قطاع غزة على حافة الجرف: العدوان الإسرائيلي وإستراتيجية التجزئة في المنطقة!

بقلم: م.تيسير محيسن*

لم يعد خافيا على أحد أن ثمة مشروع أمريكي في المنطقة. ودون الخوض في تفاصيل هذا المشروع وأبعاده، نكتفي بالقول أنه إذ يأخذ بالاعتبار أساسا المصالح الإستراتيجية الأمريكية، ومعها مصالح إسرائيل بالضرورة، يأتي هذا المشروع على حساب مصالح شعوب هذه المنطقة، ليس ذلك فحسب؛ بل ويكبدها خسائر هائلة ويقطع الطريق على تطورها الطبيعي لعقود طويلة مستقبلا.

يتكون هذا المشروع من مرحلتين: مرحلة التفكيك وصولا إلى ما سمي "الفوضى الخلاقة"، والمرحلة الثانية تتمثل في إعادة ترتيب أوضاع الإقليم. إن الدينامية التي استخدمتها أمريكا في المرحلة الأولى هي "التحشيد الطائفي" على طريق التفكيك والتجزئة. وبغض النظر عن دور إسرائيل في المرحلة الأولى، فمن الواضح أنها تسابق الزمن من أجل تصفية حساباتها، مستغلة فوضى السياق الإقليمي وانشغال قواه الأساسية في صراع قد يفضي إلى كيانات طائفية ومذهبية أو إلى حرب الكل ضد الكل.

يعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة "الجرف الصامد" (تموز-آب 2014) أحد أبرز تجليات هذا الاستغلال في الدفع قدما نحو "الحل الإقليمي" للمسألة الفلسطينية، وكخطوة على الطريق: تكريس فصل القطاع عن الضفة الغربية، وإقرار مصير كل منهما بصورة منفصلة (وبالتالي قطع الطريق على المصالحة الوطنية وحكومة التوافق)، والضغط على القيادة المصرية الجديدة بهدف انتزاع، على الأقل، موقف مشابه لموقف الرئيس المعزول محمد مرسي في أعقاب حرب "عمود الدفاع" (2012) تجاه قطاع غزة.

في إطار التجزئة والتفكيك التي تمثل جوهر المشروع الاستعماري والامبريالي في المنطقة، انطوى المشروع الصهيوني على أرض فلسطين منذ البداية، من بين أشياء كثيرة، وفي مراحل مختلفة على الاقتلاع اولاً، ومن ثم التشريد (التشتيت)، وأخيراً الفصل. استخدمت إسرائيل حججا وذرائع عدة، ومارست كل السبل، التطهير العرقي، الإبادة، الممارسات العنصرية، الاستيطان والإحلال، فلما أعيتها قدرتها على التخلص ممن بقي من أهل فلسطين على أرض وطنهم؛ ابتدعت إسرائيل وسائل أخرى كالحصار، والإغلاق، والفصل والعزل، وساهمت في تأجيج الخلافات الفلسطينية الداخلية فيما يقابل "التحشيد الطائفي" في بلدان منقسمة على ذاتها طائفياً، أي الاستقطاب الداخلي ببعديه السياسي والأيديولوجي، حتى بات البعض يعرف نفسه على أساس "نحن/هم" في حالة التباس للهوية والانتماء الوطني. والمفارقة أن استخدام "الدين" كان حاضراً في الحالة الفلسطينية. كتب عالم اجتماع إسرائيلي إلى شارون قبيل إعلانه عن خطته "الانسحاب من طرف واحد، أو الفصل أحادي الجانب"، يقول "بن غوريون أخطأ حين لم يطردهم -الفلسطينيين- جميعاً، أما وأنه أخطأ فعلى أحدهم أن يصحح هذا الخطأ. العالم لن يسمح لنا اليوم بطردهم، لذا علينا أن نضعهم في أقفاص، حتى تلوح فرصة مواتية في الإقليم تمكننا من طردهم والتخلص منهم".

يتضح من ذلك أنه لا يمكن تفسير وفهم واقع التجزئة المستمر في الحالة الفلسطينية، كجزء من حالة التجزئة في الإقليم، إلا بفهم أبعاد الفصل الذي تمارسه إسرائيل بوصفه امتدادا لسياسة الاقتلاع والتشريد، وما يقابلها من إحلال واستيطان، وذلك في سياق مشروع التجزئة الأمريكي في المنطقة.

يرى البعض أن "وعد بوش 2004"، وتالياً خطة شارون "الفصل أحادي الجانب"، كانت نقطة البداية في ربط المشروعين معا. بحيث بات كل منهما يصب في طاحونة الآخر!

لا يصعب التكهن بالأهداف الكبرى التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها في إطار "إستراتيجية التجزئة" وإعادة بناء الإقليم بما يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية؛ أولاً تقويض حل الدولتين، وقطع الطريق على حل الدولة الواحدة، ثانياً الفوز بالاعتراف بها بوصفها دولة يهودية، ثالثا إكراه الجوار العربي على القبول بالحل الإقليمي للمسألة الفلسطينية، رابعاً التخلص من مشكلة اللاجئين وإعادة توطينهم في كيانات طائفية قد تتشكل، وبالتالي التخلص من عبء الديموغرافيا الفلسطينية الضاغط على أنفاس إسرائيل، سواء في داخلها أو في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 67.

يمكن إعادة رسم ملامح السياسة الإسرائيلية منذ مجيء شارون إلى الحكم بالتزامن مع وصول المحافظين الجدد إلى سدة الحكم في واشنطن، في خدمة هذه الأهداف كالتالي: أولاً، إعادة احتلال الضفة والشروع في أكبر عملية تهويد بالاستيطان وبناء الجدار وعزل القدس وتطهيرها عرقياً بالمعنى الحرفي للكلمة. ثانياً، فصل غزة والانفصال عنها وتركها معزولة ومخنوقة بأزماتها الإنسانية وتحت طائلة العدوان المتكرر. ثالثاً، سن مجموعة كبيرة من القوانين والتشريعات التي تقلص من إمكانية تحقيق التطلعات السياسية والوطنية لفلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948، وإعادة كي الوعي الفلسطيني عبر ممارسة سياسة الردع واستخدام القوة الهائلة لقمع التطلعات، وإجهاض الفرص وتقليص سقف المطالب وتحويل حياة ملايين الفلسطينيين اليومية إلى جحيم لا يطاق.

لا يمكن فهم العدوان الأخير على غزة، إلا في سياق اللحظة السياسية التي سبقته. لحظة الذهاب إلى الوحدة الوطنية عبر بوابة المصالحة وتشكيل حكومة التوافق، ولحظة اندلاع هبة جماهيرية عارمة، وخصوصا في أوساط فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948، في أعقاب خطف الفتى محمد أبو خضير وتعذيبه وحرقه حيا، ولحظة انتخاب رئيس جديد لمصر عقب سقوط حكم الإخوان المسلمين، وأخيراً لحظة الإعلان عن "دولة الخلافة" وما رافقها من أعمال قتل فظيعة على خلفية طائفية.

لم يكن العدوان الاسرائيلي ردة فعل غاضبة، وإن انطوى على ما يشبه الغضب، وإنما جاء بمثابة الرد الإسرائيلي على ما سبق في سياق متصل ومخطط وهادف لاستغلال كل لحظة تمكن إسرائيل من تحقيق بعض أهدافها التي ذكرناها.

قدرت حكومة إسرائيل أنه ربما في غضون أسبوع بمقدورها أن توقف الدينامية السياسية التي أطلقها الرئيس محمود عباس وخصوصا موضوع المصالحة، وأن تختبر نوايا النظام المصري، وأن تجهض الهبة الجماهيرية وتقطع الطريق على توسعها وتحولها إلى انتفاضة جديدة، في القلب منها أساليب وتكتيكات المقاومة الشعبية وفضح الممارسات العنصرية الإسرائيلية وتعرية سياساتها. غير أن رفض الفلسطينيين، أمام التضحيات الجسيمة، القبول بالتهدئة مقابل التهدئة، ومفاجأة المصريين بالإصرار على وجود وفد فلسطيني يمثل الشرعية الفلسطينية أدى لإرباك حكومة اليمين، مما دفعها لاتخاذ قرار توسيع العدوان على قاعدة "ما لا يأتي بقوة، يأتي بقوة أكبر"، لترتكب مجازر مروعة في الشجاعية وبيت حانون وخزاعة ورفح على التوالي وبنفس الطريقة تقريباً، وبنفس الذرائع والحجج الكاذبة. استخدمت إسرائيل، ربما لأول مرة على هذا النطاق، القصف المدفعي العشوائي، وهدفت من وراء ذلك إلى "اقتلاع وتشريد" ثلث سكان القطاع، وخلقت أرضا محروقة خالية من أي مظهر من مظاهر الحياة على عمق يصل إلى 500م من خط الهدنة.

إذن هذا العدوان لم يكن أكثر من هجوم كاسح، دموي ومروع، على "الذاتية السياسة" الفلسطينية المتشكلة في أعقاب سقوط الرهان على المفاوضات وانعدام مبررات بقاء الانقسام والحاجة إلى إعادة تعريف الشعب الفلسطيني في ظل تحولات الإقليم بما يتجاوز التقسيمات والخصوصيات المحلية. وقوام هذه "الذاتية" المتشوقة للحرية والتواقة للاستقلال والمصممة على استمرار كفاحها الوطني، الوحدة وامتلاك الرؤية والقدرة على الصمود والمقاومة.

تعمدت حكومة إسرائيل أن يكون عدوانها من حيث الأسباب والديناميات والنتائج تقويضاً لهذه الذاتية. وأرادت أن تقطع الطريق على حكومة التوافق الوطني. إسرائيل تصر في مفاوضات القاهرة على ربط عودة السلطة إلى غزة بنزع سلاح المقاومة، ولجأت إلى سياسة الاقتلاع والتشريد، وستحرص على عرقلة عمليات إعادة البناء بكل الوسائل المتاحة أمامها، بدءا بالتحكم في دخول الاسمنت ومرورا بفرض آلية دولية لإعادة الإعمار بمحددات وضوابط إسرائيلية. وقد تلجأ إسرائيل إلى عدم توقيع أي اتفاقية مع أي طرف يلزمها بتحمل جزء من تبعات عدوانها، وتترك القطاع في حالة فوضى عارمة قد تنتهي بحالة اقتتال وفلتان أمني واجتماعي واسعة النطاق. وفي جميع الأحوال، تكرس إسرائيل فصل غزة عن الضفة بما في ذلك عبر التفاوض حول مصير كل منهما بصورة منفصلة وبمرجعيات مختلفة.

ولكن لماذا قطاع غزة؟

نجحت إسرائيل في إيهام العالم أنها انسحبت من قطاع غزة، ضمن ما سمي بخطة الفصل أحادي الجانب (2005). ولكن في الواقع، إن ما قامت به إسرائيل هو إعادة انتشار لقواتها فحسب، فيما بقيت تتحكم في منافذ القطاع ومعابره. وبالتالي أبقت على احتلالها الفعلي، واستطاعت التنصل من التزاماتها بموجب ذلك.

تذرعت إسرائيل بذرائع وهمية لإبقاء سيطرتها وتحكمها وحصارها للقطاع. ذلك أن إسرائيل اعتقدت أنها حلت نصف المعضلة بالتخلص من القطاع (فصله بالكامل)، لكنها أرادت أن تبقى "جزءا من المشهد" لتقرر مصيره بعد ذلك، وهو ما يشكل النصف الآخر من المعضلة.

يرى مراقبون أن نموذج غزة ما بعد 2005 استخدم في إطار إستراتيجية التجزئة على النحو التالي: فصل القطاع عن الضفة وبالتالي تحقيق أحد أهداف الفصل الإستراتيجية، وتعميق حدة الاستقطاب والمحورة في الحالة العربية على أساس الاعتدال والممانعة [ولاحقا على أساس محاور مذهبية وطائفية]، واختبار نوايا وقدرات الإسلاميين في الحكم ومدى رغبتهم بالاندراج ضمن المشروع الإقليمي، وخلق حالة إلهام وتعبئة دينية لدى الشعوب العربية مصدرها غزة! غير أن السبب الرئيس من وجهة نظري هو اعتبار قطاع غزة معضلة حقيقية بالنسبة لإسرائيل منذ لحظة وجودها، بغض النظر عما يحكمه أو الجهة التي تدير شؤونه، في حالات السلم كما في حالات الحرب. 

من متابعة التقارير الإستراتيجية والدراسات السياسية والمقالات الصحفية التي تناولت موضوع قطاع غزة، يمكن استنتاج الخلاصة التالية للموقف الإسرائيلي: نعم، بمقدور إسرائيل أن تحتل غزة في فترة قصيرة وأن تجرد المقاومين من أسلحتهم وتعتقلهم أو حتى تقتلهم. غير أن المشكلة ليست في ذلك، وليست في أعداد القتلى من المدنيين، أو حتى الخوف من غضب المجتمع الدولي؛ بل ان مشكلة إسرائيل تكمن في اليوم التالي للاحتلال، فأين تذهب بغزة؟ فهل تريد إعادة وضع القطاع تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة مرة أخرى وقد انفصلت عنه؟ أم تريده جزءا من دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران؟ أم تترك غزة وشأنها لتنفجر لاحقاً في وجه إسرائيل؟ فإما أن يُلقى بغزة في البحر (أمنية رابين)، وإما أن تدفع إلى الجوار (الحل الإقليمي). وبالرغم من قناعة الكثيرين بأن دفع غزة إلى الجوار لن يحل مشكلة غزة نهائيا، لكنه، كما يقولون، يبقى على أي حال أفضل الحلول لأسرائيل. يقول الصحفي الإسرائيلي المعروف ناحوم بيرنياع "غزةستبقى شوكة في حلق إسرائيل، لاتبتلع ولا تلفظ، لا تموت ولا تحيا".

تكمن معضلة غزة بالنسبة لإسرائيل؛ في ضيق مساحته مع كثافة سكانية هائلة، قلة الموارد والضغط الناجم عن ذلك، انتماء غالبية سكانه إلى اللاجئين الذين يرون بقايا بيوتهم بالعين المجردة ما يؤجج إصرارهم على النضال من أجل العودة، وجود تشكيلات عسكرية مدربة ومجهزة وقادرة، احتمالية أن تتحول غزة إلى رأس حربة مدعومة من دولة إقليمية قوية أو تحالف إقليمي قوي، وقوع قطاع غزة في منطقة تقاطع النيران بين إسرائيل ومصر واعتبار القطاع امتدادا طبيعيا لشبه صحراء سيناء. لهذه الأسباب، مضافا إليها صلابة أهل غزة، وقدرتهم الفائقة على الصمود والتحمل والمقاومة؛ يبقى قطاع غزة معضلة حقيقية، تسعى إسرائيل، مثلما فعلت دوماً، للتخلص منها.

في إطار التعامل مع هذه المعضلة بعد الفصل أحادي الجانب شنت إسرائيل ثلاثة حروب؛ حملت أسماء ذات دلالات دينية وإستراتيجية وأمنية: فمن الرصاص المصبوب إلى عامود الدفاع إلى الجرف الصامد.السمات المشتركة بين الحروب الثلاثة: أنها شنت لذات الأهداف والذرائع المعلنة تقريباً، تزامنت مع أوضاع مصرية مختلفة سياسيا (نظام مبارك، حكم الإخوان المسلمين، القيادة المصرية الجديدة في أعقاب ثروة 30 يونيو)، وأخيراً استهداف المدنيين وكي الوعي (خلق ذاكرة جديدة) على نطاق متدحرج!

اللافت أن إسرائيل رغم كل جبروتها لم تنجح في التخلص من معضلة غزة حتى الآن؛ نعم نجحت في فصل قطاع غزة، وفي خلق وضع إنساني لا يطاق داخله، لكنها لم تنجح بعد في التخلص منه نهائياً. هناك مجموعة أسباب، سأكتفي بذكر أهمها وهو الممانعة المصرية. ترددت إسرائيل في زمن نظام حسني مبارك من التسبب له في الكثير من "الحرج" فاكتفت بضربة "الصعقة" ووضع غزة على الحافة. وفي فترة حكم الإخوان، سارع الرئيس المعزول محمد مرسي في التعامل مع غزة بوصفه "رب البيت" فأشرف شخصيا وفي القصر الرئاسي على توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار، وأرسل رئيس وزراءه لزيارة قطاع غزة مع رفض واضح لحضور الرئيس الفلسطيني. أما في حربها الأخيرة، ردت إسرائيل على الموقف المصري

 الواضح في رفضه للحل الإقليمي، والذي أصر على وجود وفد فلسطيني موحد للتفاوض، بارتكاب مجازر مروعة هدفت إلى الاقتلاع والتشريد، وخصوصاً في رفح المجاورة للحدود المصرية التي اعتبرها مراقبون بمثابة رسالة سافرة للقيادة المصرية. بالطبع، لن يصل الأمر بإسرائيل حد توتير العلاقة بين البلدين، وستكتفي في هذه الآونة بصيغة حل وسط، يجبر مصر بالضرورة على أن تصبح أكثر مسؤولية عما يحدث في القطاع. وهذا ما يدفع بعض المراقبين للاعتقاد أنه آجلا أم عاجلا، سيكون الوضع الملتبس والمعقد في قطاع غزة وتداعياته المحتملة، سبباً رئيساً في التوتير المتدحرج في علاقة البلدين. 

لم ينته العدوان بعد، ولما تضع الحرب أوزارها بانتظار ما يمكن أن تتمخض عنه مفاوضات القاهرة. ترجح معظم الأوساط أنه من غير المحتمل أن يتم توقيع اتفاق على أساس الورقة المصرية الأخيرة. إسرائيل تفضل إما توقيع اتفاق حول التهدئة فقط لفترة زمنية طويلة، وإما وقف علملياتها من طرف واحد وترك القطاع وشأنه يغرق في مأساته الإنسانية وانعدام الأفق السياسي أمامه. فإسرائيل لا تحبذ التفاوض مع الشرعية الفلسطينية على مصير غزة للأسباب التي شرحناها آنفا، وهي تريد أن تبقي زمام المبادرة في يدها، كما لا تريد أن تلتزم رسميا بأي شيء تجاه نتائج عدوانها، وإسرائيل طالما لم تتخلص نهائيا من معضلة غزة المركبة ليست في عجلة من أمرها في إسقاط حكم حماس أو استبداله، الذي يبقي وضع غزة كيانا غير معرف وغير معترف به، ومن المنظور الاستراتيجي، تبقى غزة كيانا معاديا تستهدفه بنيرانها بتوقيت حساباتها السياسية والإستراتيجية في المنطقة. بدورها، فان حماس لا ترغب في توقيع اتفاق لا يلبي الحد الأدنى من تطلعاتها، فتح معبر رفح وتخفيض سقف العداء بينها وبين النظام المصري الجديد، وضمان سيطرتها على قطاع غزة أو شراكتها الحقيقية في إدارته وضمان عدم ملاحقة أعضائها وكوادرها، أو الانتقاص من مكتسباتها على الأرض. حماس ربما ترغب في فتح طاقة أمل جديدة عبر المحور التركي-القطري، بما يضمن بقاءها مرتكزا في إستراتيجية الإخوان المسلمين في المنطقة، وانفتاحها على العالم عبر الممر البحري وتجاوز العقبة المصرية وقطع الطريق على عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة.

في غضون ذلك، يواصل سكان غزة حياتهم الصعبة في ظل انعدام اليقين، والشعور بالقلق، وفي أوضاع إنسانية شديدة التدهور. آلاف الأسر عادت إلى مناطقها فلم تجد سوى الركام (حوالي 150 ألف فلسطيني باتوا بلا مأوى). دمرت البنية التحتية بالكامل؛ الشوارع والطرقات، المرافق العامة والمساجد، شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي. علاوة على تلوث البيئة بمخلفات القذائف والذخائر وتعفن الجثث وتكدس الركام الاسمنتي المسلح، وانتشار الروائح الكريهة. آلاف من المعيلين فقدوا مصدر دخلهم وأسباب رزقهم، من المزارعين وأصحاب المحلات التجارية، ومربي الثروة الحيوانية والصيادين، وعمال المنشآت الصناعية الصغيرة، ناهيك عن عمال الخدمات.

لقد بات من الواضح أن قطاع غزة لم يعد صالحا للحياة الآمنة والكريمة، ما لم تتحقق الشروط التالية: الاستقرار الأمني وتمكين حكومة "التوافق الوطني" من الاضطلاع بوظائفها فوراً، رفع الحصار وفتح المعابر والسماح بدخول المواد اللازمة بما في ذلك المساعدات الإنسانية ومواد البناء، تخصيص موارد هائلة والاتفاق على آليات مرنة وشفافة ومتفق عليها لإعادة إعمار غزة، ونقطة الانطلاق تكمن في تأمين سكن للنازحين، وترميم البنية التحتية الأساسية، وتوفير مصدر رزق بديل. وكل ذلك، يعتمد بالطبع على سيناريوهات اليوم التالي، المحددة بمواقف الأطراف ذات الصلة، وخصوصا إسرائيل ومصر والمجتمع الدولي.

لقد تمكنت إسرائيل عبر عدوانها أن تخلخل أركان "معضلة غزة"؛ أولاً، اقتلعت وشردت نصف مليون، وجعلت من حياتهم جحيما لسنوات طويلة، وهو ما يمس مباشرة البعد الديموغرافي للمعضلة، ثانياً، في النتيجة النهائية، وعلى أرض الواقع، ما حدث في غزة يكرس انفصالها عن الضفة الغربية، أي يحول دون إمكانية تطبيق حل الدولتين، وهو ما نعتبره البعد السياسي للمعضلة، وأخيراً، النتائج والتداعيات بعيدة المدى ستعزز كثيراً من فرص "الحل الإقليمي" بصورة أو بأخرى، وهو ما نطلق عليه البعد الإستراتيجي للمعضلة.

---------------------------------------------

*تيسير محيسن: كاتب سياسي من غزة، عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني، وعضو الهيئة العامة لمركز بديل.