زفاف المقتولين والمولودين في نكبة غزة

بقلم عيسى قراقع*

علت الزغاريد والاغاني خلال حفل زفاف لعروسين في مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة ، التي تأوي مئات النازحين من ويلات الحرب وآلة الموت الإسرائيلي.

زينت ساحة "مدرسة الشاطئ (أ) " في مخيم الشاطئ بالورود والبلالين خلال استقبال العروسين المشردين الذين دمرت بيوتهما وأصبحا بلا مأوى: هبة فياض وعمر ابو النمر، وسط حشد هائل من الناجين من المذابح والجرائم الإسرائيلية. وقد اجترح الفرح وسط الخوف والدخان والحرائق، وتحولت الأناشيد إلى غيوم سقفت السماء، وتراقصت أمام الطيارين الإسرائيليين الذين رأوا بشرا يصعدون ويهبطون كملائكة في البياض.

هي زفة اللاجئين والنازحين في غزة، بلا بطاقات دعوة، بلا فساتين بيضاء وقلادات ذهبية، كل شيء دفنته الحرب تحت الأنقاض، الأحلام والمواعيد والحناء والرسائل المتبادلة ، لا أصدقاء ، لا جيران ولا أولاد ولا عائلة.

المشردون الآن يغنون، هي موسيقى اللاجئين، أطفال يتسلقون جدار المدرسة، حبل طويل تتدلى عليه صور الشهداء، دبكة شعبية، عطش لفرح سابق ولفرح قادم، طائرات في السماء، وأصوات انفجارات وقذائف للمدفعية والبوارج البحرية.

هبة وعمر عريسان  يتألقان في الزفاف، جسدان للحياة الآن، وجسدان للموت بعد الآن، لا شيء نخسره غير هذا البؤس وهذه الخيمة، فالزفاف واحد: إما إلى الحياة وإما إلى الممات، وكلاهما زفاف معطر بالدم والحناء.

والآن ايضا يحتفل الناس داخل مستشفيات قطاع غزة بولادة أكثر من خمسة آلاف مولود جديد ولدوا خلال ثلاثين يوما من الحرب الدامية، وقد تخطى المواليد في الحرب أعداد الشهداء، فكلما كان يرسل شهيد إلى ثلاجة الموتى، كان هناك مخاض لأكثر من ولادة، الحياة تسبق الموت في غزة، والحياة تتحدى الإبادة.

تتبادل الأرواح  في غزة وتتآلف، الأحياء ينوبون في الحياة عن الأموات، كأن غزة أنثى ظلت مشغولة خلال الحرب بتجديد صباها، أنثى تدفن أبناءها وتنجبهم في نفس اللحظة، تتحرك من مقبرة إلى مخاض إلى زفة، تنتشل جثة من حي الشجاعية ورفح وأخرى من خزاعة، تراها في البحر وفي النفق وفي المسجد وفي السوق، تراها قطرة حليب لطفل يولد في وجه الدبابة تحت جذع نخلة.

الحرب على غزة  هي حرب على الحياة، لهذا كانت نسبة الشهداء من المدنيين تزيد عن 86%، وقد أراد الإسرائيليون أن تنتكب غزة، أن تدخل جهنم والكارثة ولا تعود، أن تتوه عن الطريق والبيت والبرهان، أن تفقد اسمها وكوشانها كما فقدت عائلاتها وأحلامها، أن تتحول إلى مخيم فوق مخيم، ومقبرة فوق مقبرة، أن تبقى هامشا في لغة الشفقة الدولية ومسؤولي صناديق المساعدات، ولم يدرك الإسرائيليون؛ إلا متأخرا أن غزة لا تنصاع لأحد، تبدل روحها، وتحل في أجساد أكثر امتلاءً بالنار والماء.

زفاف المقتولين والمولودين في غزة، نراه في أكثر من 90 مركز إيواء تابع للأمم المتحدة، بعد تدمير إسرائيل لأكثر من 50 ألف منزل، وتشريد أكثر من نصف مليون شخص بما نسبته ربع سكان غزة، جثث تشرئب وتتقطع، تندس في جوف شجرة برتقال، تلتصق الجثث ببعضها، تصير اثنين... ثلاثة ... ألف... ألفين، تعتصر الدم فتسخن الأرحام، هناك صوت بين موت وموت، هناك ضوء وبسمة بين ولادة وولادة.

في زفاف المقتولين والمولودين رأيت غزة يلبسها الشهداء ويرتفعون بها أعلى وأعلى، وحيا وحيا، يعودون بها خضراء خضراء، لا تعتذر ولا تنسى، تلملم لحمها حرفا حرفا، تركب الأسماء وتنطق، قوس قزح يمتد من حيفا إلى غزة.

 

المقتولون والمولودون جاءوا من كل مكان، من قحف الذاكرة، من مخيم الشاطئ والبريج ومن مخيم دير البلح، من مخيم جباليا ومخيم خانيونس، ومن مخيم المغازي، من مخيم النصيرات ومخيم رفح، فتحوا مقابرهم وذكرياتهم، لملموا أعضاء أجسادهم، خرجوا من جروحهم ومن لهيب أرواحهم، أضاءوا واشتعلوا واحتفلوا.

 

سكان غزة الذين أكثر من نصفهم لاجئون، وصلوا قراهم المهجرة، وصلوا شهداء أو أحياء، اطلوا بدمهم على بيوتهم وآبارهم، على حقول البساتين التي جرفتها مستوطنة، وصلوا عبر البحر او النفق وصلوا شظايا تطايرت من اجساد دافئة!

مشردون جاءوا إلى مدرسة الوكالة من كل صوب، واحتفلوا بعيد الموت والولادة، وصعود العذراء إلى السماء في القدس، وتحت راية الأمم المتحدة التي قصفتها الطائرات الإسرائيلية، رفعوا أرواحهم على سارية من فرح وأغانٍ ورياح، وارتفعوا أكثر، كما ارتفع قرار الدولة والحرية والاستقلال والعودة... واحتفلوا.

كان دمهم هو الذي يحتفل، أجسادهم الممزقة، أياديهم المبتورة، جروحهم العميقة، ذكرياتهم المتجددة فوق الصفيح والقنابل والفقر واليأس، حملوا صوت عائلاتهم التي أبيدت في كل الحروب والمجازر والنكبات، بشر في مراكز الإيواء جاءوا من بئر السبع والمجدل ويافا وحيفا واللد واللطرون والدوايمة والجورة وعكا ودير ياسين، وغيرها من القرى التي احتلت 1948، واحتفلوا.

النازحون يحتفلون بزفاف الموت والولادة في غزة، وتوزع التمور والقهوة المرة في الضفة، وقد شاهد جنرالات الحرب في تل أبيب، شعبا لاجئا ومعذبا يغني للنصر لا يعرف الهزيمة، يرفعون نعوشهم على أكتافهم كما البنادق، بينما هم انشغلوا في البحث عن صور نصر يائس في رواية جندي أو في خطاب سياسي مضلل، اشتبكوا مع العالم الذي لم يرهم سوى قتلة في كل المشاهد.

غزة ليست قطعة زائدة في الكون كما اعتقد الإسرائيليون، لا آيات ولا كتاب ولا جامع ولا كنيسة لها على اليابسة، اللاجئون الآن يحملون قتلاهم ومفاتيحهم ويعودون في الصوت والضوء والرمل والحقيقة، ويهرب المستوطنون تاركين ما نهبوه من بيت ومزرعة وسقيفة.

في زفاف الموت والولادة في مدرسة الشاطئ في غزة، يولد الحب واليقين والأمل، كما يولد طفل في سرير طفل آخر، يشرب حليبه، يأكل من تينه وتوتة ويواصل عمره بدلا منه، يواصل السير إلى غده بين قذيفة وقذيفة.

العريسان هبة وعمر يتزوجان ويزفان وسط الحرب والدمار والحطام، وآلاف المواليد الجدد تخرج للشوارع تحمل أسماء من رحلوا، ملا بسهم، دفاترهم، خطواتهم، آثارهم، يفتحون بوابة الشمس واسعة على بيوتهم القريبة هنا، والبعيدة القريبة هناك.

عريسان يتدربان على العودة إلى مكان أنقذه الشهداء من غزو النسيان، القرى المدفونة تحت الأرض ترسل ذكرياتها إلى القرى الناجية، أعشاب تنبت من ماضيهم، أحلام تطير على حصان.

في زفاف هبة وعمر وسط الحرب في غزة سمعت الشاعر الفلسطيني سميح القاسم يغني:

يا أهلي الطيبين

انا... هذا الجنين

جئت باسمي، وجاء

فالرجاءَ الرجاء

اكتبوه على حجر من بلادي اكتبوه

واقذفوه

في ظلام السنين

جئت باسم الوليد الجديد

جئت

باسم الشهيد

------------------------------

عيسى قراقع، كاتب فلسطيني، رئيس هيئة الاسرى والمحررين الفلسطينيين، عضو الجمعية العامة لمركز بديل.