزة: أبعادها وتبعياتها

بقلم: صلاح صلاح*

لا شك ان الحرب على قطاع غزة هي العنوان الأبرز للجرائم التي يرتكبها العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وتتجلى هذه الوحشيةبارتكابه للمجازر ضد المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ. إن الطبيعة العنصرية للعدو الإسرائيلي تظهر في خوضه لحرب إبادة ضد المواطنين الفلسطينيين، حرب يستخدم فيها أدوات تدمير كالدبابات وصواريخ الطائرات - اميركية الصنع - اضافة للقصف من البوارج البحرية.

 انتهك العدو فى حربه على سكان غزة كل القوانين والمبادئ الإنسانية وتجاوز القيم والضوابط الأخلاقية في قصف مؤسسات المجتمع المدني. فهاجم المدارس التى لجأت اليها العائلات المدمرة بيوتها، والمستشفيات التي تستقبل الجرحى وجثامين الشهداء وجلهم من المدنيين، وبيوت العبادة، ودمر البنية التحتية، كشبكة الكهرباء، أما شبكة الماء فقد اصبحت ملوثة بشكل شبه كامل.

إن الإطار العام للجرائم والمجازر الصهيونية العنصرية فى قطاع غزة يتمثل ببعدين أساسيين:

 الاول، أنها تعطي وقائع جديدة لما سبق وأرتكبه العدو الإسرائيلي فى حروبه السابقة ضد القطاع منذ 1955- 1956 حتى 2008- 2009 و2012، وقبل ذلك ما ارتكبته الحركة الصهيونية فى سياسات التطهر العرقي بدعم من الانتداب البريطاني لطرد الفلسطينيين من أرضهم. هذا العدو الذي ارتكب ويرتكب الفواحش والفظائع على كامل ارض فلسطين وضد شعبها، تظهر وحشيته باستعمال  المزيد من فنون وآليات التدمير والقتل المبتكرة ليروي عطشه من دماء المواطنين، كتدمير بيوتهم فوق رؤوسهم، واستهداف الأطفال الذين يلعبون في باحة المدرسة او على رمال شاطئ البحر. كذلك فعل فى جنوب لبنان وضاحيته، كما في مدرسة بحر البقر، وسيناء، وفي مصر.

هذا العدو العنصري المحكوم بشكل ممارساته إلى ايديولوجيته الصهيونية التي أدينت فى محافل دولية فى الامم المتحدة، وفى ديربان بجنوب افريقيا، وفي بورتو اليجيرى، بأنها عنصرية، الا يجب أن يقف ضحاياه خاصة الفلسطينيون، أمام أسئلة أساسية وهي: كيف نواجه هذا الكيان الصهيوني؟ وكيف نحمي أنفسنا من عنصريته البربرية الإرهابية التي لا تعطي وزناً للقيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية؟

كيان وُجد بالحرب ويرى ضمانة استمراره بالحرب، فهل يمكن مواجهته بغير المقاومة "الحرب"؟

أما البعد الثاني، الذي يجب ان نراه في الحرب على غزة فهو أنها استمرار لحرب بدأها العدو الإسرائيلي على الخليل في الضفة الغربية بعد فقدان المستوطنين الثلاثة الذين وجدهم مقتولين على أطراف مدينة الخليل، ثم امتدت إلى القدس، ومنها الى مناطق 1948. هذه الحرب لازالت مستمرة بأساليب أخرى ووتيرة متصاعدة تأخذ شكل المواجهات اليومية بالحجر والمقلاع،  بالمظاهرة والإضراب، بالألعاب النارية وزجاجات المولوتوف. تتفاوت حدة المواجهة من طرف الفلسطينيين، من مكان لآخر (الضفة، القدس، مناطق 48) حسب ظروف وواقع كل منطقة، لكن العدو الإسرائيلي يتبع في المواقع الثلاثة نفس الأسلوب الذي يتبعه في غزة، "العنف" في حدود يتناسب فيها الفعل مع ردة الفعل. ففى مدن الضفة، بما فيها القدس، ومنطقة 48، تقوم القوات الصهيونية بمداهمة بيوت المدنيين واعتقال المواطنين وإطلاق النار على المتظاهرين، فـأستشهد العشرات وأعتقل المئات.
يجب - وأشدد هنا على كلمة يجب - أن يعاد التأكيد على وحدة الشعب والأرض والتداخل بينهما، ونبذ المحاولات التى تسعى إلى تفتيت الشعب فلسطين بين داخل وخارج، او غزة والضفة، والبحث عن حل "للاجئين" كفائض قيمة. الحرب الميدانية المباشرة هي على الفلسطينيين في أماكن وجودهم داخل الوطن، ومواجهة العدو وتحديه يقوم بها الفلسطينيون فى مختلف مواقعهم بوتيرة وأساليب مختلفة. هذا تجسيد مبسط وملموس للمقاومة بأشكال مختلفة ويعطي الرد على مقولة "لا بديل للمفاوضات إلا المفاوضات".

بدأ العدو الإسرائيلي حربه على الفلسطينيين انطلاقا من الخليل باستهداف "حماس" وتحميلها مسؤولية خطف المستوطنين الثلاثة وقتلهم، فقتل واعتقل أعدادا كبيرة من أبناء الضفة، بينهم كوادر وقيادات حركة حماس فى الضفة بما فيهم أعضاء فى المجلس التشريعي، إضافة إلى ناشطين كثر من تنظيمات أخرى وخارجها، ونقل حربه العسكرية إلى غزة تحت نفس اللافتة "حماس". ورغم ان المواجهة للعدوان الإسرائيلي فى غزة تتشارك فيها فصائل فلسطينية أخرى بأجنحتها العسكرية، الا قادة الكيان الصهيوني يصرون على أن حربهم (فى الضفة وغزة) هي ضد حركة حماس. والهدف من ذلك أن يستثمر العدو لصالحه محوراً عربياً، وربما إقليميا ودولياً معادٍ لحركة حماس - الجناح الفلسطيني للإخوان المسلمين-، بل وابعد من ذلك بالنسبة لبعض (الإسرائيليين) الذين بدأوا يروجون بان حركة حماس هي "داعش الفلسطينية". بالإضافة إلى ذلك، يرى العدو بأن الفرصة مواتية لتكريس الانقسام، من خلال الادعاء بأنه يقدم خدمة للرئيس ابو مازن ولحركة فتح التي يتراجع وضعها وتعاني من صراعات داخلية، وأن ضعف حركة فتح قد يؤدي إلى انقضاض حركة حماس لتأخذ مكانها فى الضفة، كما حصل فى غزة، خاصة وان الحديث يتزايد بعد المصالحة بين حركة فتح وحركة حماس باتجاه الضفة لأجراء انتخابات ديمقراطية.

لم تكن التقديرات لوضع حركة حماس بعيدة عن الواقع العربي، فدول المغرب العربي بعيدة، منذ سنوات، عن التأثير في مجريات الأحداث في المشرق، حيث أن لها همومها الداخلية ومشاكلها الأمنية، خاصة فى بؤر الصراعات الدموية فى السودان وليبيا، وبلدان أفريقية أخرى كمالى والنيجر وانعكاساتها على دول الجوار العربي. اما الدول التي دخلت ضمن دائرة الحراك الشعبي "الربيع العربي" مثل تونس، وسوريا، والعراق، فما زالت غارقة فى صراعات داخلية تنخر جسم الدولة ومؤسساتها، وتعاني في مواجهة الإرهاب المصدر إليها عبر الحدود بقوافل المتطرفين من مختلف دول العالم، بدعم من جهات عربية واقليمية. ودول أخرى تتقاسم فيما بينها القوى المستظلة بالإسلام، وتستخدمهم بالشراكة مع قوى إقليمية ودولية للتنافس على النفوذ في المنطقة.
على هذه الخلفية شكل المحوران: المحور الاول، القطري – التركي، الحاضن لحركة الأخوان المسلمين بفروعها المختلفة وبالاخص حركة حماس، والمحور الثانى الذي يضم السعودية، دول الخليج، مصر، والأردن.

شن الحرب باعتبارها ضد "حركة حماس" يعني فى نظر القادة الصهاينة يعني ان اسرائيل ستحصل على دعم المحور الأقوى الذي تقوده السعودية، وتحافظ من خلاله على الشراكة مع مصر في إحكام الحصار على غزة، وتنال رضى قيادة السلطة (ابو مازن)، باعتبار ان كل هذه الأطراف تلتقي حول الرغبة في القضاء على حركة حماس أو إضعافها كحد أدنى.
 ولتجنب تكرار أخطاء سابقة فى حروبها ضد قطاع غزة وفى جنوب لبنان، تواضعت "اسرائيل" فى تحديد أهدافها من الحرب بأنها تريد "تعطيل القدرات العسكرية لحركة حماس"، وضرب البنية التحتية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وللأماكن التي تمكنها من انتاج أسلحة متطورة، وضرب الخصم ضربات لا ينساها لزمن طويل وتردعه من العودة إلى عادته.
والبعض يرى ان هذا التواضع بتحديد الأهداف الذي لا يتضمن تعابير حاسمة مثل "قضاء، إنهاء، وتصفية" يعني ان العدو يريد فعلاً أضعاف حركة حماس وليس إلغاء وجودها، ليحافظ على حالة الانقسام السياسي والجغرافي بين قطاع غزة والضفة، وتكريس الصراعات الفلسطينية – الفلسطينية، وتعطيل مفعول المصالحة بموجب ما سمي "اتفاق الشاطئ" في نيسان 2014 بين حركتي حماس وفتح، مع ان التفاؤل لنجاحه كان ضعيفاً.

حسابات دولة العدوان هي توجيه ضربة قوية مؤذية ومدمرة لقوى المقاومة، تشل فاعليتها وتفرض عليها الالتزام بالتهدئة بشروط جديدة أقسى. ومن خلال ذلك، يتم إجهاض احتمال أن تتطور التحركات الشعبية المنطلقة فى مدن الضفة والقدس ومنطقة 48 إلى انتفاضة ثالثة سترتد على السلطة وتهدد وجودها. كذلك، ففى إضعاف حركة حماس فى القطاع رسالة للسلطة تحمل مضمونين: الأول رسالة ارهاب لسكان الضفة بان اعتبروا مما تعرض له سكان القطاع، وحافظوا على الهدوء والسكينة؛ وإلا سيكون مصيركم مثل مصيرهم، والثاني رسالة الى أبي مازن بأن يتمسك بشعاره الأبدي "لا بديل للمفاوضات إلا المفاوضات"، وان لا يخضع للأصوات التى بدأت تظهر داخل حركة فتح والتي تطالبه بضرورة اعادة النظر في نهجه، خاصة أن هذه الأصوات قد تجد لها صدى مؤثراً في المؤتمر العام للحركة الذي سيعقد قريباً، لذا أسرع يا ابو مازن للاستجابة الى مبادرات قد تطرح لاستئناف المفاوضات.

المعادلة التى يتبعها قادة الكيان، كما في حروبهم السابقة، أن تبدأ الحرب ثم يذهب الفلسطينيون إلى الاستغاثة وطلب المساعدة، وهنا يدخل الوسيط - المصري- يحمل الشروط الإسرائيلية لوقف العدوان، والتي يضطر الطرف الفلسطيني إلى القبول بها، بعد أن يحاول إدخال ما أمكن من التعديلات بموافقة (الإسرائيلي).

بموجب هذه الآلية، وبعد أيام من بدء القوات الصهيونية هجومها الجوي والبحري والبري بأقصى درجات العنف والتدمير، تحت عنوان "الجرف الصامد"، تحركت مصر بطرح مبادرتها التي تدعو إلى وقف إطلاق النار ثم الدخول في مفاوضات غير مباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين حول الشروط التي يطرحها كل منهما (وتمتد كمفاوضات أوسلو).

أيد رئيس السلطة الفلسطينية "أبو مازن" المبادرة، وكذلك قام بجولة لهذا الغرض شملت مصر وتركيا وقطر فيما الغيت زيارته الى السعودية ربما رفضا لاستقباله في حينه. المحور السعودي وحتى أطراف دولية كروسيا والصين أيدوها.

القيادات الفلسطينية الميدانية رفضت المبادرة وبحسم، مستندة إلى تغيير جدي في ميزان القوة فاجأ المعتدين. فلم يعد الفلسطينيون في القطاع يتلقون الضربات، وليس بيدهم حيلة غير الصراخ والاستغاثة، فيدخل الوسيط كمنقذ برضى وتنسيق مع المعتدي.

تعرض العدو (ليس الإسرائيلي فقط) إلى عدة مفاجئات متتابعة من النوع الثقيل والمذهل، أولها امتلاك عدة فصائل فلسطينية، ليس حركة حماس فقط "صواريخ" ذات مدى قصير ومتوسط وبعيد تغطي كامل مساحة فلسطين، وتجعل كل مستوطنة ومستوطن صهيوني وكل منشأة، بما في ذلك المطار ومفاعل ديمونة، تحت مرمى النيران. ولا يستطيع أن يراهن على نفاذها في حرب طويلة مستمرة لأنها متوفرة بكميات كافية وتصنع محلياً. المفاجأة الثانية "الأنفاق"، التي أرهبت المستوطنين الصهاينة كما الجنود لأنها تمكن المقاتلين من الوصول إلى خلف خطوط العدو، وإلى قلب مستوطناته، بالإضافة إلى قيمتها كملاجئ للمقاتلين ومصانع تحت الأرض. والمفاجأة الثالثة "طائرات التجسس". والمفاجأة الرابعة هي "الوحدة الميدانية" الرائعة بين جميع القوى المقاتلة ومستوى التنسيق العالي في غرفة عمليات واحدة توزع الأدوار وتتقاسم الإمكانيات، وتحدد تكتيكات وأساليب المواجهة التي ترهق العدو وتربكه. المفاجأة الخامسة "الصمود الجماهيري" المميز والقدرة الاستثنائية على التحمل، وهم يدركون أنهم مستهدفون بشراً وحجراً ومؤسسات. لا يصرخون، لا يئنون، لا يطلبون النجدة من أحد، ولا يرفعون الراية البيضاء.

كتب أحد المحللين الصهاينة "مطلوب حسم، ليس بمعنى انتصارات الماضي مع الاحتلالات والأعلام البيضاء، فهذا العصر إنتهى". صحيح أن المعطيات الملموسة تدل أن الفلسطينيين في عصر جديد. لسان حالهم يقول: أننا عملياً معرضون للموت يومياً بسبب الحصار ولا يدري بنا أحد، أو على دفعات بالحروب التي يشنها العدو الصهيوني كل بضعة سنوات، ولا أسمع غير الحسرة والترحم. أما وقد امتلكنا القوة والإرادة فخير لنا أن نموت واقفين بعزة وشرف وكرامة على ان نموت بذل ومهانة.

هذا الصمود وما يرافقه من تضحيات وشهداء، هو الذي فتح عين العالم على طبيعة هذا الكيان الصهيوني العنصرية وسياساته الإجرامية البربرية، وفضح سلوك سياسييه وعسكرييه وحتى مواطنيه، وهي طبيعة تخلو من أي قيم أخلاقية ومبادئ إنسانية. هذا ما يفسر حجم المظاهرات والإضرابات والمسيرات في العشرات من عواصم ومدن العالم، بما فيها نيويورك وواشنطن ولندن وباريس ضد سياسة الكيان الصهيوني، وتطالبه بوقف الحرب الهمجية. ولا بد هنا من الإشادة  بشكل خاص الى دول أمريكا اللاتينية حكومات وشعوب لمواقفها المميزة، خاصة فنزويلا وكوبا وبوليفيا.

قادة الكيان الصهيوني السياسيون والعسكريون وجدوا أنفسهم في مأزق، تسارعت الأحداث بغير ما رجوه، لم يعد بمقدورهم الاستمرار في حرب فاجأتهم بالكثير، ولم تجد تهديداتهم العنترية بالهجوم البري لإسكات مصادر الصواريخ وتدمير الأنفاق، وذهبت مع الهواء مطالبة بعض الوزراء بإعادة احتلال القطاع والقضاء على حركة حماس والفصائل الأخرى.

ولم يعد سهلا الانسحاب بلا ثمن. وكالعادة، في مثل هذه الحالة يأتي الدور الأمريكي ومن يستعين بهم لإيجاد المخرج السياسي للحليف الاستراتيجي الأهم في العالم، وتمكينه سلماً من تحقيق ما فشل فيه بالحرب. دخل "كيري" أولا على خط المحور القطري التركي، ودعم المبادرة التي قدمتها الأولى بدعم من الثانية، لا تكتفي بوقف إطلاق النار (المبادرة المصرية) بل تضيف إليها :رفع الحصار، وتحديد جدول زمني لتنفيذ التفاهمات التي يتم الاتفاق عليها بضمانات أمريكية.

بدعمها المبادرة القطرية، تهدف الولايات المتحدة الأمريكية كسر الاحتكار المصري، وتقديم بديل لرفض المبادرة المصرية يوازن بين شروط الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.

 في تقديري أن الهدف الأهم المضمر هو أن "كيري" بحاجة إلى ورقة ضغط تليّن مواقف حركة حماس عند الحاجة، ولا يوجد غير هذا المحور الحاضن للحركة قادر على القيام بهذه المهمة. إذن، لا بأس من أن تحافظ على صلة معه وهي تدرك أن مبادرته لن تثمر، لأن تركيا مشغولة بالانتخابات وما بعدها، ووجّه أعلى رموزها في السلطة اتهامات ظالمة وبتعابير قاسية ضد الرئيس السيسي، يتهم فيها الادارة المصرية بالعمل إلى جانب "إسرائيل" ضد حماس.

وقطر، في صورتها المشوهة نتيجة دعمها للإرهاب التخريبي في سوريا والعراق، واحتضانها للإخوان المسلمين لن تكون مقبولة في حل. استسلم أمير قطر لراعي المحور الأخير السعودي، فاتصل به هاتفيا ثم قام بزيارته باعتباره الأخ الأكبر وأبلغه "ان العين لا تعلو على الحاجب".

بعد ذلك، أخذت المبادرات والتحركات بالتسابق. حيث أعاد الأمريكيون توجيه بوصلتهم نحو مصر، فطرحوا وقف إطلاق النار على أساس تفاهمات 2012. وتطورت المبادرة الأمريكية لاحقاً فحدد المدة الزمنية لوقف إطلاق النار بأسبوع تبقى فيها القوات الإسرائيلية في أماكنها للبحث عن الأنفاق، وتبدأ المفاوضات بين "إسرائيل" وحركة حماس، بوساطة مصرية، وبمشاركة السلطة، وبضمانة الأمريكيين والأوروبيين والأمم المتحدة.

طرح الأوربيون مبادرة أكثر استجابة للمطالب الإسرائيلية: منع تعاظم تسليح حركة حماس وباقي المنظمات، إعادة الأعمار، ونقل المساعدات بإشراف دولي لمنع إدخال المواد المحظورة، وإعادة حضور السلطة ومحمود عباس في قطاع غزة، ووضع مراقبين دوليين على معبر رفح إلى جانب قوات الحرس الرئاسي، وتحويل هذه المبادرة إلى قرار ملزم يؤخذ في مجلس الأمن.

بقي المحور السعودي على موقفه في دعم المبادرة المصرية، وإطلاق يد السيسي في الوصول إلى حل لا تخرج فيه حركة حماس منتصرة.

أطراف أخرى تعتبر نفسها محور المقاومة (إيران، سوريا، حزب الله) اكتفت بإعلان، ليس فقط دعمها للمقاومة في القطاع وصمود وتضحيات شعبه، وإنما تجديد التزامها كشريك في المقاومة ومساهمتها في توفير مقومات المواجهة، تحديداً الصواريخ بأنواعها المختلفة وتكنولوجيا تصنيعها.

ولم يأخذ أحد بجدية أطراف هذا المحور، فكانت مطالب قادة حركة حماس له بإتخاذ خطوات عملية من جنوب لبنان، والجولان. إكتفى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بالإشارة إلى وجود هيئات شعبية في الجولان نفذت العديد من العمليات ضد القوات الصهيونية.

على كل حال، فقد فرضت الجغرافيا نفسها، وأقرت جميع الأطراف وضع الملف بيد النظام المصري، وتحديداً أجهزة المخابرات لتدير حواراً غير مباشر بين الطرفين (الإسرائيلي والفلسطيني)، ولم يخف أي منهما رغبته بوقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب، لكن ضمن شروط لا يكون فيها مهزوما بل تعطيه انتصاراً.

فقادة الكيان الصهيوني لم يحققوا شيئاً مما وعدوا به، اذ لم يقضوا على مصادر الصواريخ، ولم يغلقوا الأنفاق بالكامل، ولم يتمكنوا من اقتحام القطاع براً، ولم يدفعوا المقاومة لرفع الراية البيضاء، ولم يكسروا إرادة الشعب وتحويله من حاضن للمقاومة إلى رافض لها، ولم ينجحوا بإحداث انقسام داخلي فلسطيني، بل أن العكس تماماً هو ما حدث. لهذا يستعين الذين فقدوا مصداقيتهم إلى تعويض فشلهم العسكري بتحقيق نصر سياسي، فيشترطون تجريد القطاع من السلاح وتدمير الأنفاق والإشراف على المعابر، وماعدا ذلك فكل شيء قابل للنقاش، بما فيها فتح المطار، والميناء، والممر البري بين القطاع والضفة.

أما الفلسطينيون فيرفضون أن يتحول انتصارهم العسكري إلى هزيمة سياسية، ويصرون على تحقيق إنجازات تتناسب مع حجم التضحيات والخسائر التي دفعوها لدحر العدوان، وبأن يترافق وقف أطلاق النار مع: ضمانات ألا تتكرر الحرب بعد بضعة أعوام، ورفع الحصار، وفتح المعابر بلا شروط بما في ذلك المطار والميناء بموجب إتفاقات سابقة (غزة –أريحا)، وإعادة الأعمار والتعويض عن الأضرار، وتوسيع مساحة الصيد... الخ.

طرفا الحرب العسكرية واضحان: معتدي (العدو الاسرائيلي) ومعتدى عليه (الفلسطيني)، أما في الحرب السياسية فهناك أطراف عديدة تتدخل للتأثير على نتائج المفاوضات غير المباشرة في القاهرة. هذه التدخلات لن تكون مريحة للفلسطيني لأنها ستضغط باتجاه تجريده من ورقة قوته "وحدته"، البعض سيلعب على ورقة السلطة والآخر سيبقي خطوطه مفتوحة مع حركة حماس، لكن هل ستكون باتجاه تصليب أم تليين لموقف الحركة؟

المضيف المصري سيكون في غاية الحرج، حيث ستمارس عليه ضغوط هائلة لعدم الانحياز للورقة الفلسطينية، وعدم تمكين الفلسطينيين من تحقيق إنجاز سياسي مرادف للإنجاز العسكري، لأن هذا سيوضع في خانة حركة حماس المعادية لمصر ومحورها.

الفلسطينيون ينظرون بحذر وأمل للدور المصري، خاصة وأنه لن يقبل أن يكون ساعي بريد بين الطرفين، بل سيحاول وضع ورقة توافق بين شروطهما. والأخطر، الحديث المسرب والمعلن أن يعاد فتح ملف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، وذلك لتمييع التوصل إلى اتفاق حول غزة، والعودة إلى الموضوع المعطل "استئناف البحث في الحل السياسي".

الجولات السابقة من المفاوضات تشير إلى أن المفاوض الإسرائيلي يمارس لعبته المفضلة ويجيدها بجدارة: تمييع المفاوضات والانتقال من نقطة إلى أخرى، وفي كل مرة يطرح نقاطاً جديدة لإغراق المفاوضات بمزيد من التفاصيل، حتى لا يصل إلى اتفاق ويفرض هدنة الأمر الواقع.

توجد مخاوف مشروعة عند كثيرين بأن الصعوبات التي يواجهها الوفد الفلسطيني الموحد والضغوطات التي يتعرض لها ستفرض عليه تقديم تنازلات فيها التخلي عن شروط أساسية. ولكن الوفد سيواجه ثلاث عقبات امام التنازل هي:

الأولى: تشكيلة الوفد الفلسطيني المتنوعة لا تجعله يقدم تنازلات حيث أن كل عضو في الوفد يكون عينا على الآخر، إلا إذا نجحت محاولات تخريب وحدته.

الثانية:  الواقع العسكري الميداني هو في النهاية صاحب القرار.

الثالثة: حجم الخسائر والأضرار من ناحية، والصمود الأسطوري لأبناء القطاع من ناحية ثانية، والمواجهات اليومية على مساحة الوطن (الضفة، القدس، مناطق 48) من ناحية ثالثة،

كل هذه عقبات تضع القيادات الفلسطينية أمام مسؤوليتها وتحت رقابة الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني، ولا يستطيعون تجاهلها.

هذه الحرب من الخليل إلى رام الله وبيت لحم وجنين ونابلس، إلى مخيم شعفاط والقدس، وإلى حيفا ويافا والناصرة وطولكرم وعنوانها الأبرز والأهم والأقوى "غزة"، تضع الفلسطينيين أمام مرحلة جديدة أكدت على الثوابت التي تجري محاولات لتشويهها منذ سنوات، وهي:

- وحدة الشعب الفلسطيني في مختلف مواقعه، لم ولن تنجح محاولات تجزئته ولا أسرلته ولا تهويده. فلسطين بكامل حدودها التاريخية هي أرضه ووطنه وهويته، وسيبقى هذا التلاحم بين الشعب وأرضه هو نبراس العودة والحافز للتحرير.

- المقاومة الفلسطينية تجدد نفسها بأشكالها المختلفة في مواجهة الاغتصاب، تواجه بالمقلاع والحجر والإضراب والمظاهرة والاعتصام والمقاطعة، وعلى رأسها وأرقاها بالكفاح المسلح. كل هذه الأفعال ليست من الخارج هذه المرة، وإنما من الداخل على كامل مساحة الوطن. وهي تطرح بشكل عملي وبالممارسة البدائل للخروج من مأزق المفاوضات التي يستخدمها العدو لكسب المزيد من الوقت لتنفيذ مشروعه في الاستيطان والتهويد والفصل العنصري. وأثبتت المقاومة بأشكالها المختلفة مرة أخرى ومرات أنه لن يستطيع أحد مهما بلغ شأنه ومركزه ان يقرر متى وكيف يتحرك الشعب. لا أحد يستطيع أن يتحكم بلحظة الانفجار الجماهيري للتعبير عن غضبه وفرض إرادته، إلا من كان مع الجماهير يتحسس نبضها ويتفهم مشيئتها ويستجيب لرغباتها.

- الوحدة الميدانية التي أفرزت تشكيل الوفد الفلسطيني الموحد تستوجب إعادة النظر في صيغة العلاقات الفلسطينية، لا يجدر التفرد بالقيادة، ومن غير المفيد؛ بل ومن المضر استمرار هيمنة "الحزب" الواحد، فالثنائية ليست مخرجاً بل هي تقاسم للويلات، والمصالحة بين تنظيمين لسلطتين ليست حلاً.

المطلوب بعد كل الذي جرى البدء فوراً، حتى في ظل الحرب، في حوار شامل يجمع كل الفصائل والقيادات الفلسطينية من غزة إلى الضفة إلى دمشق، لتقييم تجربة المسيرة الفلسطينية منذ انطلاقة ثورتها الأخيرة في منتصف الستينيات حتى اليوم، لتخرج بإستراتجية واضحة متكاملة في مواجهة المشروع الصهيوني واغتصابه لفلسطين.

-----------------------------------------

*صلاح صلاح: لاجئ فلسطيني من قرية غوير ابو شوشة قضاء طبريا، رئيس لجنة اللاجئين في المجلس الوطني الفلسطيني.